تراتيل 1442/9/9هـ

يوسف العوض
1442/09/09 - 2021/04/21 10:40AM

الخطبة الأولى

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : اِرْتَبَط شَهْرُ رَمَضَانَ بأجواءِ الْإِيمَان وَالْعِبَادَة والروحانيات ، لَكِن بِجَانِبِ ذَلِكَ فَقَدْ جَرَتْ خِلَاله إحْدَاثٌ وَوَقَائِع ، وَشَهِدَت أَيَّامه انتصارات عَظِيمَةٌ ، وفتوحات مُهِمَّةٌ جَرَتْ فِي رَمَضَانَ عَبْرَ التَّارِيخِ ، وَمِنْ حِكَمِةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ فَاضَلَ بَيْنَ خَلْقِهِ زماناً ومكاناً ، فَفَضَل بَعْضَ الْأَمْكِنَةِ عَلَى بَعْضٍ ، وَبَعْضَ الْأَزْمِنَةِ عَلَى بَعْضٍ ، فَفَضَل فِي الْأَزْمِنَةِ شَهْرَ رَمَضَانَ عَلَى سَائِرِ الشُّهُورِ ، واخْتَصَّه بِفَضَائِل وَمَزايا كَبِيرَة . ولعلَّ أَهَمّ حَدَثَ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي هَذَا الشَّهْرِ أَنْ أَنْزِلَ اللَّهُ فِيهِ الْقُرْآنُ ، قَالَ تَعَالَى : (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ . . . . ) ، وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « أُنْزِلَت صُحُفُ إبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ رَمَضَانَ ، وَأُنْزِلَت التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ رَمَضَانَ ، وَالْإِنْجِيلُ لِثَلاثَ عَشْرَةَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ ، وَأُنْزَل الْفُرْقَانُ لأَرْبَعٍ وَعِشْرِينَ خَلَتْ مِنْ رَمَضَانَ ، قَالَ الْإِمَامُ ابْنُ كَثِيرٍ ، يَمْدَح اللَّهُ تَعَالَى شَهْرَ الصِّيَامِ مِنْ بَيْنِ سَائِرِ الشُّهُورِ بِأَن اخْتَارَهُ مِنْ بَيْنَهُنّ لِإِنْزَال الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَكَمَا اِخْتَصَّهُ بِذلِكَ قَدْ وَرَدَ الْحَدِيثُ بِأَنَّهُ الشَّهْرُ الَّذِي كَانَتْ الْكُتُبُ الْإِلَهِيَّةُ تُنزِّلُ فِيهِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ ، وَكَان إنْزَالُ الْقُرْآنِ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي لَيْلَةٍ الْقَدْرِ مِنْهُ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) ، وَقَالَ سُبْحَانَهُ : (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ . . . ) ، ثُمَّ نَزَلَ بَعْدَه مُفَرَّقًا بِحَسَبِ الْوَقَائِعِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ ، وَكَان جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَأْتِي إلَى النَّبِيِّ ، فَيُدَارِسُهُ الْقُرْآنَ كُلَّ لَيْلَةٍ فِي رَمَضَانَ ، وَكَان يُعَارِضُهُ الْقُرْآنَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً ، وَفِي الْعَامِ الَّذِي تُوُفِّيَ فِيهِ رَسُولُ اللَّهِ عَارَضَه جِبْرِيلُ الْقُرْآنَ مَرَّتَيْن .

