تدبر آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة

محمد المطري
1446/02/11 - 2024/08/15 14:11PM

تدبر آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة

الحمدُ لله على نِعَمِه التي لا تُحصى، الحمدُ لله الذي خلقنا من العدَم، ورزقنا من النِّعم، ودفع عنَّا النِّقم، الحمدُ لله عدَدَ ما خلق، الحمدُ لله مِلءَ ما خلق، الحمدُ لله عددَ ما في السماوات وما في الأرض، الحمدُ لله على ما أحصى كتابُه، الحمدُ لله عددَ ما أحصى كتابُه، الحمدُ لله عددَ كلِّ شيء، الحمدُ لله ملءَ كلِّ شيء، الحمدُ لله ملءَ السماواتِ وملءَ الأرضِ، وملءَ ما بينهما، أحقُّ ما قال العبد، وكلُّنا لك عبد، اللهم لك الحمدُ على نِعَمِك الظاهرة والباطنة، والسابقة واللاحقة، والدينية والدنيوية، ما نعلمُ منها وما نجهل، لك الحمدُ حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، نعبدُك وحدك لا شريك لك، نركعُ ونسجدُ لك ذُلًّا وخضوعًا، ونُصلي لك شُكرًا وتعظيمًا، وندعوك خوفًا وطمعًا، نخاف عذابَك، ونرجو رحمتَك، لا ملجا لنا منك إلا إليك، ولا حول لنا ولا قوة إلا بك.  

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسوله، مَنْ يتَّبِعْ سُنَّته فقد اهتدى، ومَنْ يرغَبْ عن سُنَّته فقد ضل وغوى، ومن اتقى الله فقد نجا، أما بعد:

فنتدبر معكم آية الكرسي التي هي أعظم آية في كتاب الله، وفضلُها عظيم، ويُستحب قراءتُها بعد كل صلاة مفروضة، وعند النوم.

أيها المسلمون، هذه الآية المباركة فيها عشر جملٍ اشتملت على معانٍ عظيمة، يقول الله سبحانه:

﴿اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ﴾ [البقرة: 255] أي: الله لا معبود بحق إلا هو سبحانه، هو وحده المستحق للعبادة حبًا وتعظيمًا؛ لكمال صفاته، فلا أحدَ يشاركه في استحقاق العبادة، لا ملَكٌ ولا نبيٌ ولا وليٌ.

﴿الْحَيُّ الْقَيُّومُ﴾ [البقرة: 255]، هذان اسمان من أسماء الله الحسنى، فالله هو الحي حياة كاملة لم يتقدمها عدَم، ولا يَلحقُها موت، القيوم بمعنى: القائم بنفسه، والمقيم لجميع خلقِه بالإيجاد والرزق والتدبير، فهو الغني عن جميع خلقه، والخلق كلُّهم فقراءُ إليه، فلا يستغني أحدٌ من الخلق عن الله، كما قال سبحانه: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ [فاطر: 15]، وقال عز وجل: ﴿مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا﴾ [هود: 56]، وقال عز وجل: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ [الروم: 25].

﴿لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ﴾ [البقرة: 255] المعنى: أن الله سبحانه لا ينعَس ولا ينام، لكمالِ حياتِه وكمالِ صفاته.

﴿لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ [البقرة: 255] هذا بيانُ سَعةِ مُلكِ الله، فكل ما في السماوات وما في الأرض عبيدٌ لله، مملوكون له، وهو المتصرف وحده في جميع خلقه بمشيئته وحكمته.

﴿مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ﴾ [البقرة: 255] أي: مَنْ هذا الذي يملك الشفاعة عند الله إلا بإذن الله؟ فلا يجرؤ أحدٌ يوم القيامة أن يتكلم إلا بإذن الله سبحانه، ولا يشفع الملائكةُ والأنبياءُ والصالحون إلا بعد أن يأذن الله لمن يريد أن يرحمهم، كما قال تعالى: ﴿رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا * يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا﴾ [النبأ: 37، 38]، وقال سبحانه: ﴿وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى﴾ [النجم: 26]، وقال عز وجل: ﴿وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى﴾ [الأنبياء: 28].

﴿يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ﴾ [البقرة: 255] هذا بيانُ سَعةِ علمِ الله، فهو يعلم الحاضر والماضي والمستقبل لكلِّ مخلوق بالتفصيل، لا يخفى عليه شيءٌ من أحوال خلقه في الدنيا والآخرة، قال الله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [آل عمران: 5]، وقال سبحانه: ﴿وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [هود: 6]، وقال عز وجل: ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ [محمد: 19]، فهو سبحانه يعلمُ مستقرَّ كلِّ مخلوق كبيرٍ أو صغيرٍ حالَ حياته، ويعلمُ مستودعه في الأرض بعد موتِه، ويعلمُ جميعَ أحوالِنا التي نتقلب فيها في الدنيا، ويعلمُ مثوى كلَّ واحدٍ منا في الآخرة في الجنة أو في النار، وكلُّ ذلك مكتوبٌ عنده في اللوح المحفوظ، قال الله: ﴿وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ﴾ [الأنعام: 59].

