تذكرة بمناسبة الإجازة 20/8/1437 هـ
مبارك العشوان
1437/08/18 - 2016/05/25 21:48PM
إن الحمدَ لله ...أما بعد: فاتقوا الله...مسلمون.
عباد الله: إنَّ حياةَ المسلمِ العاقلِ حياةَ جدٍّ، حياةَ عملٍ ونشاط، لا غفلة فيها ولا ضياع؛ كلما فرغ من عمل شرع في آخر، قال الله عز وجل: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } الشرح 7 قيل في تفسيرها: إذا فرغت من أعمالك فانصب لعمل آخر. وقال الشنقيطي رحمه الله عن هذه الآية: لم تترك للمسلم فراغا في وقته، لأنه إمَّا في عملٍ للدنيا، وإمَّا في عملٍ للآخرة. وروي عن عمرَ رضي الله عنه أنه قال: إني لأكره لأحدكم أن يكون سبهللا، لا في عملِ دنيا ولا دين.
عباد الله: تحل الإجازة، ويحل معها الفراغ، والفراغ نعمة وحق النعم أن تشكر ففي البخاري: ( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ ) وفي الحديث الآخر: ( اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: وذكر منها ( وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ ) قال الألباني في الجامع الصغير: صحيح.
حري بك أخي المسلم في إجازتك بما فيها من الفراغ أن نقضيه فيما يقربك إلى ربك، هي أيام من العمر، وسيسأل عنها كل أحد كما صح الحديث: ( لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ وَمَاذَا عَمِلَ فِيمَا عَلِمَ ) رواه الترمذي وصححه الألباني ولهذا حرص السلف رحمهم الله على أوقاتهم أشد الحرص، حتى قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: أدركت أقواما كان أحدهم أشحَّ على عُمُرِهِ منهُ على درهمه، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ما ندمت على شيءٍ؛ ندمي على يوم غربت شمسُه، نقصَ فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي، نعوذ بالله من تناقص الأجل من غير زيادة في صالح العمل.
أخي المسلم: احرص كلَّ الحرص على وقتك، املأ فراغَك بالأعمال الصالحة، واحذر أن يكون الوقتُ عليك لا لك، لا تفرط يا عبدَ الله في وقتك، وتشغلُهُ بما لا ينفعك؛ فإن هذا حرمان وخسران، وأشدُّ خسرانا أن تضيعه في الإثم والعصيان.
عباد الله: وفي ليالي الإجازة يكثر السهر، وقد جاءت كراهته عن النبي صلى الله عليه وسلم ـ ولا خيرَ في فعلٍ يكرههُ النبي صلى الله عليه وسلم ـ ففي البخاري ومسلم: أنه صلى الله عليه وسلم ( َلَا يُحِبُّ النَّوْمَ قَبْلَهَا وَلَا الْحَدِيثَ بَعْدَهَا ) أي العشاء ويشتد ذمُّ السهرِ ويعظم إذا أفضى إلى فوات صلاة الفجر كما هو ملاحظ في كثير من المساجد اليوم.
