تحريم رجب
الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل
5/7/1436
الْحَمْدُ لِلَّـهِ الْخَلَّاقِ الْعَلِيمِ، الرَّزَّاقِ الْكَرِيمِ؛ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ، وَهُوَ الْكَبِيرُ المُتَعَالِ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا كَثِيرًا، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا مَزِيدًا، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ خَلَقَ الْخَلْقَ فَأَحْصَاهُمْ، وَرَزَقَهُمْ فَكَفَاهُمْ، وَقَدَّرَ فِيهِمْ أَقْدَارَهُ، وَأَمْضَى عَلَيْهِمْ قَضَاءَهُ، فَلَا خُرُوجَ لَهُمْ عَنْ حُكْمِهِ ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالأَرْضُ بِأَمْرِهِ﴾ [الرُّوم: 25]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ أَفْضَلُ خَلْقِهِ، وَخَاتَمُ رُسُلِهِ، وَأَمِينُهُ عَلَى وَحْيِهِ، وَمُبَلِّغُ دِينِهِ، وَمُنْقِذُ النَّاسِ مِنَ النَّارِ بِهِ؛ فَمَنْ أَطَاعَهُ رَشَدَ وَاهْتَدَى، وَمَنْ عَصَاهُ ضَلَّ وَغَوَى، لَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ حَتَّى يَظْهَرَ دِينُهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَعَظِّمُوا شَعَائِرَهُ وَحُرُمَاتِهِ، وَالْتَزِمُوا أَمْرَهُ وَنَهْيَهُ، وَأَيْقِنُوا بِثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَاجْمَعُوا بَيْنَ خَوْفِهِ وَرَجَائِهِ، وَامْلَئُوا الْقُلُوبَ بِتَعْظِيمِهِ وَمَحَبَّتِهِ؛ فَإِنَّ وَعْدَهُ حَقٌّ، وَلِقَاءَهُ حَقٌّ، وَقَوْلَهُ حَقٌّ، وَالسَّاعَةَ حَقٌّ، وَالْجَنَّةَ حَقٌّ، وَالنَّارَ حَقٌّ ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الغُرُورِ﴾ [آل عمران: 185].
أَيُّهَا النَّاسُ: مِنْ نِعْمَةِ اللَّـهِ تَعَالَى عَلَى عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ أَنْ جَعَلَ مَسْأَلَةَ التَّعْظِيمِ مِنْ دِينِهِ؛ فَهُوَ سُبْحَانَهُ يَشْرَعُهُ، وَيَأْمُرُ بِهِ، وَيَخْتَارُ مَا يُعْظَّمُ مِنَ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ، وَيُوقِعُ الْعِبَادَاتِ فِيهَا عَلَى مَا أَرَادَهُ سُبْحَانَهُ قَدَرًا، وَمَا ارْتَضَاهُ عَزَّ وَجَلَّ لِعِبَادِهِ شَرْعًا.
وَلَوْ كَانَ التَّعْظِيمُ وَالتَّشْرِيعُ لِلْبَشَرِ لَاخْتَلَفُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا، وَلَفَسَدَ الدِّينُ بِاخْتِيَارَاتِهِمْ. وَمَنْ نَظَرَ إِلَى اخْتِلَافِ النَّاسِ فِي الْأَنْظِمَةِ المَدَنِيَّةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَتَغْيِيرِهَا كُلَّ حِينٍ؛ عَلِمَ ضَعْفَ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ فِي التَّشْرِيعِ فِي زَمَانٍ مَعْدُودٍ، وَمَكَانٍ مَحْدُودٍ، فَكَيْفَ بِتَشْرِيعٍ يَسْتَوْعِبُ الزَّمَانَ وَالمَكَانَ جَمِيعًا؛ لِنَعْلَمَ أَهَمِّيَّةَ اخْتِيَارِ اللَّـهِ تَعَالَى لَنَا، فَنَحْمَدَهُ عَلَى نِعْمَتِهِ، وَنَتَمَسَّكَ بِدِينِهِ.
وَمِنَ الْأَزْمِنَةِ الَّتِي أَمَرَ اللهُ تَعَالَى المُؤْمِنِينَ بِتَعْظِيمِهَا، وَمُرَاعَاةِ حُرْمَتِهَا، وَالْإِمْسَاكِ عَنْ ظُلْمِ النَّفْسِ فِيهَا: الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّـهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّـهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36].
فَدَلَّتِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ عَلَى أَنَّ اللهَ تَعَالَى هُوَ وَاضِعُ الْأَشْهُرِ بِهَذَا الْعَدَدِ، وَأَنَّ وَضْعَهَا كَانَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَفَائِدَةُ هَذَا الْبَيَانِ: قَطْعُ اخْتِلَافِ أَهْلِ المِلَلِ وَالتَّوَارِيخِ فِيمَنْ وَضَعَ الشُّهُورَ.