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : الْإِكْثَارُ مِنْ تَراتيلِ القُرآنِ وتِلَاوَاتِ كِتَابِه مِنْ أَفْضَلِ الْعِبَادَاتِ الَّتِي يَتَقَرَّبُ بِهَا الْعَبْدُ إلَى رَبِّهِ ، قَالَ تَعَالَى : { إنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَأَنفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلاَنِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ } فدَعَوْنَا نَعيش مَعَ أَحَادِيثِ الْمُصْطَفَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الّتِي تُبَيِّنُ هَذَا الْفَضْل حَتَّى نستشعر مَا يَنَالُهُ قَارِئُ الْقُرْآنِ مِنْ رحمات وبركات وفتوحات ، أَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ _وحسَّنه_وابن خُزَيْمَةَ فِي صَحِيحِهِ ، وَالْحَاكِم _وقال صَحِيحٌ الإسناد_عن أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( يَجِيء صَاحِبُ الْقُرْآنِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، فَيَقُول الْقُرْآن : يَا ربّ حَلَّه ، فَيُلَبِّس تَاج الْكَرَامَة ، ثُمَّ يَقُولُ : يَا رَبِّ زده ، فَيُلَبِّس حُلَّةَ الْكَرَامَةِ ، ثَمَّ يَا رَبِّ أَرْض عَنْه ، فَيُقَالُ لَهُ : اقْرَأ وَأَرَقّ ، وَيَزْدَاد بِكُلِّ آيَةٍ حَسَنَة ) ، وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ _وصححه_وأبو دَاوُد وَابْنُ مَاجَهْ وَابْنُ حَيَّانَ فِي صَحِيحِهِ ، والحاكم_وقال صَحِيحٌ الإسناد_عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :( يُقَالُ لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ اقْرَأ وَأَرَقّ ، وَرَتِّلْ كَمَا كُنْت تُرَتِّلُ فِي الدُّنْيَا ، فَإِن مَنْزِلِك عِنْدَ آخَرَ آيَةِ تَقْرَؤُهَا ) ، قَالَ الْخَطَّابِيُّ : جَاءَ فِي الْأَثَرِ أَنَّ عَدَدَ أَيْ الْقُرْآنِ عَلَى قَدْرِ دَرَجِ الْجَنّةِ ، فَيُقَال للقارىء : أَرَقّ فِي الدَّرْجِ عَلَى قَدْرِ مَا كُنْت تَقْرَأُ مِنْ أَيِّ الْقُرْآنِ ، فَمَن اسْتَوْفَى قِرَاءَةَ جَمِيعِ الْقُرْآنِ اسْتَوْلَى عَلَى أَقْصَى دَرَجِ الْجَنّةِ فِي الْآخِرَةِ ، وَمَنْ قَرَأَ جزأً مِنْهُ كَانَ رُقْيَه فِي الدَّرج عَلَى قَدْرِ ذَلِكَ ، فَيَكُونُ مُنْتَهَى الثَّوَابِ عِنْدَ مُنْتَهَى الْقِرَاءَة ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ فِي الْمُعْجَمِ الْوَسِيط وَالصَّغِيرِ بِإِسْنَادٍ لَا بَأْسَ بِهِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( ثَلَاثَةٌ لَا يَهُولُهُمْ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ ، وَلَا يَنَالُهُمْ الْحِسَابُ ، وَهُمْ عَلَى كَثِيبٍ مِنْ مِسْكٍ حَتَّى يَفْرُغَ مِنْ حِسَابِ الْخَلَائِقِ : رَجُلٌ قَرَأَ الْقُرْآنَ ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ، وأمَّ بِه قوماً وَهُمْ بِهِ رَاضُونَ ، وَدَاعٍ يُدْعَوْا إلَى الصَّلَوَات ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ ، وَعَبْد أَحْسَنَ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ رَبِّهِ ، وَفِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَوَالِيه ) ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَقَالَ : صَحِيحُ الْإِسْنَادِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : ( مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ اِسْتَدْرَج النُّبُوَّةِ بَيْنَ جَنْبَيْهِ غَيْرَ أَنَّهُ لَا يُوحَي إِلَيْهِ ، لَا يَنْبَغِي لِصَاحِبِ الْقُرْآنِ أَنْ يَجِدَ مَعَ مَنْ وَجَدَ ، وَلا يَجْهَلُ مَعَ مَنْ جَهِلَ وَفِي جَوْفِه كَلَامُ اللَّهِ ) وَقَوْلُه ( لَا يَجِدُ مَعَ مَنْ وَجَدَ ) : أَيْ لَا يَغْضَبُ مَعَ مَنْ غَضَبِ ( وَلا يَجْهَلُ مَعَ مَنْ جَهِلَ ) أَيْ لَا يَفْسُقُ مَعَ مَنْ فِسْقِ فَعَلَيْه التَّخَلُّق بِأَخْلَاقِ الصَّالِحِين الْكُمَّل ، الْوَارِثِين عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ :( أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ مَأْدُبَةُ اللَّهِ فَاقْبَلُوا مَأْدُبَتَهُ مَا اسْتَطَعْتُمْ ، أَنَّ هَذَا الْقُرْآنَ حَبْلُ اللَّهِ ، وَالنُّورُ الْمُبِينُ ، وَالشِّفَاءُ النَّافِعُ ، عِصْمَةٌ لِمَنْ تَمَسَّكَ بِهِ ، وَنَجَاةٌ لِمَنْ اتَّبَعَهُ ، وَلَا يَزِيغُ فَيُستَعتب ، وَلَا يَعوج فَيُقَوَّم ، وَلَا تَنْقَضِي عَجَائِبُهُ ، وَلَا يَخلَق مِنْ كَثْرَةِ الردّ ، أَتْلُوه فَإِنَّ اللَّهَ يَأْجُرَكُم عَلَى تِلاوَتِهِ كُلُّ حَرْفٍ عَشْرُ حَسَنَاتٍ ، أمَا إنِّي لَا أَقُولُ أَلَم حَرْف وَلَكِن : أَلِفٌ حَرْفٌ ، وَلَامٌ حَرْفٌ ، وَمِيمٌ حَرْفٌ ) ، وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ ، عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ( إنَّ لِلَّهِ أَهْلَيْن مِنْ النَّاسِ ) ، قَالُوا : مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَال : ( أَهْلُ الْقُرْآنِ هُمْ أَهْلُ اللَّهِ وَخَاصَّتُهُ )  فَيَكْفِي لتالي الْقُرْآنِ وحافظه وَ الْمُعْتَنِي فِيه شرفاً أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ اللَّهِ وَحِزْبِه فَيَكُونُون فيِ كَنَفِهِ وَنَصَرَه وَرِعَايَتِه .

