تحمل المسئولية

فهد عبدالله الصالح
1439/01/22 - 2017/10/12 07:21AM

 

عباد الله : إن من القيم العظيمة التي أرساها الإسلام ودعا إليها, وربى عليها أتباعه  تحمل المسئولية, خاطب بذلك الأفراد والمجتمع والأمة وجعلها سبباً للحياة السعيدة الطيبة , والنجاة في الآخرة فتزكية النفس والمحافظة عليها مسئولية , والقيام بالحقوق الأسرية مسئولية وإتقان الأعمال والقيام بالواجبات الوظيفية مسئولية , وتقلد المناصب والمراكز الهامة مسئولية , وهكذا المسئولية في حياتنا تظهر في جميع سلوكياتنا وتصرفاتنا , رجالاً ونساءً , شباباً وشيوخاً , حكاماً ومحكومين وأخص ما يوصف به الإنسان البالغ الرشيد أنه مسئول .

عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته , الإمام راع ومسئول عن رعيته , والرجل راع في أهله ومسئول عن رعيته, والمرأة راعية في بيت زوجها ومسئولة عن رعيتها , وكلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته) رواه البخاري .

وقال تعالى (فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ), وقال تعالى(وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ), فكل عمل -يا أخي المسلم – أنت مكلف به شرعاً , أو التزمت بالقيام به , فهو مسئولية ينبغي عليك القيام بها على أحسن حال , فالمسئولية فردية لأن التكليف فردى والحساب كذلك يوم القيامة , قال تعالى (إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا), بل إن القيم والمبادئ لتملي على صاحبها الوفاء بما التزم به .

عباد الله : لقد ضرب الله سبحانه وتعالى في القرآن الكريم الكثير من المواقف والأحداث على تحمل المسئولية , قال تعالى (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ), إنه رجل من أقصى المدينة يسعى لماذا يأتي ؟ لإنقاذ الموقف , لإعلان كلمة الحق (يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ), ليس له غرض , ولم يكن سعيه خوفاً من فوات صفقة تجارية ولا خوفاً على نفسه , بل ربما ضحى بنفسه بسبب جهره بكلمة الحق , وتعزيزه لموقف النبيين المرسلين , فقتل رحمه الله (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ), فهو رجل واحد جاء يسعى بكل قوته , لأنه يشعر أنه مسئول , وكأنه يرى أن هذا الأمر لابد أن يبلغه في وقته المناسب .

وفي معركة أحد وهزيمة المسلمين لم يكن التبرير وإلغاء المسئولية على قوة العدو , وكثرة عدده , ودقة خططه , بل جاء القرآن ليصدع بالحق , ويبين إن المسلمين الذين خالفوا أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم هم من تقع عليهم مسئولية الهزيمة فقال تعالى (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).

قدم الأحنف بن قيس على عمر رضي الله عنه في وفد من العراق في يوم صائف شديد الحر وهو – أي عمر – محتجز بعباءة , يحاول إدراك بعير من إبل الصدقة شرد , فقال : يا أحنف ضع ثيابك , وهلم فأعن أمير المؤمنين على هذا البعير , فإنه من إبل الصدقة , فيه حق لليتيم والمسكين والأرملة , فقال رجل من القوم : يغفر الله لك يا أمير المؤمنين , هلا أمرت عبداً من عبيد الصدقة يكفيك هذا , قال عمر : ثكلتك أمك وأي عبد هو أعبد مني ومن الأحنف .

وانظروا إلى ذلك الصحابي عبد الله بن أم مكتوم رضي الله عنه وقد عذره الله , فهو رجل كبير السن وأعمى , ومع ذلك لم يعذر نفسه , ولم يخلد إلى الراحة والدعة , ولم يتنصل عن مسئوليته تجاه قضايا الأمة , فلم ير أنه يسعه أن يدع فرصة يخدم فيها الدين تفلت منه , حتى ولو كان هنالك في مواقع القتال وقعقعة السيوف , وطعن الرماح وإراقة الدماء , فقرر أن يخرج مع كتائب المسلمين لملاقاة الفرس , قالوا : قد عذرك الله , قال : أكثر سوادكم , وعندما خرج طلب أن توكل إليه المهمة التي تناسبه وتليق به , فقال : إني رجل أعمى لا أفر , فادفعوا إلي الراية أمسك بها ، فأمسك بها حتى استشهد رضي الله عنه.

