تذكير الحكيم بالقلب السليم
خالد علي أبا الخيل
1436/11/28 - 2015/09/12 16:24PM
تذكير الحكيم بالقلب السليم
التاريخ: الجمعة: 8/ 10 /1436 هـ
الحمد لله مقلب القلوب، وكاشف الكروب، وأشهد أن لا إله إلا الله، علام الغيوب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، حس على صلاح القلوب، وجعل المعول على الصلاح القلوب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم تحصيل ما في القلوب، وستر العيوب.
أما بعد،.
إخوة السنة والكتاب: اتقوا رب الأرباب، ومسبب الأسباب، ومنزل الكتاب.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ندمت على أن لا تكون كمثله
***
*** ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
أيها المسلمون: القلوب تنوعت صفاتها، وتعددت أحوالها، وذلك لما للقلب من مكانة في الإسلام عالية، ومنزلة رفيعة غالية، فهي محل نظر الرب، ومستودع التوحيد، ومنبع الإخلاص، وأساس الإيمان، وصلاح الحال والمآل، إذا صلح القلب صلح الجوارح، وإذا استقامت ناءت الجوارح عن القبائح، ولهذا: هي الأصل ونظر الرب، ففي صلاحها تنعم وتلتذ وتطرب، جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، ولهذا: تفاضل الأعمال، وتمايزها في الإفضال، ما في القلب من صلاح الأحوال.
يقول ابن القيم: الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلب، لا بكثرتها 2.33 وصورها، بل بقوة الداعي، وصدق الفاعل، وإخلاصه وإيثاره على نفسه. أ. هـ.
وتفاضل الأعمال يتبع ما
حتى يكون العاملان كلاهما
هذا وبينهما كما بين السما
ويكون بين ثواب ذا وثواب ذا
هذا عطاء الرب جل جلاله
***
***
***
***
*** يقوم بقلب فاعلها من البرهان
في رتبة تبدو لنا بعيان
والأرض في فضل وفي رجحان
رتب مضاعفة بلا حسبان
وبذاك تعرف حكمة الديان
القلب بمنزلة الملك، والجوارح بمنزلة الجنود.
قال شيخ الإسلام: والقلب هو الأصل، كما قال أبو هريرة: القلب ملك الأعضاء، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده. أ. هـ.
فالقلب هو الأصل، والأعمال ثمرة، ولهذا كان سر التوكل هو اعتماد القلب والثقة به سبحانه، كما قال ابن القيم: وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده. وقال:
فالقلب بيت الرب جل جلاله
*** حبًا وإخلاصًا مع الإحسان
فصلاح القلب وفساده يستلزم صلاح الجسد وفساده، فالمعنى أن صلاح القلب يستلزم قيام الجوارح بطاعة الله، إذ هي الدليل الساطع والبرهان القاطع على صلاح القلب الصادق الناصع، والقلب الخاشع، وفي هذا يقول ابن حجر: وخص القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب، والحث على صلاحه، وحاصل الأمر ما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله)، قال ابن رجب: وفيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات، واتقاؤه للشبهات، بحسب صلاح حركة قلبه، فإن كان قلبه سليمًا ليس فيه إلا محبة الله، ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله، وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذرًا من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات، بحسب اتباع هوى القلب. أ. هـ.
وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (وأسألك قلبًا سليمًا)، والقلب السليم هو النافع في الدنيا والآخرة، المورد المنازل الفاخرة، (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء: 88، 89)، فالقلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهات كلها، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله، وما يحبه الله، وخشية ما يباعده عنه.
قال الحسن لرجل: داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، ولا صلاح للقلوب إلا بتوحيد علام الغيوب.
والخلاصة في القلب السليم ما قاله ابن القيم: القلب السليم هو الذي سلم أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله إرادة ومحبة وتوكلًا وإنابة وإخباتًا وخشية ورجاء، وخلص عمله لله، فإن أحب أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا 7.43 هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسول الله عليه وسلم، والقلب السليم أيضًا هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرئاسة، فسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل قاطع يقطع عن الله، فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي جنة يوم المعاد، ولا تتم له سلامته مطلقًا حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجرد والإخلاص. أ. هـ.