﴿وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ﴾ [البقرة: 255] هذا بيانُ قلةِ علمِ المخلوقين، كما قال تعالى: ﴿وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 85]، فالعباد لا يعلمون شيئًا من علم الله الواسع إلا بما شاء الله أن يُطلعهم عليه، سواءً من العلم الديني أو العلم الدنيوي، فمثلًا لا نعلمُ من أسماء الله الحسنى ولا من قصص الأنبياء إلا ما أطلعنا الله عليه، كما قال تعالى: ﴿وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ﴾ [النساء: 164]، ولا نعلم من أسرار الطبيعة إلا ما شاء الله أن يُطلع العباد عليه في الوقت الذي يريده الله، كالكهرباء التي كانت موجودةً في الأرض منذ خلقها الله، ولكن لم يشأ الله أن يُطلع الناسَ عليها إلا في هذه الأزمنة المتأخرة، وما يخفى على الناس أكثرُ مما يعلمونه.

﴿وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255] هذا بيانُ عظمةِ الله سبحانه، فالكرسي مخلوقٌ من مخلوقات الله، يسعُ السماواتِ السبعَ والأرضَ، فالسماء الدنيا التي زيَّنها الله بالنجوم تُحيط بالأرض من جميع جوانبها، والسماءُ الثانيةُ تحيطُ بالسماء الأولى، وهكذا تُحيطُ كلَّ سماءٍ بالسماء التي دونها، والكرسيُّ فوقَ السماء السابعة، وفوقُه العرشُ العظيم، وهو مستَقِرٌّ على ماءٍ عظيم بقدرةِ الله كما أخبرنا الله بذلك في قوله: ﴿وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ﴾ [هود: 7] أي: كان ولم يزل، وثبت عن الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال: (مَا بَيْنَ السَّمَاءِ الدُّنْيَا وَالَّتِي تَلِيهَا مَسِيرَةُ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ كُلِّ سَمَاءٍ مَسِيرَةُ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ السَّمَاءِ السَّابِعَةِ وَالْكُرْسِيِّ مَسِيرَةَ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ، وَمَا بَيْنَ الْكُرْسِيِّ وَالْمَاءِ مَسِيرَةَ خَمْسِ مِائَةِ عَامٍ، وَالْعَرْشُ عَلَى الْمَاءِ، وَاللهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ)، ولا نعلم كيفيةَ الكرسيِّ ولا العرشِ، وإنما نعلم أنهما مخلوقان عظيمان، والعرشُ أعظمُ من الكرسي، بل هو أعظم المخلوقات، قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ﴾ [التوبة: 129].

﴿وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا﴾ [البقرة: 255] أي: ولا يُثقِل اللهَ ولا يُتعِبُه ولا يشقُّ عليه حفظُ السماواتِ السبع والأرضِ وما فيهما من الخلق، كما قال تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا﴾ [فاطر: 41]، وقال سبحانه: ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29]، فهو يحيي ويميت، ويُقدِّر الأرزاق، ويجيب الدعوات، ويُقلِّب الليل والنهار، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، وهو أحكم الحاكمين في تدبير خلقه بقدرته.

﴿وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ﴾ [البقرة: 255] هذان اسمان من أسماء الله الحسنى، فالله هو العلي بذاتِه وقدْرِه وقهرِه، العظيمُ الذاتِ والصفات، فهو أكبرُ من كل شيء، ولا شيءَ أعظمُ منه، فيجب على المسلم تعظيمُ الله، وتعظيمُ أمرِه ونهيه، وتعظيمُ شرعِه، وطاعتُه، والخوفُ من عقابه، قال الله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾ [الزمر: 67].

أيها المسلمون، يجب الإيمانُ بصفةِ العلو لله على خلقه علوًا يليق بجلاله وعظمته، قال الله تعالى: ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ [طه: 5]، وقال سبحانه: ﴿أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ﴾ [الملك: 16]، وقال عز وجل: ﴿إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ﴾ [فاطر: 10]، وقال جل شأنُه: ﴿سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى﴾ [الأعلى: 1]، وقال تبارك وتعالى: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ﴾ [الرعد: 9]، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء)). 

أقول ما سمعتم، ويغفر الله لي ولكم.


