تذكير العبادْ - بشؤم الفساد والإفسادْ

خالد علي أبا الخيل
1438/04/20 - 2017/01/18 08:49AM
تذكير العبادْ - بشؤم الفساد والإفسادْ
التاريخ: الجمعة:15-ربيع الثاني-1438 هـ



الحمد لله الذي أمر بالصلاح ونهى عن الفساد وحث على الإصلاح وزجر عن الإفساد، وأشهد أن لا إله إلا الله القائل: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ)(البقرة:205)، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله أخبر أن سبب الهلاك كثرة الفساد صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم المعاد .. أما بعد:
فيا عباد الله اتقوا مَن أُمرتم بتقواه، فتقواه فوزٌ ونجاة وصلاحٌ وعزٌ وحياة.
أيها المسلمون .. لا صلاح ولا فوز ولا نجاح ولا راحة ولا عزة ولا فلاح إلا بالإصلاح والصلاح، ولا فساد ولا شر إلا بالفساد والإفساد، فالصلاح والإصلاح قرينان، والفساد والإفساد قرينان، فقد يكون فاسدًا في نفسه مفسدًا لغيره وعكسه بعكسه، والله أمرنا بالإصلاح ونهانا عن الإفساد، وجعل فساد الأرض بالمعاصي والسيئات وصلاحها بالعبادة والطاعات.
إن الفساد عباد الله هو الخروج عن الحق والاعتدال، والفساد تارةً يكون في الدين كالكفر والعصيان، ويكون في العقائد كالبدع والأهواء، ويكون في الأموال والتعاملات والأمانات والمعاملات، كما يقع الفساد في الأخلاق والقلوب والأقوال والأعمال، فكل معصية مفسدة، وكل ساعٍ في الأرض بالفساد فهو مفسد سواء عبر الكتابات والمقالات أو المرئيات والمسموعات أو القنوات والتواصلات.
الفساد أيها الإخوة نوعان:
النوع الأول: فساد معنوي: وذلك كالإسراف والتبذير وتضييع الحقوق وأكل أموال الناس بالباطل والربا والزنا وسفك الدماء، وعدم القيام بالأعمال الواجبة والحقوق المُكلفة كالوظائف الحكومية والأعمال التجارية والإدارات المالية والخيانات في المعاملات، وكل معصية من أعلاها وهو الشرك بالله إلى أدناها من الفساد في الأرض (وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ)(الرعد:25) ومنه: الغنى وشرب الدخان والمخدرات والسينما والموسيقى، ونشر العقائد الفاسدة والانحرافات والتوجهات الضالة، وفتح باب المعاصي لكل مبتدع وعاصي.
النوع الثاني: إفساد حسيّ: كالتخريب والتفجير والهدم والتبذير وإفساد الحروث والزروع والمساكن والممتلكات، وكقطع الطريق وإخافة المارة وأخذ المال والسرقة والقتل والاغتصاب، قال تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ)(البقرة:30)، وقال تعالى: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسَادَ)(البقرة:205)، وكلا النوعين نص الله عليه ورسوله في الوحيين، قال سبحانه: (وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا)(البقرة:205)، وقال جل ذكره: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا)(الأعراف:56)، وقال جلَّ وعز: (وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(المائدة:64)، (إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)(يونس:81).
ولجرم الفساد أيها العباد، يدخل فيه المعصية والهلاك والخراب والمنكر والسحر:
فالمعصية (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ)(البقرة:11):
والهلاك (لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا)(الأنبياء:22).
والخراب (إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً)(النمل:34).
والمنكر (فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ)(هود:116).
والسحر (إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)(يونس:81).
الفساد إذا دب في المسلمين بصوره وألوانه وأنواعه وأشكاله فهو مؤذرٌ بفساد المجتمعات ونزع البركات وقلة الخيرات وحلول الخيانات وضياع الأمانات، الفساد إذا حل حلت العقوبات والنكبات، قال سبحانه عقب ذكر قوم شعيب وهلاكهم: (فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ)(النمل:14).
