تخلص من المعصية الآن..
أحمد بن عبدالله الحزيمي
تخلص من المعصية الآن....
الحمدُ للهِ الحكيمِ في خلقِه ورزقِه وتدبِيرِه، الحميدِ في خفضِه ورفعِهِ وعطائِهِ ومنعِه وجميعِ تَقديرِه، الغفورِ الرحيمِ لمن خشيَه واتقاهُ، شديدِ النَّكالِ والعقوبةِ على من عاندَه وعصاهُ، وأشهد أنْ لا إلهَ إلا ُالله ولا نعبدُ إلا إيَّاه، وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه ومختارُه ومصطفاه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه ومَن اهتدى بهداهُ.
أما بعد:
أيها المسلمون: اتقوا اللهَ وراقبوه، واحذروا الوقوعَ في معاصِيهِ، فإنه شديدُ العقابِ، وبادروا بالأعمالِ الصالحاتِ، وتوبوا إلى ربِّكم إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
وقال سفيانُ الثوريُّ رحمه اللهُ: "عندَ الصباحِ يَحمَدُ القومُ السُّرى، وعند المماتِ يحمَدُ القومُ التقي".
عباد الله:
مَن ذَا الذي لَم تَصدُر منه زلَّةٌ؟ ومن الذي لم تقعْ منه هَفوةٌ؟ ومَن منا لم يقعْ في معصيةٍ؟
قال صلى اللهُ عليه وسلم: "وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ لَوْ لَمْ تُذْنِبُوا لَذَهَبَ اللَّهُ بِكُمْ وَلَجَاءَ بِقَوْمٍ يُذْنِبُونَ فَيَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ فَيَغْفِرُ لَهُمْ" رواه مسلمٌ.
وقال صلى اللهُ عليه وسلم: "كُلُّ ابْنِ آدَمَ خَطَّاءٌ وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ" رواه الترمذيُّ.
فأيُّ نَفسٍ غيرُ نُفوسِ الأنبياءِ المعصومةِ ترتقي إلى درجةٍ ومنزلةٍ لا تدركها كَبوةٌ، ولا تغلبها شهوةٌ.
ولكن المؤمن الصادق في إيمانه مع ذلك كله يدرك خطورة المعصية وشناعتها وأنها جرأةٌ على مولاه، فإذا وقع فيها تحت ضعف بشري واقعها مواقعة ذليل خائف يتمنى ذلك اليوم الذي يفارق فيه الذنب ويتخلص من شؤم المعصية.
فإنَّ مما جرتْ به حكمةُ اللهِ أنَّ الخطأَ والزللَ مِن طباعِ البشريةِ؛ وأنَّ المرءَ مهما صَلَحَ حَالُه واستقامَ فلا بدَّ أن يقعَ في الذنوبِ والمعاصِي؛ والناسُ في هذا البابِ الخطيرِ بين مُقلٍّ ومُستكثِر.
والسؤالُ الملحُّ -أيها الكرامُ- كيف يَقِي العبدُ نفسَه الوقوعَ في المعصيةِ؟ كيف يمكنه أن يصارِعَ الشيطانَ ويغلِبَه وينتصرَ عليهِ؟
جَوابُ ذلك يترتبُ عليه طِيبُ الحياةِ في الدنيا, والنعيمُ المقيمُ في الآخرةِ. فأَرعونِي سمعَكُم جيداً.
مِن أعظمِ ما يُستَمسَكُ بهِ في هذا الأمرِ: مجاهدةُ النفسِ, ومصابرةُ الطاعةِ ومقاومةُ المعصيةِ بشتى طُرقِها, ومَن كانت هذه حالُه فماذا يعني؟ يعني أنه في عبادةٍ عظيمةٍ, يعني هذا أنَّ العونَ الإلهيَّ لن ينفَكَّ عنه, يعني هذا أنَّ اللهَ سيفتحُ له أبواباً من الخيراتِ والمكارمِ والمنحِ الإلهيةِ ما اللهُ تعالى بها عليمٌ, تأمَّلْ جيداً في قولِ اللهِ تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}.