وقد سئل الشيخ ابن باز رحمه الله تعالى عن تأخير صلاة الفجر بسبب السهر فأجاب بقوله: لا يجوز للمسلم أن يسهر سهرا يترتب عليه إضاعته لصلاة الفجر في الجماعة أو في وقتها ولو كان ذلك في قراءة القرآن، أو طلب العلم، فكيف إذا كان سهره على التلفاز أو لعب الورق أو ما أشبه ذلك. وهو بهذا العمل آثم، ومستحق لعقوبة الله سبحانه، كما أنه مستحق للعقوبة من ولاة الأمر بما يردعه وأمثاله. وتأخير الصلاة إلى ما بعد طلوع الشمس كفر أكبر إذا تعمد ذلك، عند جمع من أهل العلم لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكَ الصَّلَاةِ ) رواه مسلم في صحيحه، ولقوله عليه الصلاة والسلام: ( الْعَهْدُ الَّذِي بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ الصَّلَاةُ فَمَنْ تَرَكَهَا فَقَدْ كَفَرَ كفر ) أخرجه الإمام أحمد، وأهل السنن . الخ. مجموع فتاوى ابن باز (10/ 390)
وفقني الله وإياكم لما يحب ويرضى وبارك لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله ... أما بعد: عباد الله: فقد اعتاد كثير من الناس السفر في الإجازة؛ والسفر قد يكون مطية إلى التزود من الطاعات أو مطية إلى التزود من الخطيئات، من الناس من تعود السفر في الإجازة لصلة قريب أو زيارة صديق أو زيارة الرحاب الطاهرة وأداء مناسك العمرة أو للمتعة البريئة والراحة والسير في الأرض وكل ذلك لا بأس به ومنه ما هو مشروع ومرغب فيه.
وقبل أن يسافر المسلم عليه أن يبادر بالتوبة إلى الله تعالى وأن يرد المظالم والأمانات إلى أهلها، وأن يقضي ما عليه من الديون الحالة، وأن يتعلم أحكام السفر، وآدابه ورخصه، من قصر الصلاة وجمعها وصلاة المسافر خلف المقيم، والمقيم خلف المسافر، والصوم والفطر ، والمسح على الخفين إلى غير ذلك من الأحكام.
وعليه كذلك:أن يأخذ من النفقة ما يكفيه في سفره، وإن لم يكن أهله معه فليُبق لهم من النفقة ما يكفيهم حتى لا يحتاج هو ولا يحوجهم لأحد. ثم عليه كذلك أن يحذر الإسراف وتضييع المال في غير حقه.
كما أن على المسافر وغيره أن يلتزم بأنظمة القيادة والسرعة المحددة وأن يتفقد سيارته ويصلح عيوبها لئلا يعرض نفسه ومن معه أو غيرهم للخطر.
فإذا شرع في السفر فليدع بدعائه وهو ما روى مسلم: ( أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا اسْتَوَى عَلَى بَعِيرِهِ خَارِجًا إِلَى سَفَرٍ كَبَّرَ ثَلَاثًا ثُمَّ قَالَ:{ سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ }اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ فِي سَفَرِنَا هَذَا الْبِرَّ وَالتَّقْوَى، وَمِنْ الْعَمَلِ مَا تَرْضَى، اللَّهُمَّ هَوِّنْ عَلَيْنَا سَفَرَنَا هَذَا وَاطْوِ عَنَّا بُعْدَهُ، اللَّهُمَّ أَنْتَ الصَّاحِبُ فِي السَّفَرِ وَالْخَلِيفَةُ فِي الْأَهْلِ، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ وَعْثَاءِ السَّفَرِ وَكَآبَةِ الْمَنْظَرِ وَسُوءِ الْمُنْقَلَبِ فِي الْمَالِ وَالْأَهْلِ، وَإِذَا رَجَعَ قَالَهُنَّ وَزَادَ فِيهِنَّ: آيِبُونَ تَائِبُونَ عَابِدُونَ لِرَبِّنَا حَامِدُونَ ) .
وإذا نزل منزلا دعا بما ورد في الحديث: ( مَنْ نَزَلَ مَنْزِلًا ثُمَّ قَالَ أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللَّهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ لَمْ يَضُرَّهُ شَيْءٌ حَتَّى يَرْتَحِلَ مِنْ مَنْزِلِهِ ذَلِكَ ) رواه مسلم وإذا علا مرتفعا كبر، وإذا هبط سبح. وإذا رأى القرية التي يريد دخولها قال: ( اللهُمَّ رَبَّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَمَا أَظْلَلْنَ, وَرَبَّ الْأَرَضِينَ السَّبْعِ وَمَا أَقْلَلْنَ وَرَبَّ الشَّيَاطِينِ وَمَا أَضْلَلْنَ, وَرَبَّ الرِّيَاحِ وَمَا ذَرَيْنَ فَإِنَّا نَسْأَلُكَ خَيْرَ هَذِهِ الْقَرْيَةِ, وَخَيْرَ أَهْلِهَا وَنَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّهَا وَشَرِّ أَهْلِهَا وَشَرِّ مَا فِيهَا ) رواه النسائي وابن حبان وصححه الألباني.