وسبب للعذاب الحسي، والعذاب المعنوي، والعذاب الاقتصادي والمالي قال تعالى: (الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ العَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ)(النحل:88) والفساد سبب لسخط رب العباد قال سبحانه: (وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ)(الفجر:10-14) وكفى به جُرمًا وشؤمًا أن المفسد لا يحبه المولى (إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(القصص:77).
وللترهيب من قبحه قال سبحانه: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ)(البقرة:220)، وقال سبحانه: (فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ)(آل عمران:63) ليعلم المفسد أن الله مطلع عليه، وأنه لا يخفى عليه من سوء عمله خافية لديه، والمفسد في الأرض قد حلت عليه اللعنة وسوء العاقبة قال سبحانه: (وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ)(الرعد:25)، وقال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ)(محمد:22)، (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ)(محمد:23)، وإذا ظهر الفساد ولم يُنكر ويُغير بين العباد عمَّ الهلاك الحاضر والباد، قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ)(الروم:41).
وفي السُنة: (أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: نعم إذا كثر الخبث).
والفساد والإفساد من صفات المنافقين، قال رب العالمين: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ)(البقرة:11) فهم يُظهرون للناس صلاحهم وإصلاحهم وحضارتهم وبنيانهم ويُظهرون الترف والمعصية والعمار، وهم في الحقيقة يجلبون الدمار والهلاك والنار، فأعظم مفسد المنافق الذي ظاهره ولسانه الإصلاح، وباطنه وقلبه الفساد والإفساد.
والفساد كما يكون في الدين فهو كذلك يكون في الدنيا، فيقع في الأمور الدنيوية والتعاملات المالية والمناقصات التجارية والوظائف الحكومية والبيوعات والتسوقات البشرية والأمور الإدارية والمحاسبات والحسابات المالية.
ولهذا سبحانه لما ذكر قصة قارون وهلاكه بماله قال: (وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ)(القصص:77) فإذا حلت الخيانات التعاملية والمعاملات المالية فهذا عنوان فساد المجتمعات وإهدار الأموال للضياع، الفساد معصية قبيحة ومفسدة شنيعة، لكنه في الأمور المالية فسادٌ عريض وذنب عظيم.
ولهذا قال سبحانه عقب ذكر مال اليتيم وتوجيه الولي والناظر فيه: (وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ)(البقرة:220) فمَن صرف الأموال في غير مصرفها أو ضيعها أو وضعها في غير موضعها فقد أفسد في الأرض، ومَن أكل أموال الناس وتعدى وأخذ أموالهم وبغى فقد أفسد ومَن أدار الأموال العامة أو الخاصة وغش في المشاريع والطرقات والوظائف والمناقصات أو تولى أمرًا للدولة أو شئونًا للأمة أو اُئتمن على ثروة فصرف وأعطى وقدم هذا وآخر هذا وخان الأمانة وهفا، فقد أفسد وأسخط المولى، ومَن تحايل على المؤسسات والأنظمة والتجارات فقد عصى رب الأرض والسماوات.
فيا أيها المسئول والموظف والعامل والكاتب والمؤتمن والرئيس والمدير اتقي الله فيما بين يديك وما أنت مؤتمنٌ عليه فلن تزول قدم عبدٍ حتى يُسئل عن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه، وكلكم راعٍ ومسئولٌ على رعيته، وكل مَن سولت له نفسه بالإفساد في الأرض أيًا كان نوعه وصنفه فعمله في الدنيا لا يصلح ولا ينجح (إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ)(يونس:81) والعاقبة للمصلحين والمتقين وسوء الدار للفساد والمفسدين.
ومن الفساد: الفساد الأخلاقي والسلوكي والمالي.
ومن الفساد: التنكل لهذا الدين بمعاداة أهله ومحاولة إقصاءه عن واقع الحياة، واعتقاد أن هذه الشريعة انتهى دورها، وأنها لا تصلح لهذا الزمان زمن الانفتاح والحضارة والثقافات والمعلوماتية.
ومن الفساد: الفساد في إفساد العلاقات والتواصلات لاسيما الأقارب والمجتمعات والإفساد بين الزملاء والأصدقاء والأزواج والزوجات والإخوة والأخوات وكذا الإفساد بين الجيران والمتحابين والخلان.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه كان للأوابين غفورًا.

الخطبة الثانية
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومَن اهتدى بهداه.
