تدبر سورة الإنسان

محمد المطري
1446/01/20 - 2024/07/26 13:43PM

تَدبُّرُ سورة الإنسان (خطبة جمعة)

الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا، قيما ليُنذر به بأسا شديدا من لَدُنْه، ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا حسنا، ماكثين فيه أبدا، الحمد لله على القرآن العظيم الذي أنزله لنتدبرَه ونتذكرَ به ما ينفعنا في ديننا ودنيانا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدا عبدُه ورسولُه، نزل الله عليه الكتاب ليكون للعالمين نذيرا، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد:

ففي القرآن سورةٌ أخبر الله عنها أنها تذكرةٌ لكل مَن يقرؤها ويسمعُها، سورةٌ مباركةٌ جعلها الله سببا للتوبة لكل من يتدبرها، قال الله في آخرها: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الإنسان: 29]، هذه السورة كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرؤها على الناس في فجر كل يوم جمعة؛ ليُذكرهم بما فيها من المعاني العظيمة، والمواعظ البليغة، هذه السورة هي سورة الإنسان، بدأها الله بسؤالٍ لكل إنسان منا فقال سبحانه: {بسم الله الرحمن الرحيم هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} [الإنسان: 1] أي: هل جاء على الإنسان قبل أن يُخلَق زمنٌ طويلٌ لم يكن فيه شيئا يُذكر؟ والجواب: نعم، فكل إنسان منا مر عليه وقتٌ طويلٌ من الدهر كان عدما، لم يكن له ذِكرٌ في تلك المدة الطويلة، فخلقه الله من العدم ليعبده.

{إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} [الإنسان: 2] أي: إنا خلقنا كل إنسان من منيٍ قليلٍ، أخلاطٍ من ماء الرجل وماء المرأة؛ لأجل أن نختبره في الدنيا، فجعلنا الإنسان ذا سمع يسمع به الأصوات، وذا بصر يُبصر به المرئيات، نعمةٌ من الله عليه ليشكره، وحجةٌ له عليه ليتمكن من معرفة الحق بسمعه وبصره، وتمييزِ ما ينفعُه ويَضُرُه.

{إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} [الإنسان: 3] أي: إنا بينا للإنسان طريق الحق الذي يوصله إلى الجنة إن شكر، وبينا للإنسان طريق الباطل الذي يوصله إلى النار إن كفر، ليكون إما شاكرا لنعم الله طائعا موحدا، وإما كفورا لنعم الله مشركا عاصيا.

{إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} [الإنسان: 4] أي: إنا أعددنا للكافرين في جهنم سلاسل يُعذَّبون بها، وقيودا تجمع أيديهم إلى أعناقهم، ونارا تتوقد عليهم لا تنطفئ.

{إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} [الإنسان: 5] أي: إن المطيعين ربهم بامتثال أوامره واجتناب نواهيه يشربون في الجنة من إناءٍ فيه خمرٌ ممزوجةٌ بكافورٍ باردٍ طيبِ الطعم ِوالرائحة، وخمر الجنة لا يزيل العقول، ولا ضرر فيه أبدا.

{عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} [الإنسان: 6] أي: خمر الجنة الممزوجةُ بالكافور من عينٍ جاريةٍ لا تنقطع، يلتذ بها عباد الله الصالحون، يتصرفون بإجرائها في الجنة كما يشاءون، إلى قصورهم وبساتينهم وأماكنهم التي يريدون الجلوس فيها.

أيها المسلمون، أخبر الله عن أهل الجنة الأبرار أنهم {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} [الإنسان: 7] أي: كانوا في الدنيا يوفون بنذورهم التي نذروها طاعة لله، فهم يكثرون من الطاعات، وإذا نذروا لله طاعة وفوا بها، ولم يخلفوا الله ما وعدوه وعاهدوه.

{وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} [الإنسان: 7] أي: ويخاف الأبرار يوم القيامة الذي كان شره منتشرا فاشيا عاما على جميع المخلوقات العُلْوية والسُّفلية، فلذلك امتثلوا الواجبات، وتركوا المحرمات خوفا من حساب يوم القيامة.

