تذكير العالَمِين بِحَقِّ الوالدين
محمد بن عبدالله التميمي
الخطبة الأولى
الحمد لله، يهدي مَنْ يَشاءُ إلى صِراطٍ مُستقيم، مَنْ استهداه هدَاه، ومَنْ أقبَلَ إليه آواه، ومَنْ سَأَلَهُ أعطاه، ومَنْ تَوَكَّلَ عليه كفاه، وأشهد أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وحدَه لا شريك له تباركَ في عُلاه، وأَشْهَدُ أنَّ نَبِيَّنَا محمدًا عبدُهُ ورسولُه ومصطفاه، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه ومن والاه. أما بعد:
فاتقوا الله، اتقوا الله بالتقرُّبِ إليه فيما أمَر، والبُعدِ عما نهى عنه وزَجَر، فتقوى الله عُدَّةٌ لكل شِدَّة، وحِصنٌ أمينٌ لمن دخل، وجُنَّةٌ من عذاب الله.
عبادَ الله.. صَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: «آمِينَ. آمِينَ. آمِينَ». فَلَمَّا نَزَلَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، إِنَّكَ حِينَ صَعِدْتَ الْمِنْبَرَ، قُلْتُ: آمِينَ. آمِينَ. آمِينَ. قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَتَانِي، فَقَالَ: مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ، فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ، فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ. فَقُلْتُ: آمِينَ. قَالَ: وَمَنْ أَدْرَكَ أَبَوَيْهِ، أَوْ أَحَدَهُمَا، فَلَمْ يَبَرَّهُمَا، فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ. فَقُلْتُ: آمِينَ. قَالَ: وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ، فَمَاتَ، فَدَخَلَ النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ. قُلْ: آمِينَ. فَقُلْتُ: آمِينَ».
عباد الله.. إنه غَيْرُ خَافٍ عَلَى عَاقِلٍ لُزُومُ حَقِّ الْمُنْعِمِ، وَلَا مُنْعِمَ بَعْدَ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ عَلَى الْعَبْدِ كَالْوَالِدَيْنِ، فَقَدْ حَمَلَتِ الأُمُّ بِحَمْلِهِ أَثْقَالًا كَثِيرَةً، وَلَقِيَتْ وَقْتَ وَضْعِهِ مُزْعِجَاتٍ مُثِيرَةً، وَبَالَغَتْ فِي تَرْبِيَتِهِ وَسَهَرَتْ فِي مُدَارَاتِهِ، وَأَعْرَضَتْ عَنْ جَمِيعِ شَهَوَاتِهَا لِمُرَادَتِهِ، وَقَدَّمَتْهُ عَلَى نَفْسِهَا فِي كُلِّ حَالٍ.
وَقَدْ ضَمَّ الْوَالِدُ إِلَى تَسَبُّبِهِ فِي إِيجَادِهِ وَمَحَبَّتِهِ بَعْدَ وُجُودِهِ وَشَفَقَتِهِ فِي تَرْبِيَتِهِ: الْكَسْبَ لَهُ، وَالإِنْفَاقَ عَلَيْهِ.
وَالْعَاقِلُ يَعْرِفُ حَقَّ الْمُحْسِنِ وَيَجْتَهِدُ فِي مُكَافَأَتِهِ، وَإنَّ جَهْلَ الإِنْسَانِ بِحُقُوقِ الْمُنْعِمِ مِنْ أَخَسِّ صِفَاتِهِ، فَإِذَا أَضَافَ إِلَى جَحْدِ الحَقِّ الْمُقَابَلَةَ بِسُوءِ الْأَدَبِ، دَلَّ عَلَى خُبْثِ الطَّبْعِ وَلُؤْمِ الْوَضْعِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ، وَلْيَعْلَمِ الْبَارُّ بِالْوَالِدَيْنِ أَنَّهُ مَهْمَا بَالَغَ فِي بِرِّهِمَا لَمْ يَفِ بِشُكْرِهِمَا.
وَمِنْ تَعْظِيمِ اللهِ لحَقِّ الْوَالِدَيْنِ أنْ قَرَنَ شُكْرَهُ بِشُكْرِهِمَا، فقال تَعَالَى: {أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ}.
وشَفَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الإحسانَ إلى الوالدين بتوحيدِه سبحانه فقال: {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا}، وَهُوَ الْبِرُّ وَالْإِكْرَامِ. {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} وأَصْلُ كَلِمَةِ {أُفٍّ} وهو صوتٌ يدل على التضجر. {وَلا تَنْهَرْهُمَا}، أَيْ: لَا تُكَلِّمْهُمَا ضَجِرًا صَائِحًا فِي وُجُوهِهِمَا، فالولدُ مأمورٌ بأنْ يَسْتَعْمِلْ مع والِدَيْهِ وَطْأَةَ الخُلُق ولِيْنَ الجانب، والاحتمال، حتى لا يقول لهما إذا أَضْجَرَاهُ ما يَسْتثقل منه، فضلًا عما يزيد على أفٍّ. فضَيَّقَ اللهُ تعالى الأمرَ في مراعاتهما حتى لَمْ يُرَخِّصْ في أدنى كلمة تَنْفِلِتُ من المتضجر، مع موجبات الضجر ومقتضياته.
{وَقُلْ لَهُمَا قَوْلا كَرِيمًا} أَيْ: لَطِيفًا أَحْسَنَ مَا تَجِدُ. {وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ}، أَيْ: أَلِنْ لَهُمَا جَانِبَكَ مُتَذَلِّلًا لَهُمَا مِنْ رَحْمَتِكَ إِيَّاهُمَا.
إنَّ بِرَّ الْوَالِدَيْنِ مِنْ أَحَبِّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلّ، فعن عَبْدِ اللَّهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قَالَ: سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَيُّ الْعَمَلِ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: الصَّلَاةُ عَلَى وَقْتِهَا. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ. قُلْتُ: ثُمَّ أَيُّ؟ قَالَ: الْجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
وعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَحَبَّ أَنْ يُمِدَّ اللَّهُ فِي عُمْرِهِ، وَيَزِيدَ فِي رِزْقِهِ، فَلْيَبَرَّ وَالِدَيْهِ، وَلْيَصِلْ رَحِمَهُ».
وعَنْ عَائِشَةَ، قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «نِمْتُ، فَرَأَيْتُنِي فِي الْجَنَّةِ، فَسَمِعْتُ صَوْتَ قَارِئٍ يَقْرَأُ، فَقُلْتُ: مَنْ هَذَا؟ قَالُوا: حَارِثَةَ بْنَ النُّعْمَانَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: كَذَاكَ الْبِرُّ كَذَاكَ الْبِرُّ، وَكَانَ أَبَرَّ النَّاسِ بِأُمِّهِ».
والوالدان في بِرِّهِمَا مُتَفَاضِلَان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَجِلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيُّ النَّاسِ أَحَقُّ مِنِّي بِحُسْنِ الصُّحْبةِ؟ قَالَ: «أُمُّكَ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أُمُّكَ». قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: «ثُمَّ أَبُوكَ». أَخْرَجَاهُ الصَّحِيحَيْنِ.
إن بِرَّ الوالدين يَكُونُ بِطَاعَتِهِمَا فِيمَا يَأْمُرَانِ بِهِ مَا لَمْ يَأْمُرْ بِمَحْظُورٍ، وَتَقْدِيمِ أَمْرِهِمَا عَلَى فِعْلِ النَّافِلَةِ، وَاجْتِنَابِ مَا نَهَيَا عَنْهُ، وَالْإِنْفَاقِ عَلَيْهِمَا، وَالتَّوَخِّي لِمَحْبوباتِهِمَا، وَالْمُبَالَغَةِ فِي خِدْمَتِهِمَا، وَاسْتِعْمَالِ الْأَدَبِ وَالْهَيْبَةِ لَهُمَا، فَلَا يَرْفَعُ الْوَلَدُ صَوْتَهُ عَلَى صَوْتِهِمَا، وَلَا يُحَدِّقُ إِلَيْهِمَا، وَلَا يَدْعُوهُمَا بِاسْمِهِمَا، وَيَمْشِي وَرَاءَهُمَا، وَيَصْبِرُ عَلَى مَا يَكْرَهُهُ مِمَّا يَصْدُرُ عَنْهُمَا. عن أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: «ذُكِرَتِ الْكَبَائِرُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: الإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ». قال طَيْسَلَةُ بْنُ مَيَّاسٍ: قُلْتُ لِابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما: عِنْدِي أُمِّي، قَالَ: «وَاللَّهِ لَوْ أَلَنْتَ لَهَا الْكَلَامَ وَأَطْعَمْتَهَا الطَّعَامَ لَتَدْخُلَنَّ الْجَنَّةَ مَا اجْتَنَبْتَ الْكَبَائِرَ». وعنه رضي الله عنه أنه قَالَ: «بُكَاءُ الْوَالِدَيْنِ مِنَ الْعُقُوقِ»، وعَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ، قَالَ: «إِيجَابُ الْحُجَّةِ عَلَى الْوَالِدِ عُقُوقٌ» يعني: أنْ تَتغْلَّبَ عليهمَا في المحَاجَّة فِي الكَلَام.