وإذا كان سيستأجر سكنا؛ فليحرص أول ما يحرص على القرب من المسجد؛ ليكون عونا له ولأولاده على أداء الصلوات في أوقاتها مع الجماعة، وليتفقد هذا المسكن، وليحرص على وسائل السلامة فيه وخلوه من الأخطار، وليحرص كل الحرص على خلوه من القنوات الفضائية الهابطة؛ فقد تفسد عليه في أيامٍ ما بناهُ في سنين، وما ربَّى عليه أولاده من الأخلاق الكريمة والحشمة والحياء ـ حفظ الله الجميع من كل شر ـ .
ثم اعلموا رحمكم الله أن هناك من اعتاد السفر لخارج هذه البلاد وعرَّض نفسه ومن معه للمخاطر والمآثم وابتزاز الأموال وخدش الحياء والدين، هناك من لا يتورع عن محرم، ولا يلتزم حدودَ الإسلام وآدابَه، يختفي حال غربته من قومه وقرابته ناسيا نظر ربه إليه: { يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } النساء 108
ألم يعلم هذا بأن الله يرى ؟! ألم يسمع هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لَأَعْلَمَنَّ أَقْوَامًا مِنْ أُمَّتِي يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِحَسَنَاتٍ أَمْثَالِ جِبَالِ تِهَامَةَ بِيضًا فَيَجْعَلُهَا اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَبَاءً مَنْثُورًا قَالَ ثَوْبَانُ يَا رَسُولَ اللَّهِ صِفْهُمْ لَنَا جَلِّهِمْ لَنَا أَنْ لَا نَكُونَ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَا نَعْلَمُ قَالَ أَمَا إِنَّهُمْ إِخْوَانُكُمْ وَمِنْ جِلْدَتِكُمْ وَيَأْخُذُونَ مِنْ اللَّيْلِ كَمَا تَأْخُذُونَ وَلَكِنَّهُمْ أَقْوَامٌ إِذَا خَلَوْا بِمَحَارِمِ اللَّهِ انْتَهَكُوهَا ) رواه ابن ماجه وقال الشيخ الألباني : صحيح
ألا فاتق الله أيها المسلم، اتق الله يا من كنت عازما على شيء يغضب ربك فتوقف وحاسب نفسك، واعلم أن الله تعالى يغار وما من أحد أغير من الله. اعلم أن الله تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. اعلم أن الله تعالى قد يأخذك وأنت تمارس معصيته فيُختم لك بمعصية الله فتلقاه بها، ففي الحديث: ( يُبْعَثُ كُلُّ عَبْدٍ عَلَى مَا مَاتَ عَلَيْهِ ) رواه مسلم.
اتق الله أيها المسلم، وليردعك عن معصية ربك تقواهُ جل وعلا وخوفُه وحْدَهُ، ورجاءَ ما عنده؛ لا خوفَ أحدٍ سواه، ولا خوفَ الأمراض والأوبئة أن تصيبك، و لا غير ذلك.
احفظ نفسك ومن تحت رعايتك من الحرام، ارع الأمانة التي تحملتها؛ فإنك ستسأل عنها.
اللهم احفظ لنا ديننا ... عباد الله : صلوا وسلموا ...
زياد الريسي - مدير الإدارة العلمية
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
مرحب بالشيخ مبارك وعودا حميدا بارك الله في قلمكم وكتب ربي أجركم وشكر لكم خطبتكم وحفظ الله علينا أعمارنا بما ينفعنا في الدارين.
تعديل التعليق