{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} [الإنسان: 8] أي: ويطعم الأبرارُ الطعام مع محبتهم له المساكين، واليتامى، وأسرى الكفار والمحبوسين من المسلمين. قال المفسرون: هذه الآية عامة في جميع الأبرار المتصفين بهذه الصفات الطيبة.

{إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} [الإنسان: 9] أي: يقول الأبرار: إنما نطعمكم - أيها المحتاجون - مخلصين لوجه الله، طلبا لرضاه وثوابِه، لا نطلب منكم مجازاة بفعل شيء تكافئوننا به، لا نريد منكم كلمة شكر وثناء تقولونها لنا، فأخبر الله بما في قلوبهم من الإخلاص وصدق النية في صدقاتهم وأعمالهم، فهم مخلصون لله في عبادتهم لله وإحسانهم لعباده.

{إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} [الإنسان: 10] أي: يقول الأبرار: إنا نخاف من ربنا عذابَ يومِ القيامة الضيقِ الشديدِ الأهوال، الطويلِ المقدار، الذي تعبُس فيه الوجوه من شدة بلائه، كما قال تعالى: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4]، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إني أعوذ بك من ضيق المقام يوم القيامة)).

{فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} [الإنسان: 11] أي: فدفع الله عن الأبرار أهوالَ يوم القيامة بسببِ أعمالهم الصالحة وخوفهم من الله، وأعطى الأبرارَ حُسنا في وجوههم، وفرحا في قلوبهم، فيجمع لهم يوم القيامة بين حسن الظاهر والباطن، بياضٌ في الوجوه، وفرحٌ في القلوب.

{وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} [الإنسان: 12] هؤلاء الأبرار الذين صبروا في الدنيا على الطاعات فقاموا بها، وصبروا عن المعاصي فاجتنبوها، وصبروا على المصائب فتحملوها، وعلموا أنها بتقدير الله فلم يتسخطوها، جزاهم الله بسبب صبرهم جنة يدخلونها في الآخرة آمنين، وحريرا يلبسونه ويجلسون عليه مطمئنين.

{مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ} [الإنسان: 13] أي: الأرائك هي الأَسِرَّة، فالأبرار يكونون في الجنة جالسين على السُّررِ، في عيشةٍ راضية ٍكاملة، ليس فيها أيُ نقصٍ ولا همٍّ ولا حزنٍ، سالمين من الأمراض ومن الحر والبرد، {لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} [الإنسان: 13] أي: لا يرون في الجنة شمسا يؤذيهم حرها، ولا بردا يضرهم، فلا يوجد في الجنة شمسٌ ولا حر ولا برد.

{وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا} [الإنسان: 14] أي: وقريبة على الأبرار ظِلالُ أشجار الجنة، وهو ظِلالٌ عجيبٌ يخلقه الله لأهل الجنة من غير وجود شمس؛ ليتنعموا بالجلوس فيه، كما قال تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ * وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} [المرسلات: 41، 42].

{وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} [الإنسان: 14] أي: وسُهِّل للأبرار قطفُ ثمار أشجار الجنة كيف شاءوا، قعودا وقياما ومضطجعين، كما قال تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ * كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 22 - 24].