ودعاءُ الوالدين إما أنْ يكونَ لك فنجاةٌ وبركةٌ ورحمة، وإما أنْ يكونَ عليك فتلفٌ ومَحْقٌ ونِقْمَة، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ: «ثَلَاثَةٌ لَا تُرَدُّ دَعْوَتُهُمْ: الْوَالِدُ، وَالْمَظْلُومُ، وَالْمُسَافِرُ». وقال الْحَسَن البصري: «دُعَاءُ الْوَالِدَيْنِ يُثَبِّتُ الْمَالَ وَالْوَلَدَ»، وسُئل رحمه الله: مَا دُعَاءُ الْوَالِدِ لِوَلَدِهِ؟ قَالَ: «نَجَاةٌ».
بارك الله لي ولكم في الأعمال الصالحات، وغَفَرَ تقصيرَنا في بِرِّ الآباء والأمهات، وأَصلحَ لنا ولكم الأبناء والبنات، أقولُ قولِي هذا وأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِيْ وَلَكُم مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ وخَطِيْئَةٍ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا سيد الأولين والآخرين، اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك على عبدك ورسولك محمد وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:
فإنَّ مَن رحَلَ عَنِ الدنيا والِدَاه، أو أحدُهما فقدْ عَظُمَتْ بَلْوَاه، وبَدَأ وقتٌ يتمحَّصُ فيه بِرِّه وصِدْقُه مع الله؛ إذْ مع الغَيبَةِ فهو للغفلة أقرب، وليس يرجو مدحهما أو حثَّهما أو لومهما فيستعتب، وإن لبرِّهما بعد الموت صُوَرًا، بما ينتفعُان بها وهما أحوجُ ما يكونان أبدًا، في الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ».
وعن أبي أَسِيدٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، هَلْ بَقِيَ مَنْ بِرَّ أَبَوَيَّ بَعْدَ مَوْتِهِمَا؟ قَالَ: «نَعَمْ، خِصَالٌ أَرْبَعٌ: الدُّعَاءُ لَهُمَا، وَالاسْتِغْفَارُ لَهُمَا، وَإِنْفَاذُ عَهْدِهِمَا، وَإِكْرَامُ صَدِيقِهِمَا، وَصِلَةُ الرَّحِمِ الَّتِي لَا رَحِمَ لَكَ إِلَّا مِنْ قِبَلِهِمَا». وعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنهما قَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: «إِنَّ أَبَرَّ الْبِرِّ: صِلَةُ الْمَرْءِ أَهْلَ وُدِّ أَبِيهِ بَعْدَ أَنْ يُوَلَّى». أخرجه مُسْلِم.
وعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَرْفَعُ الدَّرَجَةَ لِلْعَبْدِ الصَّالِحِ فِي الْجَنَّةِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، أَنَّى لِي هَذِهِ؟ فَيَقُولُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ».
وعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ رَجُلًا قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أُمِّي افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا؟ قَالَ: «نَعَمْ». أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ.
المرفقات
1733930154_تذكير العالَمِين بِحَقِّ الوالدين.docx
1733930154_تذكير العالَمِين بِحَقِّ الوالدين.pdf