ومن ثم: القلب يتغير ويتقلب، ويتبدل ويضطرب.
ما سمي القلب إلا من تقلبه
*** فاحذر على القلب من قلب وتحويل
ولهذا جاء في الدعاء المأثور، عن الرسول المبرور: (اللهم: مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك، اللهم: مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على طاعتك)، بل جاء الاستعاذة من قلب لا ينفع ولا يخشع.
ولهذا: القلب الصحيح، السالم الرابح النجيح، له فوائد وثمار، وخصال وآثار، في الدنيا ودار القرار:
فمن ذلك: راحة البال وطمأنينة النفس، واجتماع القلب، قال ابن القيم على قوله سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل: 97): وقد جعل الله تعالى الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته، فإن طيب النفس وسرور القلب، وفرحه ولذته وابتهاجه، وطمأنينته وانشراحه ونوره، وسعته وعافيته، حاصل بترك الشهوات المحرمة، والشبهات الباطلة، الذي هو أساس سلامة القلب، وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من برد القلب، وسلامة الصدر، ومعرفة الرب تبارك وتعالى، والعمل على موافقته؟!، وهل العيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟!.
ومن ذلك: استنارة القلب وانشراحه، وبهجته وانفساحه، قال الله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) (النور: 35): قال أبي بن كعب: مثل نوره في قلب المسلم.
وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه في كل ناحية.
قال شيخ الإسلام: وأصل صلاح القلب حياته واستنارته. (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً) (الأنعام: 122)، وفي الدعاء المأثور: (اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا).
ومن آثاره: إدراك الحق، بل وتمييز الباطل من الحق، وقال الشنقيطي: (وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) (الحديد: 28): يعني علمًا وهدى تفرقون به بين الحق والباطل. فالقلب السليم يميز بين الشبهات والضلالات والانحراف، إلى نور الحق والهدى والآيات الواضحات.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد،.
فالقلوب السليمة، والأوعية المستقيمة لها علامات، علامات الإصلاح، وعنوان الفلاح والنجاح:
فمنها: إتقان العمل مع الشعور بالنقص والتقصير، والخوف الشديد من اللطيف الخبير، في عدم القيام بما أوجبه من كل وجه.
ومن علامات صحة القلب: اطمئنان القلب وخشوعه عند قراءة كتابه، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، وتحكيمه والرضا به، وكثرة ذكره، وانشراح القلب لطاعته، (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).
ومنها: الصبر عند البلاء، وعند الشدة والضراء، والشكر على السراء؛ لأن القلب السليم عنده قاعدة متينة: أن اختيار الله له خير من اختياره لنفسه، فالله الحكيم يضع الأشياء مواضعها، وهذا هو الرضا والتسليم.
ومن علامات صحة القلب السليم: ما قاله ابن القيم: أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، وأن يحل فيها حتى يبقى، كأنه من أهلها وأبنائها، جاء إلى هذه الدار غريبًا، يأخذ منها حاجته، ويعود إلى وطنه، كما قال عليه السلام لابن عمر: (كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل)، رواه البخاري.
ومن العلامات –وفقتم للصالحات الباقيات-: ألا يفتر عن ذكر ربه، ولا يأنس بغيره، فلسانه بذكره مشغول، وقلبه بالتفكر بآلائه معسول.
ومن الثمار –أيها الأخيار-: أنه إذا دخل وقت الصلاة ذهب عنه همه وغمه في الدنيا، واشتد عليه الخروج منها، لما يجد من الراحة والنعيم، وقرة العين والخير العميم، واللذة والسعادة، بين الركعة والسجدة.
ومن الثمار –أسعدكم القهار-: أن يكون همه واحدًا، ولواحد، في واحد.
فلواحد كن واحدًا لواحد
*** أعني سبيل الحق والإيمان
فليس له وجهة إلا الله، لا يلتفت قلبه يمنة ولا يسرة.
