تحقيق الوصال بين القلب والقرآن
عايد القزلان التميمي
1437/08/24 - 2016/05/31 12:03PM
خطبة : تحقيق الوصال بين القلب والقرآن
الحمد لله الذي نزل القرآن على عبده ليكون للعالمين نذيرا ودعانا إلى مكارم الأخلاق بالموعظة الحسنة والأسلوب الحكيم ، فقال تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا . نحمدك اللهم فضلتنا على سائر الأمم وجعلتنا عليهم شهودا ، ونسألك العفو والعافية وأن تلهمنا رشدنا وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله ،.اللهم فصل وسلم على سيدنا محمد الذي تممت خَلْقه وخُلُقه ، وفتحت به آذانا صماء وأعينا عمياء وقلوبا مغلقَة ،. أما بعد فيا عباد الله :
اتقوا الله وتمسَّكوا بحبله المتينواستقيموا على صراطه المستقيم
فإن أمتنا ليست كبقية الأمم، وأن لها وضعا خاصا عند الله عز وجل، فهي الأمة المكلفة منه سبحانه بحمل رسالته الأخيرة للبشرية وتبليغها للعالمين: ]وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ[
فالإيمان هو الذي يعين أبناءها على أداء هذه الرسالة لذلك نجد أن الله عز وجل قد ربط بين علونا وقيادتنا للبشرية وبين الإيمان الذي تحمله صدورنا حيث قال سبحانه: ]وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ[[
فالحماية والولاية والكفاية والنصرة على قدر الإيمان:
]ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لاَ مَوْلَى لَهُمْ[
]وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً[
عباد الله :
فالقرآن هو المنبع العظيم للإيمان والذي لا يوجد له مثيل، الذي إذا استقبلته الجبال الرواسي لتصدعت واندكت من قوة تأثيره عليها ]لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللهِ[
ويكفيك لتأكيد هذا المعنى ما حدث مع الجيل الأول حينما أحسنوا التعامل مع القرآن، وحين استقبلته قلوبهم الاستقبال الصحيح فكانت النتيجة السريعة المذهلة, سيادة الأرض في سنوات قليلة.
عباد الله :
فإذا كان القرآن قد صنع الجيل الأول، فإنه قادر بإذن الله أن يصنع أجيالاً ربانية جديدة، وليس معنى القول بأن القرآن هو المخرج التقليل من شأن السنة النبوية، بل العكس فالقرب الحقيقي من القرآن سيزيدنا حبًا للسنة، ويعيننا على العمل بما تدل عليه.
فالسنة تشرح القرآن وتبين ما أُجمل فيه ]وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ[
عباد الله : ومن مظاهر تأثير القرآن، والتي حدثتنا عنها الآيات، ما حدث لمجموعة من الجن حينما استمعوا إلى آيات من القرآن فكان أول رد فعل لهم أن قال بعضهم لبعض:
(أنصتوا) ولم يقولوا (اسمعوا) فقد فتأثروا به تأثرًا بالغًا، ]وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِم مُّنْذِرِينَ ` قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِن بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ ` يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ[
وفي يوم من الأيام كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ سورة النجم عند الكعبة، وكان يستمع لقراءته العديد من المشركين، فسكتوا وأنصتوا، وتأثروا لدرجة أنه عندما بلغ نهاية السورة، وسجد عند قوله تعالى: ]فَاسْجُدُوا للهِ وَاعْبُدُوا[، لم يتمالك جميع المستمعين السيطرة على أنفسهم وخروا ساجدين.
سجدوا وهم مشركون .. وهم يمارون في الوحي والقرآن .. وهم يجادلون في الله والرسول!
سجدوا تحت تأثير آيات الله التي وقعت على قلوبهم والرسول صلى الله عليه وسلم يتلو هذه السورة عليهم، وفيهم المسلمون والمشركون. ويسجد فيسجد الجميع.
فهو تأثير هذا القرآن العجيب ووقعه الهائل في القلوب.
(من هنا ندرك حكمة تكليف المسلم بأن يُمَكِّن المشركين من سَمَاعِ كلام الله ]وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ[ فالإسْمَاع هو الأداة الأولى والمباشرة لنقل كلام الله إلى الآخرين، وهو الوسيلة الأنسب لفتح القلوب إلى دين الله).
عباد الله :
ونجد أن العامل المشترك لإسلام من أسلم من المسلمين الأوائل هو سماعهم للقرآن أيضًا.