 

الخطبة الثانية:

الحمد لله، هو العلي العظيم، الأعلى المتعال، الأكرمُ الكريم، الإلهُ الواحد، الأحدُ الصمد، القابِضُ الباسطُ، المقدِّمُ المؤخِّر، أنعم علينا بكتابه، وأمرنا بتدبره والتمسك به، والصلاة والسلام على رسولِه محمدٍ وآله وأصحابه، أما بعد:

فتدبرنا في الخطبة الأولى آية الكرسي التي يُستحب قراءتُها بعد الفرائض وفي كل ليلة، ومما يُستحب قراءتُه كلَّ ليلةٍ خواتيمَ سورة البقرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((الْآيَتَانِ مِنْ آخِرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مَنْ قَرَأَهُمَا فِي لَيْلَةٍ كَفَتَاهُ))، وثبت أن آخر سورة البقرة نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم من كنزٍ تحت العرش، فنتدبر معكم في هذه الخطبة خواتيم سورة البقرة:

 يقول الله تعالى: ﴿لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ﴾ [البقرة: 284] يبين الله لنا سَعة ملكِه، فله كلُّ ما في السماوات وما في الأرض، وهو العالم بكل شيءٍ، فإن أظهرنا ما في أنفسنا أو أضمرناه من الخير أو الشر فالله يعلمه وسيحاسبنا عليه.

﴿فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [البقرة: 284] فيغفر الله لمن يشاء ويعذب من يشاء، وهو على كل شيء قدير، فلنصلِح نياتِنا وقلوبَنا، فالله يعلم السر وأخفى، يعلم ما في قلب العبد من الإخلاص والصدق والخوف والرجاء، ويعلم ما في قلب العبد من الرياء والعُجب والكِبر والحِقد والحسَدِ واحتقارِ الخلق وسوءِ الظن وحبِّ الشهوات المحرمة وغيرِ ذلك من السرائر التي تخفى على الناس، ولا تخفى على الله الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور.

﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ﴾ [البقرة: 285] أي: آمن رسول الله محمدٌ بما أنزل الله عليه من القرآن الكريم والسنةِ المبينة للقرآن، وكذلك آمن المؤمنون بما آمن به الرسول.

﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285] كلٌّ منَ الرسول محمدٍ عليه الصلاة والسلام وأصحابِه المؤمنين ومن جاء بعدهم يؤمنون بالله، أنه واحدٌ لا شريك له، ولا مثيلَ له، له الأسماء الحسنى والصفات العلى، ويؤمنون بجميع ملائكته، وجميع كتبه، وجميع رسله.

﴿لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285] يؤمنون بجميع رسل الله دون أيِّ تفريقٍ بين أحد منهم، فلا يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون ببعض، مثل اليهود والنصارى الذين كفروا ببعض الرسل.

﴿وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ﴾ [البقرة: 285] أي: قال المؤمنون: سمعنا قولَ ربِّنا، وأمرَه ونهيَه، فقبلناه، فامتثلْنا ما أمر، واجتنبنا ما عنه نهى، وقالوا: نسألك يا ربَّنا أن تستر لنا ذنوبنا، ولا تعاقبنا عليها، وإليك يا ربَّنا مرجعُ العباد بعد موتهم، فتبعثهم يوم القيامة وتجازيهم بما عملوا من خير وشر.

أيها المسلمون، تأملوا ذكر السماع قبل الطاعة، فالسماع يكون أولًا، وهو العلم النافع، والطاعة تكون ثانيًا، وهي العمل الصالح، والواجب على المسلم أن يتعلمَ العلم النافع ويعملَ به، ومن عرف الحكم الشرعي فعليه أن يقول: سمعنا وأطعنا، ولا يقل: سمعنا وعصينا.

﴿لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا﴾ [البقرة: 286] أي: لا يُحمِّل الله نفسًا فوق طاقتها، وهذا من يسر الشريعة وسماحتها، فالله لا يعذب أحدًا بما لا يمكنه دفعَه كالإكراه والوساوس وخطرات القلوب، قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ أَوْ تَتَكَلَّمْ)).

﴿لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ﴾ [البقرة: 286] أي: لكل نفس ما عملت من خير، وعليها ما عملت من شر، ولا يُحاسَب الإنسانُ بذنب غيره إلا أن يكون بسببه، فيكون مما اكتسبه.

﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ [البقرة: 286] علَّمنا الله أن ندعوه بهذا الدعاء العظيم ليستجيب لنا: أي: قولوا: يا ربنا لا تعاقبنا إن نسينا فعلَ بعضِ الواجبات أو أخطأنا ففعلنا بعض  المحرَّمات جهلًا منا، قال الله: ((قد فعلتُ)) كما في الحديث القدسي، أي: استجبتُ لكم هذا الدعاء، فمن نسي فعل بعض الواجبات لا يأثم؛ لأنه لم يتعمد تركها، فإن ذكر فعليه أن يقضي تلك العبادة كالصلاة من نام عنها أو نسيها فليصلها إذا قام من نومه أو ذكرها، ولا إثم عليه في نسيانه، ومن أكل أو شرب ناسيًا فليتم صومه، ولا قضاء عليه، ومن صلى وهو يظن أنه متوضئٌ، ونسي أنه نقض وضوؤه، فلا إثم عليه، فإن تذكر أعاد الصلاة، وإن لم يتذكر فصلاتُه صحيحةٌ، ولا يعاقبه الله على صلاته بلا طهارة؛ لأنه نسي حدثَه، ولم يتعمد الصلاة بلا طهارة، وهكذا من أخطأ ففعل بعض المحرمات جهلًا لا يأثم، كمن توضأ بماء نجس وهو لا يعلم نجاسته فصلاته صحيحة، أو صلى مجتهدًا إلى القبلة فتبين خطؤه فصلاته صحيحة، ولا إعادة عليه، ونصوم ونفطر لرؤية الهلال، فإن غمَّ علينا أتممنا الشهر ثلاثين يومًا، ولا إثم علينا حتى ولو طلع الهلالُ فلم نره بسبب السحاب، وكذلك لا يأثم من قتل إنسانًا خطأً، وإن كان عليه الكفارة لعِظَمِ قتلِ النَّفس، وهكذا لا يأثم العالم المجتهد إذا أخطأ في فتواه ولا القاضي المتحرِّي إذا أخطأ في قضائه، ولا إثم على من أخذ بفتوى العالم الثقة ولو كانت فتواه خطأً، قال الله تعالى: ﴿وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا﴾ [الأحزاب: 5].

﴿رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا﴾ [البقرة: 286] أي: قولوا: يا ربنا، لا تُكلِّفنا القيام بأحكامٍ شرعيةٍ شاقةٍ تثقُل علينا، كما كلَّفت اليهود والنصارى مِن قبلِنا أحكامًا ثقيلةً عقوبةً عليهم، قال الله في الحديث القدسي: ((قد فعلتُ))، فالحمد لله الذي لم يكلفنا إلا ما نستطيع، وما جعل علينا في الدين من حرج، فلا واجب مع العجز، ولا محرم مع الضرورة، وكل ما أمرنا الله به أو نهانا عنه فهو ميسَّرٌ بحمد الله، ﴿يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ﴾ [البقرة: 185]، فالصلوات خمسٌ في اليوم والليلة، ومن كان مريضًا لا يستطيع الصلاة قائمًا صلى جالسًا، فإن لم يستطع صلى على جنبه، ومن سافر قصر الصلاة، ويجوز الجمع بين الصلاتين للحاجة كالمرض والسفر، وهكذا الصيامُ إنما هو شهرٌ في السنة، فمن كان مسافرًا أو مريضًا فأفطر قضى أيامًا أُخر، فإن كان عاجزًا عن الصوم أطعم عن كل يوم مسكينًا، وهكذا الحج إنما يجب في العمر مرة على المستطيع، والزكاة إنما تجب على من مَلَك النصاب، وهي شيء يسير.

﴿رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ﴾ [البقرة: 286] أي: يا ربنا لا تكلفنا من الأعمال ما لا نُطيق القيام به، ولا تبتلِنا ببلاءٍ عظيمٍ لا نستطيع تحمُّلَه.

﴿وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا﴾ [البقرة: 286] أي: يا ربنا، اعف عنا واغفر لنا ذنوبنا، وارحمنا في الدنيا والآخرة.

﴿أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 286] أنت وحدك وليُّنا وناصرُنا؛ لأننا مؤمنون بك وكتابِك ورسولِك، مطيعون لأمرِك ونهيِك، فانصرنا على القوم الكافرين المحاربين لنا، قال الله كما في الحديث القدسي: ((قد فعلتُ))، فالصحابة عندما حققوا الإيمان، وأطاعوا الله ورسوله؛ استجاب لهم كلَّ ما في هذا الدعاء العظيم، ونصرهم على أعدائهم الكافرين، فإن أردنا أن يغفر لنا الله ويرحمنا في الدنيا والآخرة وينصرنا على الكفرة فلنؤمن بالله ورسوله، ولنستجب لأوامرهما ونواهيهما، قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [العنكبوت: 7]، وقال سبحانه: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47].

﴿رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران: 53]

﴿رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ﴾ [المؤمنون: 109]

﴿رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 286].

 

المرفقات

1723720186_‏‏‏‏تدبر آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة - نسخة - نسخة.docx

1723720187_‏‏‏‏تدبر آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة - نسخة - نسخة.pdf

المشاهدات 234 | التعليقات 0