ومن الآثار وجميل الثمار: أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعًا مهدرًا لا فائدة فيه، من أشد الناس شحًا بماله ودرهمه وديناره، فكما أنه لا يضيع ديناره ودرهمه إلا فيما يعود عليه نفعه، فكذلك وقته، لا يفرط فيه، ولا يضيعه فيما لا فائدة فيه.
والثاني عشر من المنافع –بوئتم أعلى المنازل والروافع-: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم من التصحيح بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة، والمتابعة والمحبة.
وعصارة المطاف، وخلاصة الألطاف: أن القلب الصحيح هو الذي همه كله في الله، وحبه كله لله، وبالله وفي الله، وقصده لله، وبدنه وأعماله لله، ونومه ويقظته بالله، (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ) (الأنعام: 162، 163).
فهذه اثنا عشر علامة لصحة القلب وصلاحه، وقد نظم بعضهم هذه الخصال، وزاد وعلق بجميل النظم والمقال، فقال:
علامة صحة للقلب ذكر
وخدمة ربنا في كل حال
ولا يأنس بغير الله طرًا
ويذكر ربه سرًا وجهرًا
وفيها وهو ثانيها إذا
فيألم للفوات أشد مما
ومنها شحة بالوقت يمضي
وأيضًا من علامته اهتمام
فيصرف همه لله صرفًا
وأيضًا من علامته إذا ما
وأحرم داخلًا فيها بقلب
تناءى همه والغم عنه
ووافى راحة وسرور قلب
ويشتد الخروج عليه فيها
وأيضًا من علامته اهتمام
وأعمال ونيات وقصد
أشد تحرصًا وأشد همًا
بتفريط المقصر ثم فيها
وتصحيح النصيحة غير غش
ويحرص في اتباع النص جهدًا
ولا يصغي لغير النص طرًا
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
*** لذي العرش المقدس ذي الجلال
بلا عجز هنالك أو كلال
سوى من قد يدل إلى المعالي
ويدمن ذكره في كل حال
ما يفوت الورد يومًا لانشغال
يفوت على الحريص من الفضال
ضياعًا كالشحيح ببذل مال
بهمّ واحد غير امتحال
ويترك ما سواه من الموالي
دنا وقت الصلاة لذي الجلال
منيب خاضع في كل حال
بدنيا تضمحل إلى زوال
وقرة عينه ونعيم بال
فيرغب جاهدًا في الابتهال
بتصحيح المقالة والفعال
على الإخلاص يحرص بالكمال
من الأعمال تمت لا يبالي
وإفراط وتشديد لغالي
يمازج صفوها يومًا بحال
مع الإحسان في كل الفعال
و يعبأ بآراء الرجال
هذا:
صلوا وسلموا على
تجلت جمعة وانزاح فجر
هلموا للصلاة على نبي
***
***
*** رسولكم به وائتموا
وأشرق في جبين الكون سطر
به شرف الزمان وطاب ذكر
والله أعلم.
التاريخ: الجمعة: 8/ 10 /1436 هـ
الحمد لله مقلب القلوب، وكاشف الكروب، وأشهد أن لا إله إلا الله، علام الغيوب، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، حس على صلاح القلوب، وجعل المعول على الصلاح القلوب، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه إلى يوم تحصيل ما في القلوب، وستر العيوب.
أما بعد،.
إخوة السنة والكتاب: اتقوا رب الأرباب، ومسبب الأسباب، ومنزل الكتاب.
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى
ندمت على أن لا تكون كمثله
***
*** ولاقيت بعد الموت من قد تزودا
وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
أيها المسلمون: القلوب تنوعت صفاتها، وتعددت أحوالها، وذلك لما للقلب من مكانة في الإسلام عالية، ومنزلة رفيعة غالية، فهي محل نظر الرب، ومستودع التوحيد، ومنبع الإخلاص، وأساس الإيمان، وصلاح الحال والمآل، إذا صلح القلب صلح الجوارح، وإذا استقامت ناءت الجوارح عن القبائح، ولهذا: هي الأصل ونظر الرب، ففي صلاحها تنعم وتلتذ وتطرب، جاء في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: (إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم)، ولهذا: تفاضل الأعمال، وتمايزها في الإفضال، ما في القلب من صلاح الأحوال.