أجل ـ أيها المصلون – إن أمة الإسلام بهذه القيم سادت الأمم , وحكمة العالم وأسست حضارة لم يعرف لها التاريخ مثيلاً , فكل فرد عرف دوره ومسئوليته , فقام بواجبه لم ينتظر أن يكون على هامش الحياة ليس له دور أو واجب يجب أن يؤديه , أو أن يلقى بمسئولياته على الآخرين مهما كانت ظروفه , هذا وإن ثقافة التبرير  واختلاق الأعذار وإلقاء المسئولية على الآخرين ليست من القيم في شيء.

فالأب المقصر في تربية أولاده يرجع الأسباب إلى تقصير الأم , وانشغاله بأعماله والأم بالمقابل تلقي الملائمة على الأب , والكل يحمل الإعلام والقنوات الفضائية وغيرها المسئولية , والموظف المهمل لعمله يرجع الأسباب إلى زملائه وإلى مدرائه ورؤساء الأقسام , أو يرجع السبب إلى ضعف الراتب , ومشاكله العائلية , والمعلم المهمل يرجع سبب ضعف الطالب إلى وضع المجتمع , وإلى تقصير الآباء في المتابعة لأبنائهم ونسي أو تناسا أن المعلم الناجح لم ينسوه تلاميذه حيا وميتا  .

ومدير المنشأة يبرر الفشل الذي أصاب مؤسسته أنه ليس سببه , ويلقي بالمسئولية على غيره , وهكذا يظهر الضعف في تحمل المسئولية في أغلب شرائح المجتمع وفئاته .

وبعد ـ أيها المسلمون ـ  إن الشعور بالمسئولية والقيام بها وأداءها على أكمل وجه يجب أن يصبح في حياتنا خلقاً وسلوكاً وضرورة تمارس في واقع الحياة , حتى لا يحدث التساهل في الواجبات , وحتى لا تضيع الحقوق , وحتى تنجز الأعمال , وتنجح المشروعات وتسود الأخلاق وتنشر قيم الخير في المجتمعات , وإن الأمم والدول والمجتمعات لا تتطور , ولا يحدث في حياتها تغيير إلا عندما تحل مثل هذه القيم (وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)  

الخطبة الثانية :

عباد الله : ثم اعلموا أن من أعظم مسئولياتنا الجماعية التي أمرنا بها الإسلام هي الحفاظ على روابط الإخوة والألفة والتراحم والأمن والسكينة في المجتمع الذي يعتبر سفينة يعيش عليها المجتمع وهذا الأمر يتحقق بأداء الحقوق والواجبات , وبمعرفة المصالح والمفاسد , والسعي للإصلاح ومكافحة الفساد بشتى صوره وأشكاله ومسمياته وفضح الفاسدين والمفسدين , ورفع أمرهم لذوى الاختصاص قال تعالى (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ).  أيها المسلمون : إن أي مسئولية تقابلها محاسبة , فلا يمكن لأي مكلف بعمل أن يترك وشأنه , يحاسب نفسه بنفسه , والأمر يرجع إلى ضميره ، كلا فليس ذلك من طبيعة الحياة ومما يصلح الأرض ومن عليها , فلا بد من المحاسبة الدقيقة والمتواصلة على كل من تحمل مسئولية شرعاً وأخلاقاً ومبدأ , ولذا نجد أن الشرع الحنيف أعذر من فقد عقله إما فقداً دائماً كحال المجنون أو فقداً مؤقتاً كالصبي والنائم لقوله صلى الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاث : عن النائم حتى يستيقظ , وعن الصبي حتى يبلغ , وعن المجنون حتى يعقل)رواه الإمام أحمد في مسنده .

وخلاصة القول أيها الأحبة أن المسئولية في الإسلام واجب شرعي وأخلاقي يجب على كل من تحمل شيئاً منها أن يقوم بها خير قيام براءة لذمته وحتى لا يكون ظالماً لطرف أخر أو للمجتمع أو للأمة بتقصيره في ذلك , والمسئولية ليست كرة يتقاذفها اللاعبون إنما هي أمانة يتحملها الأشداء من الرجال والنساء على السواء , إنها أمانة ويوم القيامة خزي وندامة إلا من قام بحقها .

هذا وصلوا وسلموا ...........

 

المشاهدات 787 | التعليقات 0