تذكير العباد بالاستعداد ليوم المعاد

محمد بن عبدالله التميمي
1446/07/08 - 2025/01/08 23:19PM

الخطبة الأولى

الحمدُ لله الواحدِ القهَّار، العزيزِ الغفَّار، مُقدِّرِ الأقدار، ومُصرِّفِ الأمورِ على ما يشاءُ ويختار، ومُكوِّرِ الليلِ على النهار. الواحدِ الأحَد الصَّمَد العليمِ الحكيمِ الذي أيقظَ مِن خلقِه مَن اصطَفاهُ فأَدْخَله في جُملةِ الأخيار، ووفَّقَ مَن اختار مِن عَبيدِه فجعَله مِن الأبرار. وبَصَّرَ مَن أحَبَّه مِن خلقِه للحقائقِ فزَهِدوا في هذه الدَّار، فاجتهَدوا في مَرْضاتِه والتأهُّبِ لدار القرار. وصلَّى اللهُ وسلَّم على رسولِه المُصْطفَى المُخْتَار، وعلى آله الأطهار وصحابتِه الأبرار، ومَن تبعهم بإحسانٍ وسار، أما بعد:

فاتَّقُوا اللهَ بطاعتِه، وأطيعوا اللهَ بتَقْواه، وحاسِبوا أنفسَكم في كل خُطوَة، وراقِبُوا اللهَ في كُلِّ نَفَس. واعلَمُوا أنَّ الأجلَ قريبٌ، وهو مستورٌ عنكم، يَسوقُه حَثيثُ الليلِ والنهار، وإذا انتهَت المدَّة حِيلَ بينكم وبين العُدَّة، إذا فَرِحتَ بالعافية فاحسِبْ حِسابًا للبلاء، وإذا بسَطَك الأملُ فاقبِضْ نفسَك عنه بذِكْر الأجَل؛ فهو المَوعِد، وإليه المَورِد.

كُن -عبدَ الله- حَذِرًا من أربعِ غارات:

الأولى: غارةُ ملَكِ الموت على رُوحك.

الثانية: غارة الورَثة على مالِك.

الثالثة: غارةُ الدُّود على جسمِك في قبرك.

الرابعة: غارةُ الخُصَماء على حسَناتك، فعليك بالاستعدادِ والاحتياط، والإكثارِ من الباقياتِ الصالحات، والمداومةِ على ذِكْر الله ليلًا ونهارًا، وسِرًّا وجِهارًا.

إذا رأيتَ مِن قلبِك قَسوةً فأكثِرْ من تلاوةِ كتاب الله بتدبُّرٍ وتفكُّر، وجالِسِ الذَّاكِرَ لله، واصحَبِ الزَّاهِدِينَ، وعليك بالسُّنة وسيرةِ النبيِّ ﷺ وسيرةِ أصحابه رضي الله عنهم أجمعين.

أشرفُ الأوقات التي يَعْمرُها الإنسانُ: ما تُقْضى بطاعةِ الله، ومَن أَرَادَ حِفظَ أَوْقَاتِه فَلْيَجْعَلْ كَلامَه ذِكْرًا، وصَمْتَهُ تَفَكُّرًا، ونَظَرَه عِبْرَةً وعمَله بِرًّا.

 إن الدُّنيا دَحْضٌ مَزَلَّةٌ، ودارُ مَذَلَّةٌ، عُمْرانُها إلى الخَرابِ صائر، وعامِرُها إلى القبورِ زائِر، شَمْلُها على الفُرْقةِ موقوف، وغِناها إلى الفقرِ مَصْروف، الإكثارُ فيها إعسار، والإعْسَارُ فيها يَسَار.

فافْزَعْ إلى اللهِ وارْضَ برِزْق الله، لا تتَسلَّفْ من دارِ فَنائك إلى دارِ بقائك؛ فإنَّ عَيْشَك في الدُّنيا فَيْءٌ زائل، وجدارٌ مائل، أكثِرْ مِن عمَلِك، وأقلِلْ من أمَلِك.