قالَ العلامةُ عبدُ العزيز بنُ بازٍ رحمه اللهُ تعالى: مجاهدةُ النفسِ مِن أهمِّ المهماتِ، وهو الجهادُ في سبيلِ اللهِ في الحقيقةِ، وفي الحديثِ يقولُ ﷺ: "المجاهدُ مَن جَاهدَ نفسَه للهِ"، واللهُ يقولُ سبحانه: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} فالمجاهدةُ للنفسِ في أداءِ الواجباتِ وتركِ المحارمِ والوقوفِ عند حدودِ اللهِ هذا مِن أهمِّ الجهادِ، ومِن أهمِّ الواجباتِ والفرائضِ. اهـ
ومما يعينُ على تركِ المعاصي: عدمُ الاستهانةِ بالمعصيةِ.
فإذا ابتُلِيَ العبدُ بمعصيةٍ من المعاصي لَم يَسُغْ له أن يستهينَ بها ولو كانت صغيرةً في نظرِه، نستهينُ أحياناً بذنبٍ معينٍ مثلاً, ونرى أنه ذنبٌ صغيرٌ, ماذا لو سمعتَ هذه الأغنيةَ؟ أو تابعتَ ذلك المسلسلَ؟ ماذا لو نظرتَ إلى تلك الفتاةِ, أو شاهدتَ مقطعاً مخلاً في قَناةٍ أو جوالٍ؟ وما يضرُّ لو هَزِئتَ بفلانٍ!! وهكذا ذنوبٌ كثيرةٌ نتهاونُ بها وهي تؤثِّرُ في علاقتِنا باللهِ أيما تَأثير.
نستهينُ دائماً بالذنوبِ الصغيرةِ ولا نحسِبُ لها حساباً مع أنها تَفعلُ فِعلَ القطرةِ التي تسقط على الصخرةِ وربما فلقتها نِصفَين!
فلا يليقُ بنا أن ننظرَ إلى صِغرِ المعصيةِ ولكن لنِنظرْ إلى عِظمِ مَن عصيناه، فالاستهانةُ بالذنوبِ دليلُ الجهلِ وقلةِ توقيرِ اللهِ في القلبِ، ولقد صوَّر ابنُ مسعودٍ رضي اللهُ عنه حالَ المؤمنِ معَ المعصيةِ تَصويراً بليغاً دقيقاً، كما في البخاريِّ: "إِنَّ المُؤْمِنَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَأَنَّهُ قَاعِدٌ تَحْتَ جَبَلٍ يَخَافُ أَنْ يَقَعَ عَلَيْهِ، وَإِنَّ الفَاجِرَ يَرَى ذُنُوبَهُ كَذُبَابٍ مَرَّ عَلَى أَنْفِهِ" فَقَالَ بِهِ هَكَذَا.
وليسَ بغائبٍ عنا قصةُ المرأةِ التي دخلتِ النارَ بسببِ هِرةٍ حبستْها حتى ماتتْ.
ومما يعينُ على تركِ المعاصي: ألا تَستَقلَّ الطاعةَ ولو كانتْ قليلةً:
فمنَ المفاهيمِ الخاطئةِ أنَّ صاحبَ المعصيةِ قد يَستهينُ بالطاعاتِ اليسيرةِ بحجةِ أنه واقعٌ في أمورٍ كبيرةٍ، فماذا عساهُ تَفعلُ هذه الطاعةُ اليسيرةُ بجانبِ ما يفعلُه مِنَ الكبائرِ! وهذا تَلبيسٌ مِن إبليسٍ، ومَا يُدريه لربما هذه الطاعةُ اليسيرةُ سبباً لمغفرةِ ذُنوبِهِ خُصوصاً إذا قامَ بقلبِه الإخلاصُ في فعلِها والإقبالُ على اللهِ، وفَضْلُ اللهِ عظيمٌ فقد يغفِرُ اللهُ ذنباً مِن أعظمِ الذنوبِ بسببِ عملٍ يسيرٍ، قال r: " بَيْنَمَا كَلْبٌ يُطِيفُ بِرَكِيَّةٍ -أي يدورُ حولَ بِئرٍ-، كَادَ يَقْتُلُهُ العَطَشُ، إِذْ رَأَتْهُ بَغِيٌّ مِنْ بَغَايَا بَنِي إِسْرَائِيلَ، فَنَزَعَتْ مُوقَهَا -أي خُفَّهَا- فَسَقَتْهُ فَغُفِرَ لَهَا بِهِ" متفقٌ عليه.
