تدبر سورة الفاتحة
محمد المطري
تدبر سورة الفاتحة (خطبة جمعة)
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، الرحمنِ الرحيمِ، مالكِ يومِ الدين، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى أهل بيته وأزواجه وذريته، وعلى أصحابه ومَنِ اتبعهم بإحسان، أما بعد:
فالقرآنُ العظيم خيرُ ما نتذكرُ به، وأعظمُ ما نتدبرُه، فقد أنزله الله مباركًا لنتدبرَه وليتذكرَ أولو الألباب، وسنتدبر في هذه الخطبة أفضلَ سورةٍ في القرآن، وهي سورة الفاتحة التي سميت بذلك لأنه يُبدأ بقراءتها في المصحف، ويَبدأ المصلي بقراءتها في صلاته، ولا صلاةَ لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب، وتُسمَّى السبع المثاني لأنها سبعُ آيات، وتُثنى وتُعاد قراءتُها في كل ركعة في الصلاة، وتُسمَّى أم القرآن لأنَّ معاني جميع آيات القرآن ترجع إليها، فلنتدبرها آيةً آية:
يقول الله سبحانه: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} علَّمنا الله أن نبتدئ قراءة القرآن مستعينين به، متبركين بذكر اسمه، كما قال الله في أول سورة أنزلها على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} [العلق: 1]، فيقول القارئ حين يقرأ القرآن: {بِسْمِ اللَّهِ} أي: باسم الله أبتدئ قراءتي. والله هو المعبود الحق دون ما سواه.
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسمان من أسماء الله الحسنى، ورحمة الله وسعت في الدنيا جميع خلقه، فهو الذي أوجدهم من العدم بقدرته، وتفضل عليهم بأنواع النعم الظاهرة والباطنة برحمته، وهو يرحم في الدنيا المسلم والكافر، والصالح والعاصي، كما قال تعالى: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ} [الأعراف: 156]، فرحمة الله وسعت في الدنيا كل شيء، لكنها في الآخرة لا تكون إلا لعباده المتقين، الذين يؤتون الزكاة، ويؤمنون بآيات الله.
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} يُعلِّم الله عباده أن يحمدوه بهذا القول، والتقدير: قولوا: الحمد لله. والحمد له معنيان: المعنى الأول: الثناء، والمعنى الثاني: الشكر، فمعنى قوله تعالى: {الْحَمْدُ لِلَّهِ} أي: الثناء كله لله وحده، والشكر كله لله وحده. فالثناء كله لله؛ لأنه الخالق الكامل في صفاته، وما سواه مخلوق ناقص، والشكر كله لله؛ لأن جميع النعم الظاهرة والباطنة، الدنيوية والدينية من عند الله وحده، وبتيسيره ورحمته، {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} [النحل: 53].
{رَبِّ الْعَالَمِينَ} الرب هو الخالق المالك المدبِّر، والعالمين هم كل ما سوى الله من جميع المخلوقات، من الملائكة والإنس والجن والدواب والجمادات، فالله خالق كل شيء، ومالك كل شيء، ومدبر الكون وما فيه، والمتصرف في جميع المخلوقات بقدرته وعلمه وحكمته.
{الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} اسمان كريمان من أسماء الله الحسنى، دالان على صفة الرحمة كما يليق بعظمة الله، والفرق بينهما أن اسم (الرحمن) يدل على رحمة الله العامة بجميع الخلق، واسم (الرحيم) يدل على رحمة الله الخاصة بالمؤمنين، وأسماء الله كلها حسنى، بالغة الغاية في حسن الألفاظ والمعاني، والدلالة على كمال الصفات والعظمة، والتنزه عن جميع النقائص.
{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أي: مالك يوم الجزاء والحساب، فمِن أسماء يوم القيامة: يومُ الدين؛ لأن الله يحاسب فيه جميع عباده الأولين والآخرين، ويجازيهم بأعمالهم، خيرها وشرها، ولا يملك أحد في ذلك اليوم شيئا لنفسه ولا لغيره، كما قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 17 - 19].
