تذكير القلوب بأوصاف القلوب

خالد علي أبا الخيل
1436/11/28 - 2015/09/12 16:27PM
تذكير القلوب بأوصاف القلوب
التاريخ: الجمعة: 29/ 10 /1436 هـ

الحمد لله مقلب القلوب، وكاشف الكروب، أحمده سبحانه، نوع صفات القلوب، في القرآن المكتوب.
وأشهد أن لا إله إلا الله، إنما ينظر للقلوب، فهو الدليل لصلاح الأبدان من العيوب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، جعل صلاح الأبدان بصلاح القلوب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، وكل من كان للخير محبوب.
أما بعد،.
فاتقوا الله علام الغيوب، واستجيبوا له تنالوا كل مرغوب، واستعدوا في كل مطلوب.
أيها الإخوة المسلمون: هنيئًا ثم هنيئًا ثم هنيئًا لمن بادر ولاحق، وسارع وسابق، قبل فوات الأوان، وتفرق الأبدان، لا سيما في وقت تدع الفتن الحليم حيران، وتوقظ الفتن النائم والوسنان، فالعبادة في وقت الفتن لها شان، كالهجرة مع ولد عدنان.
أيها الناس: لما كان القلب هو أعظم الحواس، وهو الرائد والأساس، والمصلح للناس، وعليه المعول والإحساس، تنوعت موارده، وتفاوتت أوصافه، وتعددت صفاته، لا سيما في القرآن، فقد نوه به الرحيم الرحمن، وجعله عنوان الفلاح والإيمان، وذكر عشرين وصفًا للقلب في القرآن.
وقبل الدخول في الموضوع لا بد من ذكر قاعدة جامعة في القلوب، وهي أن القلوب أساسها وأصلها ثلاثة: قلوب سليمة، وقلوب ميتة، وقلوب مريضة، قال ابن القيم الجوزية مختصرًا المقالة في الأمور القلبية: القلوب ثلاثة: قلب خال من الإيمان وجميع الخير، فذلك قلب مظلم، قد استراح الشيطان من إلقاء الوساوس إليه؛ لأنه قد اتخذه بيتًا ووطنًا، وتحكم فيه بما يريد، وتمكن منه غاية التمكن.
والثاني: قلب قد استنار بنور الإيمان. وأوقد فيه صاحبه مصباحه، لكن عليه ظلمة الشهوات، وعواصف الأهوية، فللشيطان هناك إقبال وإدبار، ومجالات ومطامع، فالحرب دول وسجال، وتختلف أحوال هذا الصنف بالقلة والكثرة، فمنهم من أوقات غلبته لعدوه أكثر، ومنهم من أوقات غلبة عدوه له أكثر، ومنهم من هو تارة وتارة.
والثالث: قلب محشو بالإيمان. قد استنار بنور الإيمان، وانقشعت عنه حجب الشهوات، وأقلعت عنه تلك الظلمات، فلنوره في قلبه إشراق، ولذلك الإشراق اتقاد، لو دنا منه الوسواس احترق به، فهو كالسماء التي حرست بالنجوم، فلو دنا منها الشيطان يتخطاها رُجم فاحترق، وليست السماء بأعظم حرمة من المؤمن. انتهى كلامه.
يا له من وصف دقيق، ومختصر وتحقيق، إذن هي القلوب: قلب سليم، وقلب ميت لئيم، وهذان قلبان مفترقان، لا يجتمعان ولا يتفقان إلا كما يجتمع الضدان، والثالث: القلب المريض. وهو الذي عليه قلوبنا، فكلما زاد الإيمان جنح القلب للحياة والسلامة، وكلما نقص الإيمان جنح القلب للمرض والعلة والندامة.
فالقلوب المريضة بحسب مرضها وأبدانها، كمرض الأبدان، كلما اشتد وزاد زاد المرض على العباد، وأما القلب السليم فتقدمت خطبة خاصة به: تذكير الحكيم بالقلب السليم، وهو باختصار: القلب السليم الذي سلم من الشرك والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرئاسة، فسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل قاطع يقطعه عن الله، فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي جنة يوم المعاد، ولا تتم سلامته مطلقًا حتى يسلم من خمسة أشياء:
من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجرد والإخلاص.
ويتفرع عن هذا القلب السليم القلب المنيب، للرحيم القريب المجيب، وهو القلب الرجاع إلى الله، المقبل عليه بالطاعة والعبادة، قال جل في علاه: (مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ) (ق: 33)، فهو المقبل الخاشع، التائب الخاضع، والقلب المخبت وهو القلب الخاضع المطمئن، الساكن المتزن، (فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ) (الحج: 54)، فهي خاضعة ذالة، خاشعة ساكنة.
ويدخل في القلب السليم: الخائف الوجل للرب الرحيم. وهو الخائف من الله، المشفق ألا يقبل منه العمل، (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) (المؤمنون: 60)، فيعملون ويعطون، وهم خائفون، ولربهم سابقون وسائرون.