ومِن أعظمِ مَا يعينُ على تَركِ المعاصي: المحافظةُ على الصلاةِ:
إنَّ أهمَّ عملٍ وأحبَّ عملٍ إلى اللهِ تعالى هو الصلاةُ، وهي مِفتاحُ الخيرِ وتَركُها يفتحُ أبوابَ الشرِّ.
ومَنِ ابتُلِىَ بكثرةِ المعاصِي فعليهِ بالصلاةِ لأنها خيرُ وَسيلةٍ تُساعدُه على التخفيفِ مِن هذه المعاصِي حتى تَترُكَهَا نهائياً بإذنِ اللهِ تعالى.
حافظْ على الصلاةِ مهمَا كانتِ الظروفُ ومهمَا تلبَّسْتَ مِن مَعاصٍ.
الصلاةُ هي أهمُّ وسيلةٍ لعلاجِ المعصيةِ، فما دُمتَ تقيمُ الصلواتِ وتحافظُ عليهَا فلا خوفٌ عليك، لأنَّ الصلاةَ سوفَ تنهاكَ عن فِعلِ المنكرِ، وهذا كلامُ مَن؟ إنه كلامُ اللهِ تعالى القائلِ: {اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ}.
ومما يعينُ على تركِ المعاصي: ألا نَمَلَّ مِنَ التوبةِ:
صحَّ عن عَليٍ رضي اللهُ عنه، أنه قالَ: "خِيَارُكُمْ كُلُّ مُفْتَنٍ تَوَّابٍ"، قِيلَ: فَإِنْ عَادَ؟ قَالَ: "يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ"، قِيلَ: فَإِنْ عَادَ؟ قَالَ: "يَسْتَغْفِرُ اللَّهَ وَيَتُوبُ"، قِيلَ: حَتَّى مَتَى؟ قَالَ: "حَتَّى يَكُونَ الشَّيْطَانُ هُوَ الْمَحْسُورَ" رواه ابنُ أبي الدُّنيا.
وقيل للحَسنِ البَصريِّ: ألا يَستحيي أحدُنا من ربِّه؛ يستغفرُ مِن ذُنوبِه، ثم يعودُ، ثم يَستغفرُ، ثم يعودُ، فقال: ودَّ الشيطانُ لو ظَفرَ مِنكم بهذِه، فلا تَملُّوا من الاستغفارِ!.
فإذا تكرَّرَ الذنبُ، وتكرَّرَ الذنبُ، وتكرَّرَ الذنبُ، فكرِّر التوبةَ ولا تَملَّ؛ شريطةَ ألا تكون مُصرًّا على المعاصي، بمعنى أن تكونَ عازمًا حالَ تَوبتِكَ ألا تعودَ مع إقلاعِكَ عن ذَنبِكَ ونَدمِكَ.
أيها المؤمنونَ:
ومِن خَيرِ مَا يعين على تركِ المعاصي: لزومُ الاستغفارِ:
فإنَّ للاستغفارِ سِرٌّ غريبٌ، وهو أسهلُ عملٍ تقومُ به لدَرءِ المعاِصي وإبدالِهَا بالأعمالِ الحسنةِ التي يرضاها اللهُ، فإذا أردتَ أن يفرِّجَ اللهُ همَّكَ ويُنجِيَكَ مِن المواقفِ الحَرجةِ فالزمِ الاستغفارَ؛ لأنَّ النبيَّ الكريمَ صلى الله عليه وسلم قالَ: "مَنْ لَزِمَ الِاسْتِغْفَارَ، جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مِنْ كُلِّ ضِيقٍ مَخْرَجًا، وَمِنْ كُلِّ هَمٍّ فَرَجًا، وَرَزَقَهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ" رواهُ أبو داودَ.