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} يُعلِّم الله عباده أن يقولوا: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} أي: نخصك - يا ربنا - بالعبادة، متذللين لك وحدك لا شريك لك، ونستعين بك وحدك في جميع أمور ديننا ودنيانا، ونتوكل عليك في جلب ما ينفعنا ودفع ما يضرنا، كما قال تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ} [هود: 123]، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله)).
أيها المسلمون، يجب على الإنسان أن يعبد الله وحده لا شريك له، ولا يعبد غيره كائنا من كان، كما قال تعالى: {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} [النساء: 36]، وقال سبحانه: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا} [الجن: 18]، فيُخلِص المسلم جميع عباداته لله وحده، مِن صلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ وحج، وغيرِ ذلك من العبادات القلبية والقولية والفعلية، قال الله تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} [الكهف: 110]. ويجب على المسلم أن يتوكل على الله وحده، فيعتمد قلبه على الله في جلب ما ينفعه ودفع ما يضره في دينه ودنياه، مع الأخذ بالأسباب الشرعية، والتوكل عبادة قلبية تدل على كمال إيمان صاحبها، وتفويض أموره إلى الله الحكيم القادر على كل شيء، قال الله تعالى: {وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ} [المائدة: 23]، وقال سبحانه: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التغابن: 13].
{اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الصراط المستقيم هو الإسلام، والمعنى: دُلَّنا ووفِّقنا إلى الطريق الواضح الواسع، الذي لا اعوجاج فيه ولا ضيق، ولا إفراط فيه ولا تفريط، وهو دين الإسلام الموصل إلى رضا الله وجنته، وهو طريق واحد لا يتعدد، ومن سلك غيره فقد ضل، كما قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الأنعام: 153].
أيها المسلمون، هذا الصراط المستقيم هو الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم، وهو طاعة الله وطاعة رسوله، كما قال تعالى: {وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ} [يس: 61]، وقال سبحانه عن رسوله: {وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [المؤمنون: 73].
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} أي: اهدنا طريق الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، الذين عَلِموا الحق وعملوا به، وجنِّبنا طريق المغضوب عليهم الذين علموا الحق ولم يعملوا به كاليهود ومن تشبه بهم من هذه الأمة، وجنِّبنا طريق الضالين الذين لم يهتدوا إلى الحق لجهلهم بالحق، فهم يعملون بأهوائهم وآرائهم المخالفة لشرع الله، كالنصارى ومن تشبه بهم من هذه الأمة. قال الله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا} [النساء: 69]، وقال الله عن اليهود: {وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ} [البقرة: 61]، وقال الله عن النصارى: {قُلْ يَاأَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ} [المائدة: 77]، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((اليهود مغضوبٌ عليهم، والنصارى ضُلَّال)).
أيها المسلمون، يستحب لمن قرأ سورة الفاتحة أن يقول: (آمين)، ومعنى آمين أي: اللهم استجب، ففي سورة الفاتحة أعظم وأفضل دعاء، وهو الدعاء بالهداية إلى الصراط المستقيم، وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا قال الإمام: {غيرِ المغضوبِ عليهم ولا الضالين} فقولوا: آمين، فإنه من وافق قولُه قولَ الملائكةِ غُفِر له ما تقدم من ذنبه)).
أيها المسلمون، اشتملت سورة الفاتحة على هدايات قرآنية كثيرة، ومن الهدايات التي نستفيدها من سورة الفاتحة ما يلي:
· فضلُ ذكرِ اسم الله، والابتداءُ باسمه في الأمور المهمة كالقراءة والكتابة والأكل والشرب ونحو ذلك، فإذا ذُكِر اسم الله في شيء وضع اللهُ فيه بركته.