ومن تمام نعيم أهل الجنة أن الله سبحانه ينزع الأحقاد من قلوبهم، كما قال سبحانه: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ * لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ} [الحجر: 45 - 48]، وقال: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ} [الأعراف: 43]، فبين الله أن أهل الجنة يخرجون للنزهة في بساتين الجنة، والأنهار تجري من تحتهم، ويجلسون مع بعضهم على الأسرة متقابلين، كلٌ جالس على سريره يقابل الآخر بوجهه، ويكونون في غرفٍ عالية، وعلى سررٍ مرفوعة، يشاهدون حال جلوسهم ما أعطاهم الله من النعيم الكبير، قال الله تعالى: {لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ} [الزمر: 20]، فيرى المؤمن في الجنة جميع ما أعطاه الله من النعيم العظيم والمُلك الكبير، فهم يجلسون أحيانا في الغرف العالية على سرر مرفوعة، وأحيانا يجلسون في البساتين والأنهار تجري من بين أيديهم، وأحيانا يتنزهون بين البساتين يأكلون ويشربون ويتحدثون والأنهار تجري من تحتهم، ويطوف عليهم خدمٌ بأنواع الأطعمة الشهية والأشربة اللذيذة، وأهل الجنة لا يأكلون من جوع، ولا يشربون من عطش، بل أكلهم وشربهم تلذذا، قال الله سبحانه: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان: 15، 16] أي: ويطوف خدمُ أهل الجنة على الأبرار بآنيةٍ فيها أنواعُ الأطعمة، وأكوابٍ فيها أنواعُ الأشربة، جعل الله بقدرته تلك الأكواب التي من فضة في صفاء الزُّجاج، فتلك الأكواب في صفاء الزجاج وهي من فضة بيضاء، وهذا من أعجب الأشياء! اجتمع لها بياضُ الفضة، وصفاءُ الزجاج، ولا نظير لهذا في الدنيا، يشوقنا الله لنعيم الجنة، ويخبرنا بما لا نعلم مثلَه في الدنيا.

{وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا * قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} [الإنسان: 15، 16] أي: قدَّر خدمُ أهل الجنة الشراب في الأكواب على المقدار الذي يريد الأبرار شربه، بلا زيادةٍ ولا نقصان، وهذا من تمام النعمة في الشراب.

{وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا} [الإنسان: 17] أي: ويُسقى الأبرار في الجنة إناءَ خمرٍ ممزوجةٍ بزنجبيلٍ طيبِ الرائحة. وهذه كأسُ خمرٍ أخرى غيرُ الكأس الأولى التي تُمزج بالكافور، ينوع الله الكريم لأهل الجنة أنواع الملذات، فلا يسأمون شيئا منها.

{عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} [الإنسان: 18] أي: شراب الأبرار الممزوجُ بالزنجبيل من عينٍ غزيرةٍ اسمها سلسبيل؛ لشدة جريها في موضعها، ولسلاستها في الحلق عند شربها.

{وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} [الإنسان: 19] بين الله في هذه الآية أن خدم أهل الجنة غِلمانٌ صغارٌ على سن واحدة، لا يهرمون ولا يموتون، يخلقهم الله لخدمة أهل الجنة، ومن تمام نعمة أهل الجنة أن جعل الله مَن يخدُمهم صغارٌ في السنِّ لا يتحرجون من خدمتهم؛ لأن الإنسان يستحي من الكبير أن يخدمَه، ولا يتحرج أن يخدمه الصغير، {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} [الإنسان: 19] أي: إذا رأيت أولئك الولدانَ وهم منتشرون في خدمة أهل الجنة تظنهم في حسنهم وبياضهم وكثرتهم لؤلؤا مصبوبا.

{وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} [الإنسان: 20] أي: وإذا نظرت هناك في الجنة أبصرت نعيما ومُلكا عظيما أعده الله لك أيها المؤمن. وفي الحديث القدسي: ((قال الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطر على قلب بشر، فاقرءوا إن شئتم: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [السجدة: 17])).

وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة شجرةً يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها))، واقرءوا إن شئتم: {وَظِلٍّ مَمْدُودٍ} [الواقعة: 30].

أيها المسلمون، ثم أخبر الله عن ثياب أهل الجنة فقال: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} [الإنسان: 21] أي: فوقَ أهل الجنة ثيابُ حريرٍ رقيقٍ أخضرَ اللون، وحريرٍ غليظٍ له بريقٌ يلبسونه فوق الثياب الرقيقةِ للزينة والجمال، وخص الله اللون الأخضر لأنه أمتعُ للعين، ولأنه كان قديما من لباس الملوك، وإلا فأهل الجنة يلبسون ما يشاءون من ألوان الثياب وأنواعها.

{وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] أي: وحلَّى الله الأبرار أساور فضة يلبسونها في سواعدهم زينة لهم.

وهذا المذكور في هذه السورة من آنية الفضة والحلي من الفضة هو نعيم أهل الجنة من الأبرار أصحاب اليمين، أما السابقون المقربون فآنيتُهم وحُلِيُّهم من ذهب، كما قال الله في آية أخرى: {يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ} [الزخرف: 71]، وقال سبحانه: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23]. وفي الحديث الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما)). وقد ذكر الله تفاوت نعيم أهل الجنة في آخر سورة الرحمن فقال: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ} [الرحمن: 46]، فوصفهما بأكمل الأوصاف، وهما للمقربين المحسنين، ثم قال: {وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62]، وهما لأصحاب اليمين، وقال سبحانه: {وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً * فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ * وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ * فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ * ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ * وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ} [الواقعة: 7 - 14].

ثم قال الله سبحانه: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} [الإنسان: 21] أي: وسقى الله الأبرار شرابا يُطهِّر بواطنهم من كل أذى، فبواطنهم مطهرةٌ من الحسد والحقد وسائر الأخلاق الرديئة، ولا يحتاجون إلى إزالة أيِّ أذى من أجسامهم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أهل الجنة يأكلون فيها ويشربون، ولا يتفُلون، ولا يبولون، ولا يتغوطون، ولا يمتخطون، طعامُهم جُشَاءٌ وَرَشْحٌ كَرَشْحِ المِسك)).

{إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} [الإنسان: 22] أي: يقول الله للأبرار تكريما لهم: إن هذا النعيم الذي أعطيناكم في الجنة كان لكم ثوابا على ما عملتم في الدنيا من الأعمال الصالحة، وما عملتم في الدنيا من عمل صالح شكره الله لكم، وتقبله منكم ولو كان قليلا، وأثابكم عليه ثوابا عظيما.

أسأل الله أن يبارك لنا في القرآن الكريم، وأن يجعلنا من المتدبرين له العاملين به، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.


 

الخطبة الثانية:

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه، وعلى كل من والى الله ورسوله والمؤمنين، أما بعد:

ثم قال الله سبحانه: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} [الإنسان: 23] أي: إنا نحن وحدَنا لا غيرنا نزلنا عليك - أيها الرسول - القرآنَ إنزالا مُفرَّقا بحسب الحكمة، وهو كتاب هدايةٍ وحُكمٍ وتشريع ومواعظ، ومواعظُ القرآن أعظمُ المواعظِ وأكثرها بركةً وأبلغُها تأثيرا في القارئين والسامعين.

{فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24] هذا أمر من الله لرسوله ولجميع أمته، أي: فاصبر لما حكم الله به عليك من العمل بشريعته، اصبر على فعل الواجبات، واصبر على ترك المحرمات، واصبر على ما يُقدِّره الله عليك من المصيبات، ولا تطع فاجرا يدعوك إلى معصية الله أو كافرا يدعوك إلى الكفر والإلحاد، فعلى المسلم أن يحذر ممن يدعوه إلى التهاون بالطاعات وارتكاب المعاصي أو يدعوه إلى الكفر والنفاق والإلحاد، وما أكثرهم في هذا الزمان في الشاشات والقنوات والإذاعات ووسائل التواصل المختلفة، فعلى كل مسلم أن يحذر من متابعة الفسقة والكفرة، ولا يتابع الأفلام والمسلسلات التي تدعو إلى المعاصي والشهوات، وكلنا مسئول عن أهل بيته، وعن أولاده، وهذا العصر عصر الفتن والشهوات المحرمة، فلنتواصى بالحق، ولنتواصى بالصبر.

{وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} [الإنسان: 25] أي: واذكر - أيها العبد - اسم ربك أول النهار في صلاة الصبح، وآخر النهار في صلاة العصر، ويدخل في ذلك: التسبيح، والتحميد، والتهليل، والتكبير، وأذكارُ الصباح والمساء، كما قال تعالى: {فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى} [طه: 130].

{وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} [الإنسان: 26] أي: ومن الليل فأكثر من السجود لله في صلاة الفريضة والنافلة، وسبِّح الله بتنزيهه عن النقائص وقتا طويلا في الركوع والسجود في صلاة الليل، وفي غير الصلاة أيضا، كما قال تعالى: {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ} [الطور: 48، 49].

{إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} [الإنسان: 27] أي: إن الكفار والفسقة والغافلين عن ذكر الله يحبون الحياة الدنيا، ويحرصون على طول العيش فيها، والتمتعِ بملذاتها، ويتركون خلف ظهورهم يومَ القيامة الثقيلَ بأهواله، فلا يعملون بما ينجيهم في الآخرة، كما قال تعالى: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ * وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} [القيامة: 20، 21].

{نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} [الإنسان: 28] أي: نحن خلقنا الناس من العدم، وربطنا أجزاء أجسادِهم بالعظام والمفاصل والأعصاب والعروق، فصارت أبدانُهم مشدودة قوية؛ ليطيعوني، ويشكروني.

{وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} [الإنسان: 28] أي: وإذا أردنا بعثناهم يوم القيامة بعد أن صاروا ترابا وعظاما، وأعدنا أجسادهم من جديد، كما قال تعالى: {نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ} [الواقعة: 60 - 62].

أيها المسلمون، ثم قال الله سبحانه في آخر سورة الإنسان: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} [الإنسان: 29] أي: إن آياتِ هذه السورةِ عظةٌ وعبرةٌ لمن اتعظ بها واعتبر، فمن أراد سَلَك إلى ربه طريقا بالتوبة إليه، فمن تاب إلى الله قَبِل توبته، وغفر ذنوبه.

{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30] أي: وما تشاءون - أيها الناس - الهداية والتوبة إلا أن يشاءَ الله أن يهديكم ويوفقكم، إن الله كان ولم يزل عليما بكل شيء، لا يخفى عليه أعمالُكم الظاهرة والباطنة، حكيما في هداية من يهديه بفضله، وإضلالِ من يضله بعدله، فعلى المسلم أن يسأل الله أن يهديه، ويوفقه للتوبة، ويصلح نيته.

{يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} [الإنسان: 31] أي: الله يدخل من يشاء من عباده في رحمته بتوفيقهم في الدنيا إلى التوبة والإيمان والعمل الصالح، ثم يدخلهم في الآخرة جنته.

{وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} [الإنسان: 31] أي: وأعد الله للظالمين عذابا موجعا في جهنم، ومن الظلم أن يتعدى الإنسان حدود الله، ومن الظلم أن يعتدي على عباد الله، ومن الظلم أن يترك الإنسان التوبة من الكفر والمعاصي، فيظلم نفسه بتعريضها لعذاب الله، قال الله تعالى: {وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [الحجرات: 11].

اللهم إنا ظلمنا أنفسنا ظلما كثيرا، ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لنا مغفرة من عندك وارحمنا، إنك أنت الغفور الرحيم، اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكِّها أنت خيرُ من زكاها، أنت وليها ومولاها، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، وتوفنا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين، اللهم اغفر لنا ولجميع المسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات، اللهم وفقنا للتوبة النصوح واهدنا الصراط المستقيم، اللهم إنا نعوذ بك من ضِيق المقام يوم القيامة، وحاسبنا حسابا يسيرا، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل.

عباد الله، {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}، اللهم صل وسلم على نبينا محمدٍ سيد المرسلين، وعلى أهل بيته وأزواجه وذريته الصالحين، وارضَ اللهم عن الصحابة والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

المرفقات

1721990609_تدبر سورة الإنسان.docx

1721990609_تدبر سورة الإنسان.pdf

المشاهدات 434 | التعليقات 0