تذكير الأنام بصيام الست

خالد علي أبا الخيل
1437/10/13 - 2016/07/18 06:59AM
تذكير الأنام بصيام الست
والشكر على شهر الصيام
التاريخ: الجمعة: 3 / شوال /1437 هـ

الحمد لله على نعمة الصيام، أنعم علينا بالصيام والقيام، أحمده سبحانه على توفيقه وإحسانه على حسن الختام، وأشهد أن لا إله إلا الله الملك العلام، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله سيد الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه خير صحب ختام، وعلى التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المقام.
أما بعد،.
عباد الله: اتقوا الله تفوزوا، وللخيرات تحوزوا، وعلى الصراط تعبروا وتجوزوا.
ألا إن تقوى الله أكرم نسبة
*** تسامى بها عند الفخار كريم

أيها المسلمون: إن نعم الله علينا كثيرة، وفواضله جسيمة، ومن ذلك ما أشار إليه سبحانه بعد فرض الصوم ونهايته، {وَلِتُكَبِّرُواْ اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة: 185]، هكذا ختم الله أحكامه، وفرض الصيام بتذكير عباده بشكره بعد الختام، فهو الذي شرع ويسر، وأعان وأقدر.
أنت الكريم فلولا رحمة سبقت
***
لم يعط شربة ماء جاحد عاص

تعطي بغير حساب لا تظن ولا
*** يغيب لطفك عن دانٍ وعن قاص


وجنة الخلد تعطيها لمن حملوا
***
عبء الحقيقة في صبرٍ وإخلاص

إن من فضل الله على عباده: امتنانه عليهم بمواسم الطاعات، ونهايتها وإكمالها، فالمرء قد أطاع ربه، وصام فرضه، وأنهى واجبه، واستكمل شهره، فمن الذي أعانك وهداك، ووفقك وأولاك؟ إنه مولاك، فكم محروم من الصيام نسأل الله له الهداية والإسلام، وكم ممن لم يستطيع الصيام، كأصحاب الأمراض والآلام نسأل الله لهم الشفاء التام، والأجر والعطايا الجسام، وكم ممن اخترمتهم المنايا قبل شهر العطايا، أو صاموا أوقاتًا وأيامًا نسأل الله أن يغفر لهم الذنوب، ويجزل للكل العطايا.
وأنت بمنه وبفضله، وجزيل خيره وعصائه، صمت وصليت، وقمت ودعيت، فاحمد الله على نعمة التوفيق على الصيام حيث أعانك على إتمام الشهر، وقيامه على التمام.
إن الهمة العالية، والنفوس العظيمة الغالية تردد.
إذا أنت لم تزدد على كل نعمة
*** لموليكها شكرًا فلست بشاكر

وربنا يقول: {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} [إبراهيم: 7]، وبعض الناس يفهم من هذه الآية نعم الدنيا فقط، أو يحصرها على ذلك، كالمسكن والولد، والمال بلا عدد، والآية شاملة لنعمة الدنيا والآخرة، ولنعم الدين والدنيا الفاخرة، ولهذا شكر الله لا ينتهي مهما كان ولا ينقضي، قال ابن رجب -رحمه الله-: على كل نعمة على العبد من الله في دين أو دنيا يحتاج إلى شكرٍ عليها، ثم إن التوفيق للشكر نعمة أخرى تحتاج إلى شكرٍ ثانٍ، ثم التوفيق للشكر الثاني نعمة أخرى، تحتاج إلى شكر آخر، وهكذا أبدًا فلا يقدر العبد على القيام بشكر النعم، وحقيقة الشكر الاعتراف بالعجز عنه، كما قيل:
إذا كان شكري نعمة الله نعمةً
فكيف بلوغ الشكر إلا بفضله
***
*** عليَّ له في مثلها يجب الشكر
وإن طالت الأيام واتصل العمر؟