· الله هو الرحمن الرحيم، وقد بدأ سورة الفاتحة بهذين الاسمين الكريمين، وكررهما في هذه السورة للتأكيد على سعة رحمته، ودينُ الله هو دين الرحمة، فإذا علم المسلمُ سعةَ رحمة الله رجاه، ولم يقنط من رحمته، وتاب إلى الله من ذنوبه مهما عظمت وكثرت، والله يحب الرحماء من عباده، وأخبر أن رحمته قريب من المحسنين الذين يرحمون عباده، و ((الراحمون يرحمهم الرحمن))، فمِن أعظمِ الأخلاقِ الإسلامية الرحمة بالخلق.
· إذا علم المسلمُ استحقاقَ الله لجميع المحامد، واستحقاقَه الشكر على نعمه التي ربَّى بها جميعَ خلقه، فإن قلبَه يمتلئ بمحبة الله، ومن أحب الله اجتهد في عبادتِه، وحرص على طلب مرضاتِه.
· إذا تذكر المسلمُ أن الله هو مالك يوم القيامة، وأنه يبعث عباده للحساب والجزاء، خاف ذلك المقام العظيم، فترك المعاصي والآثام، ويجب على المسلم أن يجمع في قلبه بين رجاء رحمة الله والخوف من عذابه.
· أيها المسلمون، ومما نستفيده من تدبر سورة الفاتحة أن يستعد المسلمُ ليوم الحساب بالأعمال الصالحة، ويصبرَ على أي بلاء في الدنيا الفانية، وتكونَ أعظمُ رغبته في الآخرة الباقية، فالدنيا أمد، والآخرة أبد، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ} [الحشر: 18 - 20].
· وفي قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} براءةٌ من الشرك والرياء، فيعاهدُ العبدُ ربه أن يعبده وحده، وأن لا يشرك به شيئا، وفي قوله: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} براءةٌ من الكِبْر والعُجْب، فيتذكرُ العبدُ أن أيَّ فضيلةٍ حصل عليها في دينه أو دنياه فهي من فضل الله عليه، وهو الذي أنعم بها عليه وأدامها، فلماذا يتكبرُ ويفخرُ بما أنعم الله عليه؟ فالمسلم لا يفخر على غيره، فهو يعلم أن الله لو شاء لسلبه نعمته، فيتواضع العبدُ حين يتذكرُ أن اللهَ هو الذي أنعم عليه بالنِّعم التي لا تُحصى، ويقرُّ بأن الله هو الذي أعانه على تحصيل الفضائل وتفضل عليه بها، فلا يتكبر أبدا على عباد الله.
· أيها المسلمون، تأملوا تقديم العبادة على الاستعانة في قول الله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؛ فالعبادةُ هي الغاية من خلق الخلق، والاستعانةُ هي الوسيلة، فقُدِّمتِ الغايةُ على الوسيلة، فيجب على المسلم أن يجعل عبادةَ اللهِ أكبرَ همِّه وغايتِه، ويستعينُ بالله على تحقيقها.
· أيها المسلمون، علَّمنا الله أن نقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، ولم: يقل: إياك أعبد وإياك أستعين، وهذا يدلنا على أهمية الاجتماع في العبادات التي يُشرع الاجتماع فيها كالصلاة المفروضة، كما قال تعالى: {وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ} [البقرة: 43]، فعلى المسلم أن يصلي الفرائض في المساجد مع جماعة المسلمين، وفي هذه الآية حثٌ للمسلمين على التعاون على البر والتقوى فيما ينفعهم في أمور دينهم ودنياهم.
· أيها المسلمون، أفضل دعاء على الإطلاق هو: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}، فالمسلم يحتاج أن يهديه الله لمعرفة الحق في أمور دينه، ومعرفةِ الصواب في أمور دنياه، وما يجهلُه العبدُ أكثرُ مما يعلمُه، فيحتاج العبدُ إلى أن يهديه الله هداية تعليم وإرشاد، ويحتاج إلى أن يهديه الله هداية توفيق، فيوفقه الله لأحسن الأعمال والأخلاق في جميع أموره وأحواله، وإذا علم العبدُ الحقَّ فهو يحتاج إلى أن يوفقه الله للعملِ به، وإذا عمل به فهو يحتاج إلى أن يوفقه الله للثبات عليه، فحاجة المسلم إلى هذا الدعاء فوق كلِّ حاجة؛ ولذلك أوجب الله على المسلم أن يدعو ربه بهذا الدعاء في كل ركعة في صلاته.
