تربية النفس في رمضان

ناصر محمد الأحمد
1438/09/04 - 2017/05/30 01:24AM
تربية النفس في رمضان
7/9/1438ه
د. ناصر بن محمد الأحمد

الخطبة الأولى :
إن الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: لا شك في أن شهر رمضان مَعلَم مهمّ في تربية النفس، ففيه من العبادات والأعمال الصالحة ما يجعل النفوس تنقاد إلى رب العالمين، فتزكو النفوس، وتتطهر القلوب، وتعيش الأرواح أجواء إيمانية مفعمة بالبركات والرحمات. ورغم الدور التربوي لشهر رمضان، إلا أن هناك ما يُضعف تأثير الصيام والأعمال الطيبة عند كثير من الناس، فلا يستفيدون من رمضان، فيخرجون منه كما دخلوا فيه، وفي أحيان كثيرة تكون المعاصي مؤجّلة فقط لما بعد الشهر، فلم يتركوها ويبغضوها ويتوبوا إلى الله منها، بل هي فقط مؤجّلة لما بعد رمضان، والسبب الرئيس في هذا هو إلف العادة!.
إن من أعظم آفات العبادات: آفة الإلف والعادة، فعندما يعتاد المرء العبادات وتصبح جزءاً من برنامجه اليومي كالصلاة، والأسبوعي كالجمعة، والسنوي كرمضان والحج، تتحوّل هذه العبادات إلى مجرد أفعال وأقوال متكررة لا تُضيف جديداً إلى حياة الفرد.
وإن مَن يدقق النظر في ركن الدين الأعظم بعد توحيد الله تعالى وهو الصلاة، التي وصفها الله سبحانه بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر فقال سبحانه: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ تَنْهَى عَنِ الفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَر) (العنكبوت : 45)، يجد أنها تحوّلت إلى عادة من العادات عند كثير منا، فأصبحت لا تنهى عن الفحشاء ولا المنكر! بل صارت أشبه بجهاز تسجيل، يكبر المسلم ليدخل صلاته، فيكرر لسانه المحفوظات التي اعتادها بلا تفكير منه فيما يقرأ ولا تدبّر لأذكارها، ويخرج منها كما دخل، فلا خشوع ولا خضوع ولا قُرْب، إلا من رَحِمَ الله تعالى.
وكذا في صيام رمضان، فالملاحظ أننا في كل سنة نستقبل شهر رمضان ثم نودعه، نسمع قبله بقليل عن فضل هذا الشهر وأهميته ومكانته، وما يجب علينا من اغتنامه، حتى حفظ الناس أحاديثه وآياته، فلم يتدبروها ويفكروا فيها، ثم بعد رحيله نسمع كذلك بعض المواعظ في وداعه والحزن على فراقه، حتى أصبح ذلك الأمر عادة تعودناها وقضية ألفناها، عبر أحداث رتيبة تتكرر علينا في السنة وفي الشهر وفي الأسبوع وفي اليوم. ولئن كان الاعتياد على كثير من شؤون حياتنا الدنيوية مقبولاً، فإن من غير المقبول أن ينسحب ذلك على عباداتنا التي نتقرب بها إلى الله سبحانه.
لذلك ينبغي لنا أن نتذكر جيداً أن من آفات العبادات الخطيرة العظيمة أن تتحول العبادة إلى عادة، يؤديها الواحد منا دون أن تترك أثراً في نفسه أو سلوكه.
أيها المسلمون: قبل عام ودّعنا شهر رمضان، ثم ها هو يقبل الآن، وربما لم يشعر كثير منا بقيمة الزمن الذي طُويت فيه الأيام والشهور، وأننا مسافرون إلى الله، ولكل عبد نهاية ولا بد، قال الله تعالى: (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى) (النجم : 42). وإن مما يجب على العبد المسلم أن يبحث عن الزاد الذي يقرّبه إلى الله تعالى، حيث إن الطريق موحش وطويل، ولا بد فيه من زاد، وقد جعل الله تعالى شهر رمضان لتطهير القلوب من الخطايا والعيوب وغفران الذنوب، فهل استقبلنا رمضان بتوبة تغسل عنا الذنوب؟! ومن ثم يُزال الران من القلوب فنحسن اغتنام أيامه، لنخرج من رمضان بلا ذنوب، وما أدرانا فقد يكون رمضان الأخير في حياتنا. فاغسل ذنوبك قبل مماتك.
ومع الأسف، فإن من الناس من يستقبل الشهر بعدم اهتمام وعدم اكتراث، كأنه شهر من الشهور، وقد أخطأ من لا يفرق بين رمضان وغير رمضان، وأن يجعل يوم صومه كيوم فطره. وهناك من يعرف للشهر فضله ومكانته، لكنه لا يستقبله بتوبة نصوح، وعزم أكيد على الاستقامة في أيامه ولياليه، بل يستقبله بفتور وعدم جدية وقلة نشاط.