فهذا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول في قصة إسلامه: فلما سمعت القرآن رقَّ له قلبي فبكيت، ودخلني الإسلام
* وقال الطفيل بن عمرو الدوسي رضي الله عنه وقد حشا في أذنيه كُرسُّفا، لئلا يسمع القرآن: «فأبى الله إلا أن يسمعني بعض قوله. فسمعت كلاما حسنا، فقلت في نفسي: واثكل أمي، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يخفى عليَّ الحسن من القبيح، فما يمنعني أن أسمع من هذا الرجل ما يقول؟
قال: فعرض علىَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الإسلام، وتلا علىَّ القرآن، فوالله ما سمعت قولا قط أحسن منه، ولا أمرًا أعدل منه .. فأسلمت
* وهذا الجبير بن مطعم يأتي المدينة مع أسارى بدر فيسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في صلاة المغرب بسورة الطور، فلما قرأ: ]أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ[ قال جبير: «كاد قلبي أن يطير»، وفي رواية «وذلك أول ما وقر من الإيمان في قلبي»
* وحكت أم سلمة رضي الله عنها – أن النجاشي استقرأ جعفرًا رضي الله عنه القرآن، قالت: فقرأ عليه آيات من سورة مريم فبكى النجاشي، حتى اخضلت لحيته، وبكت أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال النجاشي: إن هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة
وهكذا نجد الأثر السريع للقرآن
ومع كل مظاهر التأثير القرآني السابق ذكرها، إلا أن أهم مظهر لقوة تأثير المعجزة القرآنية هوالتحول العظيم الذي حدث لجيل الصحابة، والتغيير الجذري الذي حدث لهم بعد إسلامهم .
عباد الله : لقد اختلطت معاني القرآن بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، وامتزجت بها، فصارت تتمثل واقعًا حيا في شخصه، وكأن القرآن أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ]قَدْ أَنْزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا ` رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ[ لذلك عندما سئلت عائشة – رضي الله عنها عن خلقه صلى الله عليه وسلم قالت: كان خلقه القرآن.
عباد الله :
ذاق صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم حلاوة الإيمان من خلال القرآن، وإليك أيها المسلم بعضًا من الأخبار التي وردت عن مظاهر تأثر الصحابة رضوان الله عليهم بالقرآن:
فعن عبد الله بن عروة بن الزبير قال: قلت لجدتي أسماء - بنت أبي بكر – كيف كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمعوا القرآن؟ قالت: تدمع أعينهم وتقشعر جلودهم كما نعتهم الله .
عباد الله أما من الناحية العملية فقد تأثر الصحابة كثيرا بذلك ومبادرتهم لفعل الخير،
.. فهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه كان ينفق على مِسْطَح بن أُثاثة لقرابته منه وفقره، فلما قال مسطح ما قال في أُم المؤمنين عائشة رضي الله عنها في حادثة الإفك، قال أبو بكر: والله لا أُنفق على مسطح شيئًا أبدًا بعد الذي قال في عائشة، ما قال. فأنزل الله: ]وَلاَ يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنكُمْ وَالسَّعَةِ أَن يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَّغْفِرَ اللهُ لَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ[ [النور: 22].
قال أبو بكر: بلى والله إني أحب أن يغفر الله لي.
فرجع إلى النفقة التي كان ينفق عليه، وقال: والله لا أنزعها أبدًا .
ولما نزل قول الله تعالى: ]مَن ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ[
قال أبو الدحداح: يا رسول الله!، وإن الله يريد منا القرض؟ قال: «نعم يا أبا الدحداح» قال: أرني يدك يا رسول الله! فناوله يده. قال: إني قد أقرضت ربي حائطي (بستان) فيه ستمائة نخلة.
وأم الدحداح فيه وعيالها، فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح. قالت لبيك. قال: أخرجي فقد أقرضته ربي – عز وجل – قالت: ربح بيعك يا أبا الدحداح! ونقلت منه متاعها وصبيانها .
الخطبة الثانية :
الحمد لله الذي امتنّ على عباده بنبيه المرسل وكتابه المنزّل ، الذي ]لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد[ . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله اللهم صل وسلم وبارك وأنعم على عبدك ورسولك نبينا محمد ، وعلى آله وصحبه أجمعين ] .
إن هذا القرآن ينبغي أن يقرأ، وأن يُتلقى من أجيال الأمة المسلمة بوعي، وينبغي أن يُتدبر على أنه توجيهات حية، تتنزل اليوم، لتعالج مسائل اليوم، ولتنير الطريق إلى المستقبل.
وحين نقرأ القرآن بهذا الوعي سنجد عنده ما نريد. وسنجد فيه عجائب لا تخطر على البال وسنجد كلماته وعباراته وتوجيهاته حية تنبض وتتحرك وتشير إلى معالم الطريق.. وتقول لنا حديثا طويلاً مفصلاً دقيقًا في كل ما يعرض لنا من الشؤون .. وسنجد عندئذ في القرآن متاعًا وحياة، وسندرك معنى قوله تعالى: ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا للهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ[ فكلما أعطينا للقرآن حقه أعطانا من خيره وكنوزه التي لا نهاية لها،
وأننا إذا أحسنَّا الإقبال على القرآن، وأكثرنا من تلاوته بالليل والنهار، فسنجد – بعون الله – لذة المناجاة، وسنأنس بكلام الله أكثر من أُنسنا بأي شيء آخر، وستأتينا الفتوحات من حيث لا نحتسب.
وتذكر يا عبد الله أن صلاح الأمة متوقف على صلاحي وصلاحك، وصلاحنا لن يكون إلا بالإيمان أولا، والقرآن هو العمود الفقري لهذا الإيمان.
المرفقات
خطبة تحقيق الوصال بين القلب والقران.doc
خطبة تحقيق الوصال بين القلب والقران.doc