 

الخطبة الثانية

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: أخيراً يَا أَيُّهَا الْآبَاء وَيَا أَيُّهَا الْأُمَّهَات وَيَا أَيُّهَا المربون ، اسْتَوْصُوا بالأجيال خيراً ، نشئوها عَلَى حُبِّ كِتَاب رَبِّهَا ، علموها الْعَيْشَ فِي رِحَابِهِ ، وَالِاغْتِرَافَ مِن مُعَينه الَّذِي لَا يَنْضب ، فَالْخَيْرُ كُلُّ الْخَيْرَ فِيهِ ، وَتَعَاهَدُوا مَا أُودِعَ اللَّهُ بَيْنَ أَيْدِيكُمْ مِنْ الْأَمَانَاتِ ، بِتَرْبِيَتِهَا تَرْبِيَةً قُرْآنِيَّة ، كَي تسعدوا فِي الدُّنْيَا قَبْلَ الْآخِرَةِ ، فَمَا هَانَت أُمَّةُ الإسْلامِ إلَّا بهجرها لِكِتَاب رَبِّهَا وَبَعْدِهَا عَنْه ، اللَّهُمَّ اجْعَلْ الْقُرْآنَ رَبِيع قُلُوبِنَا ، وَنَوَّر صُدُورَنَا ، وحببنا وأَبْنَاءَنَا تِلَاوَتَه وَحِفْظَه وَالتَّمَسُّكَ بِهِ ، وَاجْعَلْه نوراً عَلَى دَرْب حَيَاتِنا ، آمِين .

 

.

المشاهدات 707 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا