تَذكيرُ الحُرْ-بشدّةِ الحَرْ
خالد علي أبا الخيل
تَذكيرُ الحُرْ-بشدّةِ الحَرْ
التاريخ: الجمعة:7 –ذو القعدة-1439 هـ
الحمد لله، الحمد لله القائل: (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ)(النور:44)، وأشهد أن لا إله إلا الله الذي جعل شدة الحر من فيح النار، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، المُخبر أن الحر نفسٌ من نفس النار صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه الأخيار، أخص الخلفاء الأربعة الأطهار: أبو بكرٍ، وعمر، وعثمان، وعليٌّ البار.
أما بعد...
فاتقوا الواحد القهار فمن اتقاه وقاه عذاب النار، وجنَّبه أسباب سخط الجبار.
أيها المسلمون اعلموا أن الليل والنهار والشهور والأعوام آياتٌ من آيات الملك العلام، قال القدوس السلام: (وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ) (فصلت:37).
واختلاف الليل والنهار آيةٌ من آيات الواحد القهار كما قال –عزَّ وجلَّ-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الأَلْبَابِ)(آل عمران:190).
وفي تقلبهما عبرةٌ للأبصار وأولي الأبصار (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُوْلِي الأَبْصَارِ)(النور:44).
(وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا)(الفرقان:62).
فاشتداد الحر –أيها المسلمون- من جملة الآيات الكونية التي يُخوِّف الله بهما عباده، فلا نسبة لفصولٍ معينة ولا إلى أبراجٍ قمرية، وإنما هما آيتان من آيات الله الكونية.
أيها الإخوة في العقيدة والسُّنَّة: حديثنا في مجالسنا، وكلامنا في مجتمعاتنا يدور هذه الأيام عن شدة الحرارة وارتفاع المؤشر والعلامة، ففي هذه الأيام الأجواء شديدة الحرارة، إن حرارة الشمس ولهبها يجعل الإنسان يبحث عن ظلٍّ يقيه من حرها، وسكنٍ يُظله عن ضوئها، وماءٍ باردٍ يُبرِّد، ومكيفٍ باردٍ يُخفف من حرارةٍ.
إن الدنيا –عباد الله- لا تدوم على حال، ودوام الحال من المُحال والراحة والسكينة في جنة الكبير المتعال؛ ولهذا كان نعيم أهل الجنة لا يجدون الحر ولا يرون الشمس، كما لا يجدون شدة البرد ظلٌّ دائم، واعتدالٌ قائم لا حرٌّ يلفح ولا بردٌ يجرح.
قال سبحانه وبحمده: (وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا)(النساء:57) وقال: (لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلا زَمْهَرِيرًا)(الإنسان:13) وقال: (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ)(الواقعة:30).
وفي الجنة كما في صحيح السُّنَّة (إِنَّ فِي الْجَنَّةِ لَشَجَرَةً يَسِيرُ الرَّاكِبُ فِي ظِلِّهَا مِائَةَ عَامٍ لَا يَقْطَعُهَا اقرؤوا إن شئتم (وَظِلٍّ مَمْدُودٍ)(الواقعة:30)) متفقٌ عليه، وقال سبحانه: (أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا) (الرعد:35)
قال ابن مسعود ﭬ: الجنة سجسجٌ كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس، رواه ابن المبارك في (الزهد) وأحمد في (الزهد)، والسجسجة -إخوة الإيمان-: الاعتدال في الجو يُقال: يومٌ سجسجٌ، إذا لم يكن فيه حرٌ مؤذٍ ولا بردٌ شديد، هذا عطاء الرحمن إخوة الإيمان، وهذا نعيم الجنان.
وبضد ذلك -إخوة السنة والقرآن- حرارة النيران، ظلها يحموم، وهبوبها سموم، قال سبحانه وتعالى: (وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ) (الواقعة: 41-44) فالسَّمُوم الهواء الحار، والحميم الماء الحار، واليحموم ظل الدخان الحار، فاجتمع حرارة الهواء والماء والدخان، -أجارني الله وإياكم من النيران-.
ومن المنن التي يعدها أهل الجنة لربهم عليهم: أنه أبعد عنهم الحرارة، أنهم يقولون: (فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ) (الطور:27).
ومن شدة حرها -أيها المسلمون- أن بعضها يأكل بعضًا، وأشد حرٍّ نجده في الصيف ما هو إلا نَفسٌ من أنفاسها، ففي الصحيحين عن أبي هريرة ﭬ مرفوعًا: (اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ : يَا رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا ، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ : نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ) يعني: البرد، متفقٌ عليه، وهذه الشكوى حقيقة.
قال ابن عبد البر $: يعضده عموم الخطاب، وظاهر الكتاب، وهو أولى بالصواب، وجاء في الصحيحين: (إذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ فَأَبْرِدُوا بالصَّلاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) متفقٌ عليه.
عباد الله: إذا كان شدة الحر وقوته ناتجٌ عن حرارة النار وشدتها، فلنستعذ بالله من النار، وأعمال أهلها، وإذا كنا لا نطيق الحر ولا لحظةٍ واحدة، ولا نصبر ولو دقيقةٍ واحدة، أفلا نتذكر نار جهنم (قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ) (التوبة:81).
وإذا كنا نعمل سبل الوقاية للأهل والذرية بالسُّبل الباردة، والتكييف والراحة، والمياه الباردة العذبة، أفلا نقيهم سُبل الهلاك والغواية؟! وأسباب الذنوب والأخلاق السيئة؟! أفلا نُذكِّرهم بالنار الحامية وبالخوف من الله؟! لينالوا الصلاح والسعادة (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ)(التحريم:6) أفلا نتذكر نار جهنم فنعمل السبل الواقية، والسلامة والحماية، ونفر من شدة حر جهنم كما نفر من حرارة الدنيا.
تَفِرُّ مِنَ الهَجيرِ وَتَتَّقيهِ |
|
فَهَلّا عَن جَهَنَّمَ قَد فَرَرتا |
عباد الله: إن الله لم يُذكِّر بأعظم من النار، فهي تذكرةٌ وعبرة، وتنبيهٌ وعظة؛ ولهذا ربنا سبحانه يُذكرنا بالنار، ويحذرنا منها وعذابها البوار (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ) (آل عمران:131)، وقال جلَّ ذكره: (فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى) (الليل:14)، وقال عزَّ اسمه: (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ) (الزمر:16)، وقال: (وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَر (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَر (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ) (المدثر:31-36) يقول الحسن $: والله ما أُنذِر العباد بشيءٍ قط أدهى منها.
وكان النبي ﷺ يُحذِّر من النار، كما في صحيح الأخبار أنه ذكر النار فأشاح بوجهه، فتعوذ منها، ثم ذكر النار فأشاح بوجهه فتعوذ منها، ثم قال: (تَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) متفقٌ عليه.
وعند أحمد والحاكم والبيهقي والدارمي بسندٍ حسن، عن النعمان بن بشير قال: سمعت رسول الله ﷺ وهو يخطب يقول: (أَنْذَرْتُكُمْ النَّارَ، أَنْذَرْتُكُمْ النَّارَ) حتى لو أن رجلاً كان بالسوق لسمعه من مقامي هذا، قال: حتى وقعت خميصةٌ كانت على عاتقه عند رجليه.
وكان يُحذِّر قرابته، فقال كما في مسلم لما نزل عليه: (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ) (الشعراء:214) دعا قريشًا فاجتمعوا فعمَّ وخصَّ، فقال: (يَا بَنِي كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنْقِذُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا فَاطِمَةُ، أَنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا).
وكان عُمر يقول: أكثروا ذكر النار، فإن حرها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها الحديد.
والخوف من النار يدفع المسلم إلى العمل الصالح، واجتناب الذنوب والقبائح.
الخوف من النار يمنع المسلم من ترك الواجبات وفعل المحرمات، وظلم العباد وأكل لحوم الغافلين والغافلات.
عباد الله: لا طاقة لنا على النار، ولو لحظةً من نهار، فأين الخوف من النار؟! فقد قال سبحانه للملائكة المقربين الأخيار: (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ)(الأنبياء:29).
وأين الخوف من النار؟! وقد قال سبحانه لرسله وأنبيائه الأطهار: (ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا) (الإسراء: 39).
وأين الخوف من النار وقد قال سبحانه عن عباده الصالحين الأخيار أنهم يسألون الواحد القهار: (الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) (آل عمران: 16)، (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) (الفرقان: 65).