وهذه بعض المعالم التربوية لشهر رمضان، أضعها بين يديك أخي المسلم، عسى أن ننتفع بها جميعاً:
أولاً: تربية النفس على التقوى: تدريب النفس على تحقيق التقوى والخوف من الله سبحانه وتجنب مساخطه والالتزام بطاعته، من أسمى أهداف فريضة الصيام، قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون) (البقرة : 183).
ثانياً: تربية النفس على التوبة: عبر عام طويل يحمل العبد على ظهره العديد من الذنوب والمعاصي ويقع في مخالفات كثيرة، والذنوب تميت القلوب، وغبارها يزكم الأنوف، وإذا اعتاد العبد الذنب استسهله وخاض في غماره، فيظلم قلبه، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ العَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ وَتَابَ سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ، وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ" (كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُون) (المطففين : 14) رواه الترمذي.
وسواد القلب عياذاً بالله ينعكس على الجوارح، فتَسيء الأفعال، وتَرتكب القبائح، فتجد اليد تتحرك في ظلمة، والرجل تخطو في الظلمات، والعين تنظر في الظلمات، وهكذا يتحرك كبهيمة عمياء إذا كان القلب قد اسود من المعاصي. ولذلك كان تحصيل المغفرة من أهم معالم تربية النفس في رمضان، فمن خرج من رمضان غير مغفور الذنب فالوعيد في حقه شديد، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "رَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ ذُكِرْتُ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيَّ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ دَخَلَ عَلَيْهِ رَمَضَانُ ثُمَّ انْسَلَخَ قَبْلَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ، وَرَغِمَ أَنْفُ رَجُلٍ أَدْرَكَ عِنْدَهُ أَبَوَاهُ الكِبَرَ فَلَمْ يُدْخِلَاهُ الجَنَّةَ" رواه الترمذي.
إن رمضان فرصة نادرة ثمينة فيها الرحمة والمغفرة، ودواعيها متيسّرة، والأعوان عليها كثيرون، وعوامل الفساد محدودة، ومردة الشياطين مصفَّدون، ولله عتقاء في كل ليلة، وأبواب الجنة مفتّحة، وأبواب النيران مغلّقة، فمن لم تنله الرحمة مع كل ذلك فمتى تناله إذن؟! وإذا لم يُغفر له في رمضان فمتى يُغفر لمن لا يُغفر له في هذا الشهر؟! ومتى يُقبل من رُدّ في ليلة القدر؟! ومتى يصلح مَن لا يصلح في رمضان؟ ومتى يصلح من كان فيه من داء الجهالة والغفلة مرضان؟ مَن فرط في الزرع في وقت البدار لم يحصد يوم الحصاد غير الندم والخسارة.
وحصول العبد على مغفرة الله سبحانه في رمضان ميسرة، متعددة الطرق والوسائل، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ صَامَ رَمَضَانَ، إِيمَاناً وَاحْتِسَاباً، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ" أخرجه البخاري ومسلم.
ثالثاً: تربية النفس على العفو والصفح: من الأمور التربوية التي يجب أن يخرج بها العبد من رمضان، أن يبتعد عن أذى الناس، ويسلم المسلمون من لسانه ويده، فلا ينبغي للعبد أن يصوم رمضان وهو واقع في الغيبة والنميمة والسبّ والشتم والكذب، وهي معاصٍ يجب الحذر منها واجتنابها من الصائم وغيره، إذ إنها تجرح الصوم وتُضعف الأجر، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: "من لم يدع قول الزور والعمل به والجهل، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه" رواه البخاري. ولقوله صلى الله عليه وسلم: "الصيام جُنّة، فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله فليقل: إني صائم" رواه البخاري ومسلم. فالصوم ليس مجرد الإمساك عن الطعام والشراب والجِماع من الفجر حتى غروب الشمس، كلا، فهناك حِكَم وأسرار هذا بعضها، لكننا نرى كثيراً من الناس تصوم بطنه ولا تصوم جوارحه، فيصوم عن الحلال المباح، ويتناول ما حرم الله من المنكرات كقول الزور وفعل الزور، فلا يتورع بلسانه عما حرم الله، ولا يغض بصره كذلك عن المحرمات، ويقع بيده ورجله في المحرمات، بل ربما يفطر عند إفطاره على كسب محرم. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وإن مما يَستجلب العبد عفو الله عنه بعفوه عن الناس، ولين الجانب معهم، وخفض الجناح لهم، فعن عَائِشَةَ أَنَّهَا قَالَتْ: يَا رَسُولَ اللهِ أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟ قَالَ: تَقُولِينَ: "اللهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي" رواه الترمذي.

بارك الله ..


الخطبة الثانية :
الحمد لله ..