يقول ابن القيم: الأعمال تتفاضل بتفاضل ما في القلب، لا بكثرتها 2.33 وصورها، بل بقوة الداعي، وصدق الفاعل، وإخلاصه وإيثاره على نفسه. أ. هـ.
وتفاضل الأعمال يتبع ما
حتى يكون العاملان كلاهما
هذا وبينهما كما بين السما
ويكون بين ثواب ذا وثواب ذا
هذا عطاء الرب جل جلاله
***
***
***
***
*** يقوم بقلب فاعلها من البرهان
في رتبة تبدو لنا بعيان
والأرض في فضل وفي رجحان
رتب مضاعفة بلا حسبان
وبذاك تعرف حكمة الديان
القلب بمنزلة الملك، والجوارح بمنزلة الجنود.
قال شيخ الإسلام: والقلب هو الأصل، كما قال أبو هريرة: القلب ملك الأعضاء، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت جنوده. أ. هـ.
فالقلب هو الأصل، والأعمال ثمرة، ولهذا كان سر التوكل هو اعتماد القلب والثقة به سبحانه، كما قال ابن القيم: وسر التوكل وحقيقته هو اعتماد القلب على الله وحده. وقال:
فالقلب بيت الرب جل جلاله
*** حبًا وإخلاصًا مع الإحسان
فصلاح القلب وفساده يستلزم صلاح الجسد وفساده، فالمعنى أن صلاح القلب يستلزم قيام الجوارح بطاعة الله، إذ هي الدليل الساطع والبرهان القاطع على صلاح القلب الصادق الناصع، والقلب الخاشع، وفي هذا يقول ابن حجر: وخص القلب بذلك لأنه أمير البدن، وبصلاح الأمير تصلح الرعية، وبفساده تفسد، وفيه تنبيه على تعظيم قدر القلب، والحث على صلاحه، وحاصل الأمر ما في الصحيحين من حديث النعمان بن بشير مرفوعًا: (ألا وإن في الجسد مضغة، إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله)، قال ابن رجب: وفيه إشارة إلى أن صلاح حركات العبد بجوارحه، واجتنابه للمحرمات، واتقاؤه للشبهات، بحسب صلاح حركة قلبه، فإن كان قلبه سليمًا ليس فيه إلا محبة الله، ومحبة ما يحبه الله، وخشية الله، وخشية الوقوع فيما يكرهه، صلحت حركات الجوارح كلها، ونشأ عن ذلك اجتناب المحرمات كلها، وتوقي الشبهات حذرًا من الوقوع في المحرمات، وإن كان القلب فاسدًا قد استولى عليه اتباع هواه، وطلب ما يحبه ولو كرهه الله، فسدت حركات الجوارح كلها، وانبعثت إلى كل المعاصي والمشتبهات، بحسب اتباع هوى القلب. أ. هـ.
وكان من دعائه عليه الصلاة والسلام: (وأسألك قلبًا سليمًا)، والقلب السليم هو النافع في الدنيا والآخرة، المورد المنازل الفاخرة، (يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء: 88، 89)، فالقلب السليم هو السالم من الآفات والمكروهات كلها، وهو القلب الذي ليس فيه سوى محبة الله، وما يحبه الله، وخشية ما يباعده عنه.
قال الحسن لرجل: داو قلبك فإن حاجة الله إلى العباد صلاح قلوبهم، ولا صلاح للقلوب إلا بتوحيد علام الغيوب.
والخلاصة في القلب السليم ما قاله ابن القيم: القلب السليم هو الذي سلم أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله إرادة ومحبة وتوكلًا وإنابة وإخباتًا وخشية ورجاء، وخلص عمله لله، فإن أحب أحب في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا 7.43 هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسول الله عليه وسلم، والقلب السليم أيضًا هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرئاسة، فسلم من كل آفة تبعده عن الله، وسلم من كل قاطع يقطع عن الله، فهذا القلب السليم في جنة معجلة في الدنيا، وفي جنة في البرزخ، وفي جنة يوم المعاد، ولا تتم له سلامته مطلقًا حتى يسلم من خمسة أشياء: من شرك يناقض التوحيد، وبدعة تخالف السنة، وشهوة تخالف الأمر، وغفلة تناقض الذكر، وهوى يناقض التجرد والإخلاص. أ. هـ.