ولمَّا كان الموتُ أمرًا حَتْمِيًّا لا بُدَّ منه لكلِّ مخلوقٍ على وجه الأرض؛ فلا بدَّ من تَذَكُّرِه دائمًا وأبدًا، ففي تَذَكُّرِهِ مُحاسبةٌ للنفس على ما قدَّمَت من خيرٍ وشَر؛ فإنْ قدَّمَت خيرًا فذِكرُ الموت يُريحها ويَحُثُّها على التزوُّدِ من الأعمال الصالحة، والابتعادِ عن كل شر، وإنْ فرَّطَت وأَهْمَلَتْ واستمرَّت على فِعل المعاصي والشُّرُوْر؛ فذِكْرُ الموت يَردَعُها عن غَيِّها وطُغيانِها، ويَحُول بينها وبين عَبَثِها، فإذا تيَقَّن كلُّ إِنْسَانٍ أنَّ الموتَ لا بُدَّ أنْ يَأْتِيَه، وعَلِمَ أنَّ التُّرابَ بعدَ الفُرُشِ مَضْجعُه، وأن الدُّودَ والحشَراتِ أنيسُه، وأنَّ القيامةَ الكُبرى موعدُه، وأنَّ الجَنَّةَ أو النارَ مَورِدُه، بعد ما يُعاني من الأهوالِ والمزعِجات اللَّاتي يَشِيب منها الوِلْدانُ، فإذا جعَل هذا نُصْبَ عينَيْه ليلًا ونهارًا، سِرًّا وجِهارًا، وأمْعنَ في التفكُّر فيه؛ فلا بدَّ أن يكونَ لذلك تأثيرٌ بإذن الله، ويكونَ الموتُ وما بَعده نُصْبَ عينَيه إنْ قامَ أو قعَد، أو مَشى أو اضْطجَع، وتَهونَ عليه الدُّنيا ومصائبُها، ويَدْعوه ذلك إلى تركِ ما زاد على زادِه إلى الآخرة.

 {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ}.

وذِكْرُ الموت نوعان: نوعٌ باللِّسَانِ فقط، والنوعُ الآخَر -وهو النافعُ المُجْدِي بإذن الله- ذِكْرُه بالقلب؛ لأنه المُثمِرُ للعملِ الصالح.

تأهَّبْ للَّذي لا بدَّ مِنهُ فإنَّ مِيعادَ العِبَادِ الموت، فهُنَّ المَنايَا عَليها القُدومُ أو علَيْك ستَقْدَمُ.

وليس يَسُرُّ الإنسان أنْ يكون رفيق قومٍ معهم أزوادهم وهو بلا زاد، فلا تَلْهُ عن تَذْكارِ ذَنْبِك، ومَثِّلْ وَقْعَ الحِمَامَ لِعَينَيْكِ، ورَوْعةَ مَلْقاهُ عَليك.

اللهم أيقظ قلوبنا من الغفلات، واغفر الزلات، وأبدل السيئاتِ حسنات بالتوفيق للتوبة والتزود من الأعمال الصالحات، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من سائر الذنوب والخطيَّات .


 

الخطبة الثانية

الحمدُ لله الذي تفرَّد بالبقاء، وحكَمَ على العبادِ بالفناء، أشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له تنزَّه عن الأشباه والنُّظراء، وأشهدُ أنَّ محمَّدً عبدُه ورسولُه بلَّغ فتركَنا على البيضاء، ليلُها كنهارها لا يزيغُ عنها إلا هالك مستوجب الشقاء، صلى اللهُ عليه وعلى آله وصحبه النُّجَباء، وعلى تابعيهم بإحسان واهتداء، أما بعد:

فإنَّ الواجبَ على الإنسان العاقلِ أنْ يُحافِظَ على وَقْتِه أكثرَ من مُحافظتِه على ماله، وأنْ يَحْرِصَ على الاستفادة منه فيما ينفعُه ويُقرِّبه إلى الله.

قال الحسنُ البصريُّ: يا بنَ آدَم، إنما أنت أيامٌ مجموعة، كُلَّما ذهَب يومٌ ذهَب بعضُك. وقال آخَرُ: الوقتُ إذا فات لا يُستدرَك، ولا شيءَ أعزَّ منه.

وكان السَّلفُ الصالحُ يَحْرِصُونَ كلَّ الحرص ألا يَمُرَّ زمنٌ -ولو يسيرًا- دون أنْ يَتزوَّدوا فيه بعملٍ صالح أو علمٍ نافع، أو مُجاهَدةٍ للنفس، أو إيصالِ نفعٍ إلى قريبٍ أو بعيد. قال ابنُ مسعود رضي الله عنه: ما ندمتُ على شيءٍ ندَمي على يومٍ غرَبَت شمسُه؛ نقَص فيه أجَلي ولم يزدَدْ فيه عمَلي.

عبادَ الله.. مَن جَهِل قيمةَ الوقت الآن فسيأتي عليه يومٌ يعرف فيه قيمةَ الوقت، ولكن بعدَ فوات الأوان، ويتمنَّى أنه شغَل وقتَه الماضيَ بالباقيات الصالحات؛ من تسبيحٍ وتحميد، وتهليلٍ وتكبير، وقراءةٍ لكتاب الله وصلاةٍ وصيام، وزكاةٍ وحج، وبِرٍّ وصلةِ رَحِم، ونحوِ ذلك مما يجدُه مُوفَّرًا أحوجَ ما يكون إليه. فاستدرك بالاستغفار عما سلف، والعزم على الإحسان فيما بقي.

([1])

 


([1]) الخطبة مستفادة من كتاب "إرشاد العباد بالاستعداد ليوم المعاد"، للشيخ عبدالعزيز السلمان -رحمه الله-.

المرفقات

1736367555_تذكير العباد بالاستعداد ليوم المعاد.docx

1736367555_تذكير العباد بالاستعداد ليوم المعاد.pdf

المشاهدات 566 | التعليقات 0