· أيها المسلمون، القرآن كتابُ هداية، فمن أراد الهداية إلى الصراط المستقيم فليتدبرِ القرآن ويتبعْه، فهو يهدي للخصلة التي هي أحسن الخصال في جميع الأمور، وفي جميع الأحوال، كما قال تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9]، وتأملوا قول الله في أول سورة البقرة التي تلي سورة الفاتحة: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، فكأن الله يقول لنا: يا من يريد الهداية إلى الصراط المستقيم تدبر هذا القرآن العظيم واتبعْه، فهو يهدي المتقين، ويبين لهم كل ما يحتاجون إلى بيانه، كما قال الله تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} [النحل: 89].
· أيها المسلمون، الصراط المستقيم طريق قديم، سلكه جميع الصالحين من قبلِنا، وليس طريقا جديدا مُحدَثا، قال العلماء: في هذه الآية في سورة الفاتحة إبطالُ جميعِ البدع؛ لأنها ليست من منهج الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، قال الله لنبيه محمد عليه الصلاة والسلام بعد أن ذكر الأنبياء السابقين: {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ أحدث في أمرنا هذا ما ليس فيه فهو رد)) أي: من أحدث شيئا في الدين فهو باطلٌ لا يقبله الله منه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ((إياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة)).
· أيها المسلمون، قال العلماء: هذه الآية: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ} قسَّمت جميعَ الناس إلى ثلاثة أقسام: القسم الأول: من عَلِم الحق وعَمِل به، القسم الثاني: مَنْ علِم الحق ولم يعملْ به، القسم الثالث: من جَهِل الحق، وعَمِل بالباطل على جهل، وهو يحسب أنه يُحسن صنعا، ففي جميع الأمور ينقسم الناس إلى هذه الثلاثة الأقسام، في الواجبات، وفي المحرمات، وفي الفتن والخلافات المالية والأسرية والسياسية، فمِن النَّاسِ مَن يعلمُ الحقَّ ويعملُ به، ومنهم مَن يعلمُ الحق ولا يعملُ به، اتباعا لهواه، أو طلبا لدنيا زائلة، ومِن الناس مَن يَضلُّ عن الحق جهلا، وهو يحسب أنه يُحسن صنعا، وهذا التقسيم في جميع الأمور والأحوال، فمثلا: من الناس من يعلم أن الصلواتِ الخمسَ واجبةٌ عليه، فهو يحافظ عليها في أوقاتها، فهذا عَلِم الحق في هذا الأمر وعَمِل به، ومن الناس من يعلمُ أن الصلواتِ الخمسَ واجبةٌ عليه، لكنه يتهاون بها، ويترك بعض الصلوات مع علمه بإثمه العظيم، فهذا تَشبَّهَ باليهود الذين يعلمون الحق ولا يعملون به، ويُخشى عليه غضبُ اللهِ إن لم يتب إليه، ومن الناس من يجهل أن الصلواتِ الخمسَ واجبةٌ عليه، ولا يعلم أنها عمودُ الدين، ولا يعلم أنه يأثم أعظمَ الإثمِ بتركِ صلاةٍ واحدة، فأضاع الصلاة، واتبع الشهوات، ولا يصلي إلا صلاة الجمعة أو بعض الصلوات بحسب رغبته، فهذا ضالٌ. ومثالٌ آخر: مِن الناس من يعلم أن التعامل بالربا محرم، فهو يترك التعامل بالربا؛ لعلمه بأن الله حرمه، فهذا من المهتدين في هذا الأمر، ومن الناس من يعلم أن الربا محرم لكنه يتعامل بالربا، مع علمه بأنه من كبائر الذنوب، ومع علمه بأن آكل الربا ومؤكله وكاتبه وشاهده ملعونون، فهذا فيه شبه باليهود المغضوب عليهم، ومن الناس من يجهل أن الربا محرم، فهو يتعامل به أو يقع في بعض المعاملات الربوية التي لا يعلم أنها من الربا، ولا يسأل أهل العلم عن حكمها، فهذا ضال. وهكذا في جميع الواجبات وفي جميع المحرمات ينقسم الناس إلى هذه الأقسام الثلاثة، فعلى المسلم أن يحرص على سؤال الله الهداية في جميع أموره، وأن يدعو الله دعاء الغريق أن يهديه إلى الحق في جميع أحواله، وعلى المسلم أن يتعلم دينه، وأن يسأل الفقهاء عن الحلال والحرام حتى لا يكون من الضالين، وعليه أن يعمل بالحق الذي تعلمه حتى لا يكون من المغضوب عليهم.