ومن ثم: القلب يتغير ويتقلب، ويتبدل ويضطرب.
ما سمي القلب إلا من تقلبه
*** فاحذر على القلب من قلب وتحويل
ولهذا جاء في الدعاء المأثور، عن الرسول المبرور: (اللهم: مصرف القلوب، صرف قلوبنا على طاعتك، اللهم: مقلب القلوب، ثبت قلوبنا على طاعتك)، بل جاء الاستعاذة من قلب لا ينفع ولا يخشع.
ولهذا: القلب الصحيح، السالم الرابح النجيح، له فوائد وثمار، وخصال وآثار، في الدنيا ودار القرار:
فمن ذلك: راحة البال وطمأنينة النفس، واجتماع القلب، قال ابن القيم على قوله سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً) (النحل: 97): وقد جعل الله تعالى الحياة الطيبة لأهل معرفته ومحبته، فإن طيب النفس وسرور القلب، وفرحه ولذته وابتهاجه، وطمأنينته وانشراحه ونوره، وسعته وعافيته، حاصل بترك الشهوات المحرمة، والشبهات الباطلة، الذي هو أساس سلامة القلب، وأي لذة ونعيم في الدنيا أطيب من برد القلب، وسلامة الصدر، ومعرفة الرب تبارك وتعالى، والعمل على موافقته؟!، وهل العيش في الحقيقة إلا عيش القلب السليم؟!.
ومن ذلك: استنارة القلب وانشراحه، وبهجته وانفساحه، قال الله تعالى: (اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ) (النور: 35): قال أبي بن كعب: مثل نوره في قلب المسلم.
وإذا استنار القلب أقبلت وفود الخيرات إليه في كل ناحية.
قال شيخ الإسلام: وأصل صلاح القلب حياته واستنارته. (أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً) (الأنعام: 122)، وفي الدعاء المأثور: (اجعل القرآن ربيع قلوبنا، ونور صدورنا).
ومن آثاره: إدراك الحق، بل وتمييز الباطل من الحق، وقال الشنقيطي: (وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) (الحديد: 28): يعني علمًا وهدى تفرقون به بين الحق والباطل. فالقلب السليم يميز بين الشبهات والضلالات والانحراف، إلى نور الحق والهدى والآيات الواضحات.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
وبعد،.
فالقلوب السليمة، والأوعية المستقيمة لها علامات، علامات الإصلاح، وعنوان الفلاح والنجاح:
فمنها: إتقان العمل مع الشعور بالنقص والتقصير، والخوف الشديد من اللطيف الخبير، في عدم القيام بما أوجبه من كل وجه.
ومن علامات صحة القلب: اطمئنان القلب وخشوعه عند قراءة كتابه، والتخلق بأخلاقه، والتأدب بآدابه، وتحكيمه والرضا به، وكثرة ذكره، وانشراح القلب لطاعته، (الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللَّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ) (الرعد: 28).
ومنها: الصبر عند البلاء، وعند الشدة والضراء، والشكر على السراء؛ لأن القلب السليم عنده قاعدة متينة: أن اختيار الله له خير من اختياره لنفسه، فالله الحكيم يضع الأشياء مواضعها، وهذا هو الرضا والتسليم.
ومن علامات صحة القلب السليم: ما قاله ابن القيم: أن يرتحل عن الدنيا حتى ينزل بالآخرة، وأن يحل فيها حتى يبقى، كأنه من أهلها وأبنائها، جاء إلى هذه الدار غريبًا، يأخذ منها حاجته، ويعود إلى وطنه، كما قال عليه السلام لابن عمر: (كن في الدنيا كأنك غريب، أو عابر سبيل)، رواه البخاري.