ومن تلك القلوب لعلام الغيوب: القلب التقي. الورع الخفي، وهو القائم بالواجبات، التارك للمحرمات، المعظم لشعائر رب الأرض والسموات، قال سبحانه: (ذَلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ) (الحج: 32)، فمن علامة صحة القلب وتقواه، أنه طائع لمولاه، معظم للكتاب والسنة، فلها في القلب منزلة وعظمة.
ومنها: القلب المهدي. الراضي المرضي، ذلك قلب رضي بقضاء الله، مطمئن بما قدر الله، فيستقبل المصائب بقلب مطمئن رحب شاكر ساكن صابر، (وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ) (التغابن: 11).
والقلب السادس: القلب المطمئن. اطمأن بتوحيد الله وذكره وعبادة ربه، اطمأن في حياته وأسرته، اطمأن في جميع أحواله، بعيدًا عن التردد والارتياب، والقلق والخوف والاكتئاب، (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28)، فلا راحة ولا قرار ولا سكون لهذا القلب إلا برضى الرب.
والقلب السابع الحي الخاشع: قلب يعقل ويسمع. يطبق ما أُمر وينفع، استمع الكلام فوعى، وتعقل بقلبه ولبه وهوى، (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) (ق: 37)، فهذا القلب تدبر وتفهم، وعمل وأدرك، فهذه القلوب الصحيحة، والأفئدة المستقيمة، متصلة بالسلامة والإنابة، والإخبات والوجل والهداية، والتقوى والاطمئنان، والحياة وراحة الإنسان، فكل مقام من هذه المقامات، فللقلب الحي عطاء وهبات، وهنيئًا لمن بهذه الصفات اتصف، وفي كل موطن من هذه المواطن اقتطف، ولا نجاة يوم القيامة إلا لأهل القلوب السليمة، (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء: 88، 89)، وهذه القلوب بهذه الأوصاف الجميلة، والخلال الحميدة، هي مستودع الأفراح والأتراح، ومناط القبول، ومنبع الوصول، وهي أعظم موصل للجنان، ورضى الرحمن، فالمؤمن لا تراه إلا سليم الصدر، في عبادته، وأخلاقه، وتعامله، وتعاملاته.
والقلب المؤمن المنيب، لا تراه إلا رجاع وتائب، فكلما أذنب تاب وأناب.
قلب المؤمن المخبت لا تراه إلا خاضع، وفي عبادة ربه ساكن وخاشع.
قلب المؤمن الوجل لا تراه إلا خائفًا على أعماله من عدم قبولها، ومما يحبطها، أو يفسدها، أو ينقصها.
قلب المؤمن التقي لا تراه في أعماله وعبادته وأخلاقه إلا طاهر نقي.
قلب المؤمن المهدي لا تراه أمام النوائب، وعند الحوادث والمصائب إلا بر مطمئن مؤمن رضي.
قلب المؤمن المطمئن لا تراه إلا بذكر ربه وتسبيحه، وقراءته وتوحيده وإسلامه، إلا طيبًا سعيدًا مطمئن.
قلب المؤمن الحي لا تراه إلا في حياة وراحة، بعيدًا عن الغفلة والسآمة.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمد الشاكرين، وأشهد أن لا إله إلا الله رب العالمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيد المرسلين.
وبعد،.
مضى في الخطبة الأولى القلوب الصحيحة، وتعدادها ثمانية سليمة، وهي وإن اختلفت أوصافها لكن متحدة معانيها، وضدها أمراض القلوب وأسقامها:
فأولها: القلب المريض. وهو القلب الذي له مادتان: قلب له حياة، وبه علة، إذا زاد الإيمان زادت حياته، وإذا نقص الإيمان زاد مرضه، وأمراضه كالنفاق، والكبر، والعجب، والغل، والحسد، والكذب، والغيبة، والنميمة، والعقوق، والقطيعة، فهي مريضة بالشهوات المحرمة، (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) (الأحزاب: 32).
ويتفرع عن هذا القلب القلب الثاني: القلب الأعمى. وهو عن الحق والبصيرة في عمى وهوى، (فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ) (الحج: 46).
وكذا: القلب اللاهي. وهو الغافل العاصي، وعن الذكر والقرآن مشغول لاهي، وبالدنيا منهمك ناسي، (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) (الأنبياء: 3): معرضة غافلة، سادرة لاهية.
والرابع: القلب الآثم. وهو للحق كاتم، وللشهادة وقول الباطل جازم، (وَلاَ تَكْتُمُواْ الشَّهَادَةَ وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ) (البقرة: 283).
وكذا: القلب المتكبر. وعن التوحيد والدين مستكبر، وللظلم والعدوان متجبر، وأخذ حقوق الناس وقول الحق منكر، (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) (غافر: 35)، فجازاه الله على ظلمه وعدوانه، وأخذه حقوق إخوانه، أن طبع على قلبه، وختم على سمعه وبصره.
ومن القلوب السقيمة والقلوب المريضة: القلب الغليظ. قلب نُزعت منه الرحمة والشفقة، والعطف والرأفة، غليظ بطبعه وفعله، غليظ بخلقه وسمته.
إذا قسا القلب لم تنفعه موعظة
*** كالأرض إن سبخت لم ينفع المطر