ومن شكر الله على تمام الصيام والقيام: الصيام شكرًا على الصيام، وقد كان بعض السلف إذا وفق لقيام ليلة من الليالي أصبح نهاره صائمًا، ومن علامة الحسنة، فعل الحسنة بعد الحسنة، ومن هذه الحسنة صيام الست من شوال كما جاء عن الرسول المفضال: (من صام رمضان، ثم أتبعه ستًا من شوال، كان كمن صام الدهر)، رواه مسلم، وذلك من فضل الله الذي يعطي على الحسنة عشر أمثالها، وذلك أن رمضان بعشرة أشهر، وهذه الأيام الست، كل يوم منها بعشرة أيام، فمجموعها ستون يومًا، فكان صيام رمضان والأيام الستة باثني عشر شهرًا، وذلك عام كامل، فسبحان من لا تنقص خزائنه، ويثيب عباده، فهي فرصة سانحة فاغتنمها، ولا تفرط في صيامها، واعزم على فعلها قبل فواتها، فربما لا تدركها مرة أخرى، والمرء أمير نفسه في صيامها، إن شاء تابع بينها، وإن شاء فرقها، والسنة تتابعها، وهو من المسارعة والمبادرة للخيرات، وأيضًا دليل على الرغبة بالصيام، ولئلا يعرض له ما يمنعه من صيامها.
ومن اللفتات: أن الستة بعد رمضان كالراتبة مع الفريضة، ولهذا قبله نافلة صيام شعبان، وبعده نافلة صيام الست من شوال، وشهر شوال كله محل للصيام، وعلى الصحيح يجوز صومها قبل صيام الفرض لمن كان عليه قضاء، لكن الأفضل والأكمل صيام الفرض ثم صيام الست.
ومن المسائل في هذا الباب: من كان معذورًا ولم يقدر أن يصوم الستة في شوال، فله صيامها في ذي القعدة، كالمريض المستمر مرضه في شوال، أو النفساء ونحوهما ممن له عذر من صيامها في شوال، يقضيها ويؤجر عليها –بإذن الله-.
ومن مسائلها: أنه يجوز قطع صيامها لعذر أو غير عذر، فـ(المتطوع أمير نفسه)، ويكره القطع لغير عذر، ومن صام بعضها وترك بعضها، فإن كان لعذر شرعي، كموت، أو مرض، أو حيض، أو نفاسٍ، فالأجر له كاملًا مأجورًا، ففي البخاري: (إذا مرض العبد أو سافر كُتب له ما كان يعمل صحيحًا مقيمًا)، وإذا ترك لغير عذر، فالمشروط لحصول الثواب صيامها كلها، فلا يصدق عليه أنه صامها لمن صام بعضها.
ومما يجب التنبيه عليه: التفريق والتتابع في صيامها، ينظر المرء مصلحته في ذلك، كمن يفطر لأجل صلة رحم، أو برٍ بوالدٍ أو والدة، أو غير ذلك لمصلحة راجحة، فهو مأجور مشكور، وعمل صالح مبرور، فيا –أيها الصائم- انظر ما هو أصلح وأنفع فافعله، فقد يكون التفريق أفضل وأعظم من التتابع.
ومن الأخطاء في صيام الست: اعتقاد وجوب صيامها، أو أن من صامها وجب عليه كل سنة صيامها، أو أن من صام بعضها وجب عليه إكمالها، وهذا لا أصل، ولا دليل عليه.