ومن الفساد أيها العباد: انتهاك الأعراض المعصومة وقتل النفوس البريئة قال سبحانه عن فرعون: (يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ)(القصص:4) والفساد صوره شتى فمنها ما نص الله عليه في آياتٍ تتلى وسُنةٍ تروى كالشرك وتكذيب الرسل ورد الحق والنفاق ودعوة غير الله وسؤاله وبخس الموازين والتطفيف في الكيل والميزان، وقتل الأرحام ونقض العهود والمواثيق وقطع ما أمر الله به أن يوصل والإسراف والتبذير ومجاوزة الحد في الغيّ والتمادي في المعاصي والسحر والشعوذة والكِبرِ وبطر الحق وارتكاب المنكرات والفواحش وإيقاد الحروب بين العباد وقتل النفوس البريئة، ومنه: ترويع الآمنين وقتل المسلمين. ومنه: زعزعة الأمن والأمان ونشر الرعب في الأوطان والفوضى والتفرق والاختلاف والتحزب والتعصب والإجحاف، ومن صوره: دعوة المرأة للتغريب وكشف الحجاب والاختلاط باسم الرقيّ والتحضر ومسايرة العصر الحاضر.
يجب علينا أيها المسلمون أن نحارب الفساد والإفساد ونكافح الفساد عن العباد وأن تحذره ونحذره للحاضر والباد، ونعزز جانب الحماية والتوقي والنزاهة والصيانة والرقابة الذاتية والإيمانيات القلبية ونقوي الروابط الاجتماعية والأخلاق الوظيفية وتنمية الوازع الديني، والخوف من الله وتذكر الموت وقرب الآخرة وسرعة زوال الدنيا وفناءها، وتعظيم حقوق الآخرين وأنه وإن سلم في الدنيا والدين فلن يسلم يوم يقوم الناس لرب العالمين.
وأن حقوق الخلق مبنية على المشاحة والمقاصة والتذكير بأن مَن أفسد في الأرض فعليه وزر ذلك، ومَن عمله وتأسى به واتبعه فهو سلسلة شيطانية وأوزارٌ متتالية في الحياة وبعد الممات ولا نجاة للعباد إلا بمحاربة الفساد، فإهماله وتركه ينخر بالأمة ويجلب الهلكة ويورث النقمة.
ومن علاجه: تربية النفس على تقوى الله وعِظم الأمانة وسوء الخيانة والأخذ على أيدي المفسدين والعدل والإنصاف وإعطاء الحقوق من العلاج وعدم المجاملة في العطاء والبذل.
ومن صوره: السعي في إذلال الأمة وإيقاع المصائب فيما بينها وتوهين شوكتها والفتح لأعدائها.
ومن صوره: نشر الإشاعات الكاذبة وترويج الأكاذيب المُلفقة والتشكيك في مُسلّمات الدين وثوابته وأصوله، وكذا سرقة الأموال ونهبها والتحايل عليها (قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ)(يوسف:73)، وتدمير المنشئات وتخريب الديار العامرات وإتلاف الممتلكات من صور الفساد بين البريات.
وكل دائرة ومؤسسة عليها أن تراقب حالها وتربي أجيالها فليس الفساد قصراه أعدادٌ محدودة وصور محصورة بل يدخل فيه الفساد التعليمي والاقتصادي والفكري والسلوكي والطبي والمالي والعملي والوظيفي والدائري والإداري.
ومن مكافحته: أداء العمل على الوجه الأكمل، والحذر من التبرير للنفس فعلينا جميعًا التعاون على البر والتقوى، والإصلاح والصلاح والبعد عن الإفساد والفساد.
فنشر الصلاح وتقريب الصالحين وإبعاد الفساد والمفسدين من العلاج المتين، فعلينا أن نحارب الفساد سرًا وجهرًا بجميع صوره وبجميع الوسائل والتواصلات وعدم المجاملة والمداهنة والسكوت فنُنكر ونبلغ بالحكمة والموعظة الحسنة (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ)(آل عمران:110).
هذا وصلوا وسلموا على الرحمة المهداة والنعمة المسداة كما أمركم الله جل في علاه (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)(الأحزاب:56).
والله أعلم
المشاهدات 1057 | التعليقات 0