أما بعد: أيها المسلمون: رابعاً: من المعالم التربوية في شهر رمضان: تربية النفس على الشعور بوحدة الأمة: وأنت تصوم هذا العام وتفطر على ما رزقك الله من خيره وفضله، تذكّر إخوانك المبتلين في كل مكان، في أرض الشام وفلسطين وبورما وغيرها، فاستشعر معاناتهم وآلامهم، وابذل لهم من مالك ودعائك ما تستطيع، واحمد ربك على نعمة العافية، فإن من الأمور التربوية في رمضان الشعور بوحدة الأمة وجماعية الطاعة، فلو أن الله تبارك وتعالى كلّف كل واحد منا بصيام 30 يوماً وحده، وقيام 30 ليلة منفرداً عمن حوله، لوجد صعوبة كبيرة، وكان هذا العمل فيه مشقة عظيمة، لكن من رحمة الله تبارك وتعالى بالأمة أن جعل الطاعة جماعية، ففي رمضان يصير الغالب على المجتمع حرصه على الصيام مع أعمال الطاعة والخير والبر، فالمساجد تمتلئ، وأعمال البر والصدقات يتسابق فيها المتسابقون، والأخلاق السمحة تفرض نفسها، والكل يقرأ القرآن ويجلسون في المساجد، وما ذلك إلا بما أودعه الله في هذا الشهر من بركات، وتيسيره للناس سبل الخير عن غيره من الشهور.
إن أبواب الأجر في الإسلام كثيرة، وإن أسباب اكتساب الحسنات متعددة، وفي شهر رمضان تتضاعف أجور الأعمال الصالحة، فضلاً من الله عز وجل على عباده، وينادي مناد في أول ليلة من رمضان فيقول: "يا باغي الخير أقبل، ويا باغي الشر أقصر" رواه الترمذي.
إن الأيام صحائف الأعمار، والسعيد من يخلّدها بأحسن الأعمال، وراحة النفس في قلة الآثام، ومن عرف ربه اشتغل به عن هوى نفسه، وفي هذا الشهر المبارك المنـزل فيه القرآن العظيم المتعدد فيه طلب أنواع المغفرة من التوسع في المعروف والبذل والدعاء وتفريج الكربات والإكثار من العبادات، إلاّ أن بعض الناس أرخص لياليه، وأرهق فيها بصره مع الفضائيات والجوالات، يعيش معها في أوهام، ويسرح فكره حولها في خيال، ويتطلع لها لعل فيها سعادة السراب، فإذا انقضى شهر الصيام لا لمال فيه جمع، ولا للآخرة ارتفع، ربح الناس وهو الخاسر.
خامساً: تربية النفس على الاستيقاظ بالأسحار: الليل واحة المتّقين، تجتمع فيه شتات الهموم، وتصفو النفوس، ويتوجه العبد للقاء الحي القيوم، والسَّحَر وقت شريف، يقترب الله جل وعلا من عباده، لعلهم يتوبون إليه أو يناجونه ويُنـزِلون حاجتهم به، لكن كثيراً من المسلمين طوال العام يكونون نائمين في هذا الوقت الشريف، فإذا جاء رمضان قاموا إلى السحور فذكروا ربهم وصلوا ركعتين في جوف الليل ودعوا ربهم واستغفروه.
وما أروع ليل رمضان، يتقلب العُبَّاد بين أنوار الساعات المباركة في ساعات رمضان، فتهتز قلوبهم من روعة المشهد ولذة الإيمان، فتنساب الدموع.
أيها المقبل على ربه! ما أحوجك في رمضان إلى توبة صادقة ودمعة صادقة تغسل عنك أدران الذنوب، تكون عنوان ضراعتك لمولاك، وبرهان خوف ورجاء ومحبة للرحمن، علها تكون طوق النجاة.
إن السعيد من اغتنم مواسم الشهور والأيام والساعات، وتقرب فيها إلى مولاه بما فيها من وظائف الطاعات، فعسى أن تصيبه نفحة من تلك النفحات، فيسعد بها سعادة من يأمن بعدها النار وما فيها من اللفحات.
فإياكم والغفلة، وإياكم والتكاسل عن فعل الطاعات والخيرات في هذا الشهر المبارك، فإن الغفلة ضيعت عمرَ كثير من الناس، واستهلكت لياليهم وأيامهم، وحين ينـزل الموت بساحة أحدهم يستذكر ما فرط فيه.
وختاماً.. فقد أظلتنا أيام غالية، ستمر كما مرَّ ما قبلها، لكن هل ربحت تجارتك فيها أم خسرت؟ هل ازددت قرباً من ربك أم زدت عنه بُعداً؟ هل آواك ربك ونصرك وسددك وأعانك، أم تجد الأخرى من ضنك الحياة؟.
إن الغفلة عن هذه الأيام وتضييعها ليس من سمات الصالحين، وإنما الصالحون يهتفون دائماً: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى) (طه : 84) قولاً وعملاً واعتقاداً، فرضاً ونفلاً وإحساناً.
اللهم مُنَّ علينا بأعمال صالحة في رمضان وتقبلها منّا، واملأ نفوسنا ثقة بك، ومحبة لك، وطمأنينة بذكرك، وأعنّا اللهم على ذكرك وشكرك وحُسن عبادتك.
المشاهدات 2437 | التعليقات 0