ومن الأخطاء: تسمية اليوم الثامن من شوال بعيد الأبرار، ولو على وجه المزاح والتندر كما تسمية العوام، وهذا كما قال شيخ الإسلام: فليس عيدًا للأبرار، ولا للفجار، ولا يجوز أن يعتقده عيدًا، ولا يحدث فيه شيئًا من شعائر العيد، فإنه ليس بعيد إجماعًا، ولا شعائره شعائر العيد. انتهى.
هذا وبعض الناس يستحقر من لا يصومها، أو يتنقصه، أو يحط من قدره، أو يسخر به، أو ينقص في عينه، وهذا خطأ فاحش، فربما إفطاره أعظم أجرًا وأزكى ثوابًا لمصلحة، أو بر، أو صلة، أو عبادة متعدية، أو غير ذلك مما لا يعلم به إلا الله، وقد يكون عند من لم يصم أعمال خفية أعظم من صيامها، فبره، وصلته، ونفعه المتعدي، وقيامه بالواجب، في أعظم الأجور، والقاعدة: انظر ما هو أصلح لقلبك فافعله، وقد تكون هذه النظرية سبب لحبوط العمل، وحصول الرزيّة، كالعجب، والكبر، والرياء، والسمعة، فكم مفطر يفوق من صام وطلب الأجر؟ فرب صائم حظه من صيامه التعب والسهر، ولا يعلم بالنيات إلا رب البريات، فحذارِ حذارِ من الدخول في النيات، واحتقار وازدراء المؤمنين والمؤمنات.
ومن الأخطاء –أيها الأوفياء-: اعتقاد وجوب التتابع في صومها.
ومنها: أنه لا يجوز صيام يوم الجمعة لو أراد أن يصوم الست فيها، والصحيح يجوز ولو أفرد الجمعة بصيامها، ولو صام الستة في أيام البيض والإثنين حاز بإذن الله الحسنيين.
ومما ينبغي التنبيه عليه: أن يعقد نية صيامها من الليل أكمل وأفضل، ولا بأس بصيامها في السفر، كمن يذهب لمكة مثلًا، والمرأة في صيامها كالرجل، وله تفطيرها إن لم تستأذنه في صيامها.
ومما ينبغي أن يعلم: أنه لا يجوز ولا يصح الجمع بين نية قضاء رمضان، وبين نية صيام الست من شوال، وهذا يقع من بعض النساء اللاتي عليهن قضاء، فتجمع بين النيتين، فينبغي أن يذكر ويعلم، فالفرض له نية مستقلة وعبادة منفردة.
وقد يسأل سائل: هل تصام هذه الست عن الميت إذا مات في شوال؟.
فالجواب: لا تصام عنه إلا إذا نذرها.
فإن سألت عن الحكمة من صيامها؟.
فالجواب: من علامة الحسنة الحسنة بعدها، وهو دليل على قبولها، ومنها لما يقع من التفريط والتقصير في الصيام، فتأتي هذه الأيام لتجبر النقص وترقع الخلل؛ ولأن الناس اعتادوا الصيام، فيسهل عليهم ذلك، والنوافل تجبر نقص الفرائض.
ومنها: تعظيم شهر الصيام، حيث أنه محفوظ بصيامين، كالسنة بين الفرضين.
ومنها: أن من جامع في صيام الست من شوال إنما عليه القضاء فقط، وأما الكفارة فهي من خصائص من رمضان.
والعشرون -وهي الخاتمة يا مسلمون-: إنه ينبغي إبراء الذمة في قضاء ما في الذمة من الصيام، فالمرء لا يدري ما يعرض له، وقد ينسى ذلك ويغفل عنه.
فهذه عشرون مسألة في صيام الأيام الستة، رفع الله لكم المنزلة، وأعلى لكم الدرجة، ورزقنا التوفيق والمعونة.

الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وصلى الله وسلم على رسوله المجتبى.
وبعد،.
أيها الإخوة الكرماء: ومن شكر الله على الصيام، الاستقامة وعدم الترك والتقصير: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [إبراهيم: 99]، وقال الله لنبيه: {فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ} [هود: 112]، وفي مسلم: (قل: آمنت بالله. ثم استقم)، فالعبادات لا تنتهي، والأعمال لا تنقضي، ولهذا كان أحب الأعمال إلى الله وإلى رسول الله أدومها، وكان إذا عمل عملًا داوم عليه.
وللمداومة على الأعمال الصالحة فوائد مثمرة:
فمنها: أنها محبوبة إلى الله ورسوله، وكفى بها فائدة.
وكذا: النجاة من المضائق، وحصول النكبات والمآزق، (تعرّف إلى الله في الرخاء، يعرفك في الشدة).
ومنها: معاهدة النفس عن غفلتها ونسيانها وكسلها.
ومنها: سبب لرفعة الدرجات، وسكن أعلى الجنات، وتكفير السيئات، وكثرة الحسنات.
ومن فوائدها: أن من عجز عن عملها وهو مستمر عليها، كتب الله له أجرها وثوابها، وهذا بحد ذاته مما يرغب في فعلها، والاستمرار والمداومة عليها.
ومن الفوائد: أنها سبب للموت عليها، وهو سبب لحسن الخاتمة فيها، فقد أجرى الكريم عادته: أن من عاش على شيء، مات عليه، وفي صحيح السنة: (مات على شيء بعث عليه)، ولا يحسن بمن داوم على عمل أن يتركه، ففي المتفق عليه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يا عبد الله: لا تكن مثل فلان، كان يقوم الليل، فترك قيام الليل).
أيها الإخوة: اسمعوا إلى هذه النماذج السلفية، والصور المشرقة الحيوية، وتطبيق العلم والعمل بمصداقية، وحرص دؤوب وجدية، سواء في باب الطاعات، والعبادات، أم في باب ترك الذنوب والسيئات، فهل لنا في هؤلاء القوم أسوة؟ وبالصفوة الكرام قدوة؟ وشحذ الهمة إلى العمل والقمة؟.
ففي مسلم تقول أم حبيبة -لما حدثت عن النبي صلى الله عليه وسلم-: (من صلى اثنتين عشر ركعة بني الله له بيت في الجنة)، قالت أم حبيبة: ما تركتهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال عن عنبسة: ما تركتهن منذ سمعتهن من أم حبيبة. وقال عمرو بن أوس: ما تركتهن منذ سمعتهن من عنبسة. وقال النعمان بن سالم: ما تركتهن منذ سمعتهن من عمرو بن أوس. هكذا سلسلة في العمل والتربية الحسنة.
ولما علَّم النبي صلى الله عليه وسلم عليًا وزوجته فاطمة أن يقولا كل ليلة: سبحان الله ثلاثًا وثلاثين، والحمد لله ثلاث وثلاثين، والله أكبر أربع وثلاثين. قال علي تطبيقًا واستمرارًا: فما تركتهن بعد. فقال له رجل: ولا ليلة صفين؟. قال: ولا ليلة صفين. رواه أحمد والترمذي والدارمي بسند صحيح.
وقال ابن عمر: ما تركت استلام هذين الركنين في شدة ولا رخاء منذ رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يستلمهن. متفق عليه.
وقال أبو الدرداء: أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاث لن أدعهن ما عشت: بصيام ثلاث أيام من كل شهر، وصلاة الضحى، وبأن لا أنام حتى أُوتر.
وتقول عائشة -رضي الله عنها-: لما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لكنّ أحسن الجهاد وأجمله حج مبرور)، قالت: فلا أدع الحج بعد أن سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ولما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (نعم الله عبد الله لو كان يقوم من الليل)، فقال ابن عمر: ما تركت قيام الليل بعد.
هكذا –عباد الله- القوم صدقوا ما عاهدوا الله عليه، طبقوا وامتثلوا فكانوا أئمة صدق يقتدى بهم، يرجون الدرجات العالية، والمنازل والغرف الرفيعة.
وفي جانب المعاصي والسيئات: اسمعوا إلى صدق القوم والثبات الراسي، قال أبو بكر -رضي الله عنه- لما قيل له: هل شربت الخمر؟. قال: لم أشربها لا في جاهلية ولا في إسلام.
وقال أبو عاصم الضحاك: منذ عقلت أن الغيبة حرام ما اغتبت أحدًا.
وقال البخاري صاحب الصحيح: ما اغتبت أحد قط منذ علمت أن الغيبة تضر أهلها.
وقال عمر بن العزيز –عليه رحمة الله-: ما كذبت منذ علمت أن الكذب يضر أهله.
وقال الغازي بن قيس: ما كذبت منذ احتلمت. وقال: والله ما كذبت كذبة قط منذ اغتسلت.
وقال زيد بن علي زين العابدين: والله ما كذبت كذبة منذ عرفت يميني من شمالي، ولا انتهكت محرمًا منذ عرفت أن الله يعاقب عليه.
ومن الصور المشرقة: ما جاء عن شقيق بن سلمة، قال: قال أخي عبد الرحمن بن سلمة: ما كذبت منذ أسملت إلا أن الرجل يدعوني إلى طعام، فأقول: ما اشتهيه. فعسى أن بكيت.
ولما كان أبو سفيان بن الحارث على فراش الموت بكى أهله، فقال -ومن مقاله: لا تبكوا عليَّ، فوالله ما عصيت الله منذ أسلمت.
فرحم الله تلك الأشباح، وأنار الله تلك الأرواح، ونسأل الله: أن يجعلنا من أهل الصلاة والفلاح، والصدق والإخلاص والنجاح، هذا وصلوا وسلموا على أفضل من طلع عليه الصبح ولاح، وغرد قمري وناح، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً} [الأحزاب: 56].
والله أعلم.
المشاهدات 1218 | التعليقات 1

جزاك الله خيرا