لقد كانَ النبيُّ الأعظمُ وهو الذي جعلَه اللهُ رحمةً للعالمينَ، كان يستغفرُ اللهَ سبعينَ مرَّةً، وفي روايةٍ: مِائةَ مرةٍ وذلك كلَّ يَومٍ! والأجدرُ بمن ابتُلِيَ بالمعاصي أن يُكثِرَ من الاستغفارِ في يومِه وليلتِه، وهذا الذكرُ سوف يمنحُهُ حالةً من الإحساسِ بالقربِ مِن الخالقِ عز وجل، وسوف يكرَهُ المعاصي تَدريجياً.
أيها الإخوةُ:
شابٌّ أَنهكَتْه الذنوبُ وكدَّرتْ حياتَه المعاصي, يقولُ: جَرَّبتُ علاجاتٍ كثيرةً وفَشِلْتُ, حاولتُ مع التلاوةِ والنوافلِ فتعثَّرتُ, ثم أَذِنَ اللهُ وفُتح الباب ودخلتُ مِن بابِ الدعاءِ, فأدمنتُ الدعاءَ ولزمتُه في جميعِ الأوقاتِ حتى رجعَ الحالُ أحسنَ مما كانَ.
نعَم ينبغي ألاَّ ننسى الدعاءَ. فكن صادقا مع ربِّك وادْعُه مخلِصا من قلبِك بأن يُعينَكَ على تركِ ما ألَمَّ بك من ذنبٍ, وكرِّرْ دعاءَك مراتٍ ومراتٍ, واللهُ سبحانه يستجيبُ الدعواتِ ويقضي الحاجاتِ ويغفر الزلاتِ.
وجامِعُ هُجرانِ الذنوبِ، وأُسُّها وأساسُهَا أيها المباركون: الإرادةُ، ثمَّ الإرادةُ.
أن تَحمِلَ بين جنبيكَ إرادةً قويَّةً، ملؤها الصدقُ والحماسُ والقوةُ والإخلاصُ على مجاهدةِ النَّفسِ والهوى؛ طلبًا لرضوانِ اللهِ وجنَّةٍ عرضهَا السَّمواتُ والأرضُ.
اللهمَّ أعنا على أنفسِنا وعلى الشيطانِ، وحببْ إلينا الإيمانَ، وكره إلينا الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ، اللهم تُبْ على التائبينَ، واعف عن العصاةِ المذنبينَ، برحمتكَ يا أرحمَ الرحمين.
أقول قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ وكفى والصلاةُ والسلامُ على النبي المصطفى ، أما بعدُ:
أيها الإخوةُ الكرامُ: مُلخَّصُ الملخَّصِ: المعاصِي شرٌ كلُّهَا، ومن اشتغلَ بالمعاصي أعرضَ اللهُ عنه، وأعرضتْ عنه الملائكةُ، وأعرضَ عنه عبادُه المتقونَ.
وإنَّ مِن أَعظمِ نِعَمِ اللهِ على عبادِه أن سَتَرَ عيوبَ بعضِهِم عن بعضٍ؛ ولو بَدتْ صحائفُ أعمالِ الخلقِ بعضِهِم لبعضٍ لَمَا صفَا لهم عَيشٌ؛ ولَما جلسَ أحدٌ إلى أحدٍ؛ ولا أحبَّ أحدٌ أحداً؛ قال ابنُ شَوْذَبٍ: اجتمعُ قَومٌ فتذَاكَروا أيُّ النِّعَمِ أفضلُ؟ فقال رجلٌ: مَا ستر اللهُ به بعضَنَا عَن بعضٍ
اللهم أعنا على أنفسنا، اللهم أصلح نفوسنا وآتها تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها يا أرحم الراحمين...
يا من هُدِيتم بالنبيِّ محمدٍ
سيروا بهدي نبيّكم تعظيماً
وإذا سمعتُم ذِكْرَه في مجلسٍ
صلُّوا عليه وسلموا تسليما
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محم
المرفقات
من-المعصية-الآن
من-المعصية-الآن