· أيها المسلمون، على المسلم أن يطيعَ اللهَ باتباع كتابه، ويطيعَ رسولَه باتباع سنته، وأن يحذرَ أشدَّ الحذرِ من معصية الله ورسوله، حتى لا يكون من الضالين، قال الله تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا} [الأحزاب: 36].
· وعلى المسلم أن يحذر من طاعة اليهود والنصارى، ومن التشبه بهم فيما هو من خصائصهم، وأن يحرص على مخالفتهم في أمورهم، فالصراط المستقيم يقتضي مخالفة اليهود والنصارى، قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} [آل عمران: 100]، وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لتَتَّبِعُن سَنَن الذين من قبلكم، شِبرا بشبر، وذراعا بذراع، حتى لو دخلوا في جُحر ضَبٍّ لاتبعتموهم!)) قالوا: يا رسول الله: اليهود والنصارى؟! قال: ((فمَن؟)). قال العلماء: دل هذا الحديث على أن طوائف من شرار هذه الأمة سيتبعون طرق المغضوب عليهم والضالين، فلا يقع اليهودُ والنصارى في شيء من الضلالات إلا ومِن هذه الأمة مَن يقعُ فيما وقعوا فيه، فعلينا أن نحذر من اتباع سبل اليهود والنصارى الذين تركوا الحق عمدا لفساد نياتهم أو تركوا الحق جهلا لفساد علمهم، قال العلماء: ما من انحرافٍ في هذه الأمة إلا وأصله يرجع إلى تَشَبُّهٍ باليهود المغضوب عليهم أو تَشَبُّهٍ بالنصارى الضالين؛ ولذلك شرع الله للمسلم أن يسأله دائما الهداية إلى الاستقامة التي لا يهودية فيها ولا نصرانية، فأيُّ مخالفةٍ للحق في هذه الأمة فهي ترجع إلى شُعبةٍ من شُعَب اليهود أو شُعبةٍ من شُعَب النصارى، فمثلا عدمُ تعظيمِ الله ورسله، وكتمانُ الحق، وخلطُ الحق بالباطل، والحسدُ، وعقوقُ الوالدين، والتهاونُ بالصلاة، ومنعُ الزكاة، وأكلُ الربا، وأكلُ أموال الناس بالباطل، وظلمُ الناس، والقتلُ بغير الحق، والإعراضُ عن الحكم بما أنزل الله، والإيمانُ ببعض الكتاب دون بعض؛ كلُّ هذا من صفات اليهود كما بيَّن الله ذلك في كتابه، والجهلُ بالعقيدة الصحيحة، والابتداعُ في الدين ابتغاء رضوان الله، والغلو في الصالحين؛ كل هذا من صفات النصارى كما بيَّن الله ذلك في كتابه.