إن شدة الحر في الدنيا تُذكِّر بِحر الموقف وشدته ( تُدْنَي الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ مِيلٍ، فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا) وأشار النبي ﷺ إلى فيه.
إن العَرَق يوم القيام ليذهب في الأرض سبعين باعًا، وأنه ليبلغ إلى أفواه الناس وآذانهم، فتذكروا واذكروا، وانتبهوا واتعظوا، ما دام الإنسان في زمنٍ الإمكان حريٌّ بالتوبة والإقبال، والعمل الصالح للرحيم الرحمن المتعال.
قال ابن رجب $: وينبغي لمن كان في حر الشمس أن يتذكر حرها في الموقف، فإن الشمس تدنو من رؤوس العباد يوم القيامة، ويُزاد في حرها؛ ولذا ينبغي لمن لا يصبر على حر الشمس في الدنيا أن يتجنب من الأعمال ما يستوجب به صاحبه دخول النار، فإنه لا قوة لأحدٍ عليها ولا صبر. انتهى.
إن شدة الحر حكمةٌ بالغة، وآيةٌ باهرة، وفصولٌ متقلبةٌ لحِكمٍ ظاهرة، يقول ابن القيم: ثم تأمل بعد ذلك أحوال الشمس في انخفاضها وارتفاعها لإقامة هذه الأزمنة والفصول، وما فيها من المصالح والحِكم، إذ لو كان الزمان كله فصلًا واحدًا لفاتت مصالح الفصول الباقية، فلو كان صيفًا كله لفاتت منافع ومصالح الشتاء، ولو كان شتاءً لفاتت مصالح الصيف، وهكذا.
ومن أبواب الأجور في شدة الحرور: سقي الماء، فمن كثرت ذنوبه فعليه أن يسقي الماء لاسيما في شدة الحر والظمأ، فإذا غُفرت ذنوبه من سقى كلبًا وقد ارتكب جرمًا، فما الظن بمن سقى مؤمنًا؟
وكذا الصيام فد كان النبي يصوم في شدة الحر شريطة ألا يضـره، وقد قال أبو الدرداء في يومٍ حار: إن أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر ما فينا أحدٌ صائمٌ إلا رسول الله وعبد الله بن رواحة، وقد قال أبو الدرداء: صوموا يومًا شديد الحر لحر يوم النشور، وليتذكر المرء بالحرارة الموت وما بعده.
ولما رأى عمر بن عبد العزيز قومًا في جنازة وقد هربوا من الشمس إلى الظل أنشد:
مَنْ كَانَ حِينَ تُصِيبُ الشَّمْسُ جَبْهَتَهُ |
|
أَوِ الْغُبَارُ يَخَافُ الشَّيْنَ وَالشَّعَثَا |
وَيَأْلَفُ الظِّلَّ كَيْ تَبْقَى بَشَاشَتُهُ |
|
فَسَوْفَ يَسْكُنُ يَوْمًا رَاغِمًا جَدَثًا |
أسأل الله أن يظلنا في ظله، وأن يرحمنا برحمته، وأن يتجاوز عنَّا بعفوه، ويُنقذنا ووالدينا وأزواجنا، وذرياتنا وأقاربنا وجيراننا، وسائر أحبابنا وإخواننا من النار.
قلت ما سمعتم وأستغفر الله إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على ما دبَّر وقضـى، وأشهد ألا إله إلا الله المولى، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله المصطفى.
عباد الله: إن المسلم يأخذ من هذه المناسبة، وشدة الحرارة الدروس والعبر، والفوائد والفِكَر، فمن ذلك أن الصيف والشتاء آيتان من آيات الله، جعل الله في تعاقبهما الاتعاظ والعبرة، والرجوع والتذكرة، ومنها أن الإنسان ضعيفٌ لا يتحمل شيئًا، فإذا جاء الشتاء تمنى الصيف، وإذا جاء الصيف تمنى الشتاء (إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ) (هود:9) يتمنى المرء في الصيف الشتاء، فإذا جاء الشتاء أنكره، فهو لا يرضى بحالٍ واحدٍ (قُتِلَ الإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ) (عبس:17)، وفي الحديث: (ابْنُ آدَمَ إِنْ أَصَابَهُ الْبَرْدُ ، قَالَ: حَسِّ، وَإِنْ أَصَابَهُ الْحَرُّ، قَالَ: حَسِّ) وحس كلمةٌ تُقال عند الألم المفاجئ والتوجع.