ومن العلامات –وفقتم للصالحات الباقيات-: ألا يفتر عن ذكر ربه، ولا يأنس بغيره، فلسانه بذكره مشغول، وقلبه بالتفكر بآلائه معسول.
ومن الثمار –أيها الأخيار-: أنه إذا دخل وقت الصلاة ذهب عنه همه وغمه في الدنيا، واشتد عليه الخروج منها، لما يجد من الراحة والنعيم، وقرة العين والخير العميم، واللذة والسعادة، بين الركعة والسجدة.
ومن الثمار –أسعدكم القهار-: أن يكون همه واحدًا، ولواحد، في واحد.
فلواحد كن واحدًا لواحد
*** أعني سبيل الحق والإيمان
فليس له وجهة إلا الله، لا يلتفت قلبه يمنة ولا يسرة.
ومن الآثار وجميل الثمار: أن يكون أشح بوقته أن يذهب ضائعًا مهدرًا لا فائدة فيه، من أشد الناس شحًا بماله ودرهمه وديناره، فكما أنه لا يضيع ديناره ودرهمه إلا فيما يعود عليه نفعه، فكذلك وقته، لا يفرط فيه، ولا يضيعه فيما لا فائدة فيه.
والثاني عشر من المنافع –بوئتم أعلى المنازل والروافع-: أن يكون اهتمامه بتصحيح العمل أعظم من التصحيح بالعمل، فيحرص على الإخلاص فيه والنصيحة، والمتابعة والمحبة.
وعصارة المطاف، وخلاصة الألطاف: أن القلب الصحيح هو الذي همه كله في الله، وحبه كله لله، وبالله وفي الله، وقصده لله، وبدنه وأعماله لله، ونومه ويقظته بالله، (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ) (الأنعام: 162، 163).
فهذه اثنا عشر علامة لصحة القلب وصلاحه، وقد نظم بعضهم هذه الخصال، وزاد وعلق بجميل النظم والمقال، فقال:
علامة صحة للقلب ذكر
وخدمة ربنا في كل حال
ولا يأنس بغير الله طرًا
ويذكر ربه سرًا وجهرًا
وفيها وهو ثانيها إذا
فيألم للفوات أشد مما
ومنها شحة بالوقت يمضي
وأيضًا من علامته اهتمام
فيصرف همه لله صرفًا
وأيضًا من علامته إذا ما
وأحرم داخلًا فيها بقلب
تناءى همه والغم عنه
ووافى راحة وسرور قلب
ويشتد الخروج عليه فيها
وأيضًا من علامته اهتمام
وأعمال ونيات وقصد
أشد تحرصًا وأشد همًا
بتفريط المقصر ثم فيها
وتصحيح النصيحة غير غش
ويحرص في اتباع النص جهدًا
ولا يصغي لغير النص طرًا
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
***
*** لذي العرش المقدس ذي الجلال
بلا عجز هنالك أو كلال
سوى من قد يدل إلى المعالي
ويدمن ذكره في كل حال
ما يفوت الورد يومًا لانشغال
يفوت على الحريص من الفضال
ضياعًا كالشحيح ببذل مال
بهمّ واحد غير امتحال
ويترك ما سواه من الموالي
دنا وقت الصلاة لذي الجلال
منيب خاضع في كل حال
بدنيا تضمحل إلى زوال
وقرة عينه ونعيم بال
فيرغب جاهدًا في الابتهال
بتصحيح المقالة والفعال
على الإخلاص يحرص بالكمال
من الأعمال تمت لا يبالي
وإفراط وتشديد لغالي
يمازج صفوها يومًا بحال
مع الإحسان في كل الفعال
و يعبأ بآراء الرجال
هذا:
صلوا وسلموا على
تجلت جمعة وانزاح فجر
هلموا للصلاة على نبي
***
***
*** رسولكم به وائتموا
وأشرق في جبين الكون سطر
به شرف الزمان وطاب ذكر
والله أعلم.
المرفقات
789.doc
خطبة تذكير الحكيم بالقلب السليم - للشيخ خالد بن علي أبا الخيل.doc
خطبة تذكير الحكيم بالقلب السليم - للشيخ خالد بن علي أبا الخيل.doc