اللهم اهدنا الصراط المستقيم، وجنبنا طريق المغضوب عليهم وطريق الضالين، آمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله القائل في كتابه الكريم: {وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ} [الحجر: 87]، وصلى الله وسلم على نبينا محمد القائل: ((أم القرآن هي السبع المثاني، والقرآن العظيم الذي أوتيته))، أما بعد:
فسورة الفاتحة هي أمُّ القرآنِ وأساسُه، فإليها ترجعُ جميعُ معاني آيات القرآن الكريم، وكل آيات القرآن تُفصِّل المعاني التي أجملتها سورةُ الفاتحة، وبيان ذلك فيما يلي:
• الآيات التي فيها بيانُ عظمة الله، والتعريفُ بأسمائه الحسنى، كلها تبيينٌ وتفصيلٌ لمعنى قوله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
• الآيات التي فيها حمدُ الله والأمرُ بشكرِه، وفيها بيانُ كثرة نعمه على عباده، وربوبيتُه لجميع خلقه، كلها تبيينٌ وتفصيلٌ لمعنى قوله: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}.
• الآيات التي فيها رحمة الله العامة بخلقه، ورحمته الخاصة بعباده الصالحين، كلها تبيينٌ وتفصيلٌ لمعنى قوله تعالى: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ}.
• الآيات التي فيها إثباتُ البعث بعد الموت، وذكرُ القيامةِ والحسابِ والجزاءِ والجنةِ والنار، كلها تبيينٌ وتفصيلٌ لمعنى قوله تعالى: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.
• الآيات التي فيها الأمرُ بعبادة الله وحده، والتحذيرُ من الشرك به، والآياتُ التي فيها بيانُ العباداتِ المتنوعة من صلاةٍ وصومٍ وزكاةٍ وصدقةٍ وحجٍ وعمرةٍ وجهادٍ وصبرٍ وشكرٍ وذكرٍ لله ودعاءٍ واستعاذةٍ وتوكلٍ وغيرِ ذلك من العبادات الظاهرة والباطنة، كلها تبيينٌ وتفصيلٌ لمعنى قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وكذلك الآيات التي فيها الحث على الاجتماع، وترك التفرق والاختلاف، والأمر بالتعاون على البر والتقوى، كلها تدخل في معنى هذه الآية.
• الآيات التي فيها بيانُ الاعتقادِ الصحيح والعملِ الصالح والأخلاقِ الفاضلة، والتي فيها توضيحُ الإسلام وأحكامِه وشرائعِه، والتي فيها الأمرُ بالتوسط بلا إفراطٍ ولا تفريط، والنهيُ عن الغلو والتكلف، كلها تبيينٌ وتفصيلٌ لمعنى قوله تعالى: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ}.
• الآيات التي فيها الإخبارُ عن النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وذكرُ قَصصِهم، كلها تبيينٌ وتفصيلٌ لمعنى قوله تعالى: {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}؛ لنقتدي بهم في دعوتهم وصبرهم، وعبادتهم لله ودعائهم وأخلاقهم.
• الآيات التي فيها الإخبارُ عن الكفار والمشركين، وبيانُ صفاتِ اليهود والنصارى والمنافقين وعلماءِ السوء، والمعرضين عن كتاب الله وتحكيمه، والغافلين عن عبادة الله وطاعته، كلها تبيينٌ وتفصيلٌ لمعنى قوله تعالى: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}؛ لنحذر من الاتصاف بصفاتهم.
اللهم بارك لنا في القرآن العظيم، وبارك لنا في سورة الفاتحة، واجعلها سببا لهدايتنا، ونسأل الله برحمته أن يهدينا بالقرآن إلى صراطه المستقيم، وأن يجنبنا طريق المغضوب عليهم والضالين، آمين.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وانفعنا بما علمتنا، وعلمنا ما ينفعنا، وزدنا علما، اللهم ارزقنا طاعتك وطاعة رسولك، ووفقنا للعمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم، اللهم آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، اللهم أنج المستضعفين من المسلمين في كل مكان يا أرحم الراحمين، واجعل لهم فرجا ومخرجا، وانصرهم نصرا مؤزرا.
المرفقات
1721316279_تدبر سورة الفاتحة.docx
1721316279_تدبر سورة الفاتحة.pdf