وكذا على المرء الصبر والمثابرة على الطاعة، وترك المعصية، وحضور الجُمع والجماعة، وفعل النوافل: كالصيام، والبر، والإحسان، ويحتسب الأجر من الكريم المنان، وفي الحديث: (أَجْرُك عَلَى قَدْرِ نَصَبِك).
ومن الدروس: شكر الله على نعمة السكن والتكييف، ووسائل التبريد المختلفة، وعلى وجود الثلاجات والمكيفات المتنوعة، كما لا ننسى نعمة الماء البارد على الظمأ، فالحمد لله، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه.
ومن الدروس: تذكُّر إخوانًا لنا لا يجدون ماءً باردًا، ولا مكانًا وارفًا، ولا ظلًا هادفًا، فهم في شدة الحر يعيشون، وفي الرمضاء يجلسون، ومن الماء الحار يشـربون، وكذا الحذر من الكلمات النابية من سب الدهر، والتسخط، والتذمر من شدة الحر، ولا مانع من الإخبار بأن هذا اليوم شديدٌ حره، لكن على المرء البعد عن السب والتسخط وبذاءة الكلام فيما قدَّر القدوس السلام.
وعلى الإنسان في شدة الحر ملاحظة خصال الفطرة: كشعر الإبط والعانة، وتقليم الأظافر، وقص الشارب، فينبغي ملاحظة الجسم والأماكن الحساسة بالطِّيب والرائحة، وجمال اللباس والزينة، وفي صحيح السُّنَّة: (إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ) رواه مسلم.
وكان النبي يعتني بعرقه، كما قال أنسٌ ﭬ: ولا شممت ريحًا قطُّ أو عرقًا قطُّ أطيب من ريح أو عرق النبي ﷺ. متفقٌ عليه.
فالاغتسال والنظافة، والطِّيب والنزاهة من مكارم الخصال ومحاسن الشـريعة، وحُسن المجالسة والعسرة.
وكذا -عباد الله- علينا في شدة الحر أخذ الحيطة والوقاية، والعلاج والحماية، كعدم المشـي في شدة الحر لاسيما المسافر، وعليه النظر في عجلات السيارة لصلاحها وإصلاحها، والبعد عن وهج الشمس، وتبادل وسائل التبريد المختلفة.
وكذا لا ننسى إخوانًا لنا من المحتاجين والفقراء والمساكين، والنظر في حالهم، ووسائل تبريداتهم ومياههم، والصدقة عليهم (وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ).
وكذا الأخذ بالوسائل والوقاية من شدة الحر والحرارة ففي الصحيح: (إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ فَأَبْرِدُوا عَنِ الصَّلاَةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ) وكان الصحابة كما قال أنس: كنا مع رسول الله ﷺ في شدة الحر فإذا لم يستطع أحدنا أن يُمكِّن جبهته من الأرض بسط ثوبه فسجد عليه. رواه مسلم.
وكذا رحمة العمال والشفقةُ عليهم، ووقايتهم حر الشمس، والتخفيف عليهم في شدة الحر، وعدم تحميلهم ما لا يطيقون، وفي شدة الحر التنبيه للصدقة على الآخرين، وإعانتهم بما يحتاجون.
ولا نجعل من شدة الحر تضييع الواجبات الأعمال الموكولة إلينا، والمحافظة على الصلوات بأوقاتها، أو تضييع الصلوات بأوقاتها؛ أو نسهر بالليل لأجل أن ننام بالنهار، فنُضيع علينا فوائد الدنيا والآخرة، فنومٌ بالنهار وسهرٌ بالليل، فلا مصلحةٌ أخرى ولا صحةٌ في الدنيا، فمن شُكر الله القيام بما أوجب الله، والحفاظ على حدود الله، والتزام شرع الله.
وعلى أصحاب المهن والأعمال الشاقة النظافة والنزاهة، وتغيير ملابس العمل لاسيما للصلاة، ومن توضأ بالماء جراء حرارة الصنابير فهو على أجرٍ كبير، فعن البشير النذير (إِسْباغُ الْوُضُوءِ عَلى المَكَارِهِ مِن أسباب دخول الجنَّة).