قلب لا يعرف الرحمة للمسلمين، واللين والحلم على المؤمنين، دليله: (وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران: 159).
ومن هذه القلوب –فرج الله عنك كل مكروب-: القلب المختوم عليه. لم يسمع الهدى ولم يعقل، فلا يصل إليه الهدى، لما فيه من الحجب والمعاصي والهوى، دليله: (وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ) (الجاثية: 23)، (خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ) (البقرة: 7)، فالهداية عنه بعيدة، والاستقامة عنه غليظة.
ومنها –أعاذني الله وإياكم شرها-: القلب القاسي. الممتلئ بالذنوب والمعاصي، لا يلين للإيمان، ولا يؤثر فيه زجر ولا ردع ولا قرآن، معرض عن الذكر، مبتعد عن الهدى والفكر، أعتى من الصخرة الصماء، دليله من آيات الهدى: (وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً) (المائدة: 13)، نعوذ بالله من قساوة القلوب وكشف العيوب.
ومنها –أيها الأخ الكريم الحافل-: القلب البعيد الغافل. قلب غفل عن الله، وصد عن ذكر الله، وآثر هواه ودنياه على ربه وأخره وطاعة مولاه، قال الله جل في علاه: (وَلا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا) (الكهف: 28).
والعاشر –أيها الأخ الحاضر-: القلب الأغلف. وهو قلب مغطى، وعن الهدى والبر محجوب، قلب قد أُغلف من الذنوب، ورانت عليه المعاصي والعيوب، قال علام الغيوب: (وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ اللَّه بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ) (البقرة: 88)، بقدر المعاصي، بقدر البعد والتناسي، كلما زاد ذنبه زاد غلفه ورانه.
وكذا من القلوب –سترك وعافاك من الذنوب-: القلب الزائغ. وهو عن الحق مائل وبازغ، فهو زائغ عن الهدى، مائع إلى الباطل والهوى، قال المولى: (فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ) (آل عمران: 7)، ومن دعاء العلماء الراسخين: (رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ) (آل عمران: 8)، فهو قلب يعرف الحق، لكن زاغ قلبه، وانصرف فؤاده، والجزاء من جنس العمل، (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ) (الصف: 5)، (وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ) (الأنعام: 110).
والقلب الأخير: القلب المريب. الشاك المرير، قلب محتار، وفي الشكوك راتع ومختار، شك في دينه وعقيدته، في مسلماته وثوابته، شك في ربه ونبيه، بعيد عن اليقين، وطاعة رب العالمين، قال رب العالمين: (وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ) (الكهف: 45).
فهذه اثنى عشر صفة للقلوب الميتة والمريضة، تفاوتت صفاتها، بما يقوم في أحوالها.
وأخيرًا: أيها المستمع النجيب: أكثر من قول الحبيب: اللهم: أصلح قلبي، دائمًا وأبدًا، سرًا ومعلنًا.
فإنه إذا صلح قلبك صلحت حالك، وجوارحك، ودنياك، وآخرتك.
صلى الإله على النبي وسلما
صلوا عليه أحبتي كي تربحوا
***
*** ما غرد الطير المحلق في السما
ضعف الصلاة من الرحيم تكرما

والله أعلم.
المرفقات

790.doc

خطبة تذكير القلوب بأوصاف القلوب - للشيخ خالد بن علي أبا الخيل.doc

خطبة تذكير القلوب بأوصاف القلوب - للشيخ خالد بن علي أبا الخيل.doc

المشاهدات 1671 | التعليقات 0