وَفَائِدَةٌ ثَانِيَةٌ أَهَمُّ مِنْهَا: وَهِيَ أَنَّ خَالِقَ الشَّيْءِ وَوَاضِعَهُ هُوَ المُسْتَحِقُّ لِأَنْ يَضَعَ فِيهِ أَوْ فِي بَعْضِهِ مِنَ التَّعْظِيمِ مَا يَشَاءُ، وَأَنْ يَشْرَعَ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا يَشَاءُ؛ وَلِذَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَنَّ مَنْ يَخْلُقُ هُوَ مَنْ يَأْمُرُ وَيَشْرَعُ ﴿أَلَا لَهُ الخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ﴾ [الأعراف: 54]، وَمَنْ يَأْمُرُ فِي الْآخِرَةِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْآمِرَ فِي الدُّنْيَا ﴿يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّـهِ﴾ [الانفطار: 19].
وَفَائِدَةٌ ثَالِثَةٌ لَا تَقِلُّ عَنْهَا: وَهِيَ إِثْبَاتُ عَظَمَةِ اللَّـهِ تَعَالَى بِبَقَاءِ الشُّهُورِ عَلَى عَدَدِهَا، رَغْمَ مَا مَرَّتْ بِهِ الْبَشَرِيَّةُ مِنْ حُرُوبٍ وَتَحَوُّلَاتٍ وَتَغَيُّرَاتٍ وَهِجْرَاتٍ؛ حَتَّى مُسِخَتْ شَرَائِعُ، وَغُيِّرَتْ أَدْيَانٌ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُرِدْ حِفْظَهَا، وَبَقِيَ عَدَدُ الشُّهُورِ كَمَا هُوَ مُنْذُ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إِلَى يَوْمِنَا هَذَا؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى أَرَادَ حِفْظَهَا.
وَقَدْ حَرَّمُ اللهُ تَعَالَى مِنْ هَذِهِ الشُّهُورِ أَرْبَعَةً، جَاءَ تَحْدِيدُهَا فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلاَثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» رَوَاهُ الشَّيْخَانِ.
فَهَذِهِ الْأَشْهُرُ الْأَرْبَعَةُ أَشْهُرٌ حُرُمٌ بِالنَّصِّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَكَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ فِيهَا؛ لِيَأْمَنَ الْحُجَّاجُ وَالزُّوَّارُ؛ فَالثَّلَاثَةُ المُتَوَالِيَةُ لِيَأْمَنَ مَنْ جَاءَ لِلْحَجِّ، وَتَحْرِيمُ رَجَبٍ لِمَنْ جَاءَ مُعْتَمِرًا.
وَفِي تَحْرِيمِ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ لِرَجَبٍ يَقُولُ التَّابِعِيُّ المُخَضْرَمُ أَبُو رَجَاءٍ الْعُطَارِدِيُّ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ شَيْئًا مِنْ شِرْكِهِمْ: «فَإِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَجَبٍ، قُلْنَا: مُنَصِّلُ الْأَسِنَّةِ، فَلاَ نَدَعُ رُمْحًا فِيهِ حَدِيدَةٌ، وَلاَ سَهْمًا فِيهِ حَدِيدَةٌ، إِلَّا نَزَعْنَاهُ وَأَلْقَيْنَاهُ شَهْرَ رَجَبَ»؛ أَيْ: لِأَجْلِ دُخُولِ شَهْرِ رَجَبٍ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى تَرْكِهِمُ الْقِتَالَ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَنْزِعُونَ الْحَدِيدَ مِنَ السِّلَاحِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ.
وَقِيلَ لَهُ (رَجَبُ مُضَرَ)؛ لِأَنَّ رَبِيعَةَ بْنَ نِزَارٍ كَانُوا يُحَرِّمُونَ شَهْرَ رَمَضَانَ وَيُسَمُّونَهُ رَجَبًا. وَكَانَتْ مُضَرُ تُحَرِّمُ رَجَبًا نَفْسَهُ، فَلِذَلِكَ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهِ: «الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ» وَرَفَعَ مَا وَقَعَ فِي اسْمِهِ مِنَ الِاخْتِلَالِ بِالْبَيَانِ. وَكَانَتِ الْعَرَبُ تُسَمِّي رَجَبًا مُنَصِّلَ الأسِنَّةِ.
وَتَحْرِيمُ شَهْرِ رَجَبٍ يَقْتَضِي تَعْظِيمَهُ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِثْلَ غَيْرِهِ مِنَ الْأَشْهُرِ غَيْرِ الْحُرُمِ، وَمِنْ ذَلِكَ تَحْرِيمُ الظُّلْمِ فِيهِ أَكْثَرَ مِنْ غَيْرِهِ؛ لِقَوْلِهِ سُبْحَانَهُ: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾ [التوبة: 36]، وَكُلُّ المَعَاصِي ظُلْمٌ يَجِبُ اجْتِنَابُهَا فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَيَتَأَكَّدُ اجْتِنَابُهَا فِي الْأَزْمِنَةِ المُعَظَّمَةِ كَرَجَبٍ؛ لِأَنَّهُ مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ.
وَنَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ المَقْصُودُ الْأَوَّلُ مِنْ كَوْنِهَا أَشْهُرًا حُرُمًا، وَاسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ: رَدُّ الْعُدْوَانِ، وَهُوَ جِهَادُ الدَّفْعِ، فَيَحِلُّ فِيهَا.
وَالظُّلْمُ ظُلْمَانِ: ظُلْمُ النَّفْسِ بِالمَعَاصِي، وَظُلْمُ الْغَيْرِ بِالِاعْتِدَاءِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، وَآيَةُ تَعْظِيمِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِيهَا نَصٌّ صَرِيحٌ عَلَى اجْتِنَابِ الظُّلْمِ ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾.
وَهَذَا يَعْنِي أَنَّ المَعَاصِيَ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ - وَرَجَبٌ مِنْهَا- أَشَدُّ مِنْهَا فِي غَيْرِهَا، سَوَاءً كَانَتِ المَعَاصِي مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ اللَّـهِ تَعَالَى، أَمْ كَانَتْ مُتَعَلِّقَةً بِحُقُوقِ النَّاسِ.
فَمِنَ الْعِبَادَةِ فِي شَهْرِ رَجَبٍ أَنْ يَكُفَّ كُلُّ عَاصٍ عَنْ مَعْصِيَتِهِ؛ طَاعَةً لِلَّـهِ تَعَالَى حِينَ حَرَّمَ رَجَبًا، وَتَعْظِيمًا لِحُرُمَاتِهِ سُبْحَانَهُ؛ فَمَنْ كَانَ يُثَرْثِرُ بِالْقِيلِ وَالْقَالِ وَيَغْشَى مَجَالِسَ الْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ فَلْيُمْسِكْ عَنْ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ، لَعَلَّ اللهَ تَعَالَى أَنْ يَرْزُقَهُ تَوْبَةً عَنْ مَعَاصِي الْقَوْلِ، وَإِثْمِ الْكَلَامِ؛ فَإِنَّ حَصَائِدَ الْأَلْسُنِ تَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ.
وَمَنْ كَانَ أَكُولًا لِلْحَرَامِ مِنْ رِبًا أَوْ رِشْوَةٍ أَوْ غِشٍّ فِي المُعَامَلَاتِ، وَكَذِبٍ فِي الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ؛ فَلْيُمْسِكْ عَنْ ذَلِكَ فِي رَجَبٍ، فَلَعَلَّهُ بِإِمْسَاكِهِ يَذُوقُ الْحَلَالَ فَيَجِدُ لَذَّتَهُ فَيَتَخَلَّصُ مِنَ الْحَرَامِ.
وَمَنْ كَانَ مُدْمِنَ نَظَرٍ إِلَى الْحَرَامِ، تَأْسِرُهُ الصُّوَرُ وَالْأَفْلَامُ، فَلْيُمْسِكْ عَنْهَا فِي رَجَبٍ فَلَعَلَّهُ بِتَعْظِيمِهِ لِحُرْمَةِ اللَّـهِ تَعَالَى فِي رَجَبٍ أَنْ يَتَخَلَّصَ مِنْ أَسْرِ النَّظَرِ إِلَى الْحَرَامِ، وَيُعَوَّضَ عَنْهُ بِالطَّيِّبِ الْحَلَالِ، أَوْ يَفْتَحَ اللهُ تَعَالَى لَهُ بَابَ لَذَّةٍ فِي عِبَادَةٍ أَوْ ذِكْرٍ أَوْ قُرْآنٍ فَيَجِدَ فِيهَا مِنَ الْحَلَاوَةِ مَا لَمْ يَجِدْ مِنْ قَبْلُ حِينَ كَانَ مُقِيمًا عَلَى مَعْصِيَتِهِ.
وَمَنْ وَقَعَ فِي ظُلْمِ الْغَيْرِ مِنْ وَالٍ عَلَى رَعِيَّتِهِ، أَوْ وَزِيرٍ فِي وَزَارَتِهِ، أَوْ مُدِيرٍ فِي إِدَارَتِهِ، أَوْ زَوْجٍ ظَلَمَ زَوْجَتَهُ، أَوْ وَالِدٍ أَهْمَلَ وَلَدَهُ، أَوْ وَلَدٍ عَقَّ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ، أَوْ قَرِيبٍ قَطَعَ رَحِمَهُ، أَوْ جَارٍ أَسَاءَ إِلَى جَارِهِ، وَمَنْ كَانَ يَظْلِمُ مَنْ تَحْتَ يَدِهِ مِنْ خَادِمَةٍ أَوْ سَائِقٍ أَوْ عَامِلٍ، فَيَعْتَدِي عَلَيْهِمْ بِقَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ، أَوْ يَبْخَسُهُمْ حُقُوقَهُمْ فَلْيَتُبْ مِنْ ذَلِكَ؛ تَعْظِيمًا لِحُرْمَةِ رَجَبٍ، وَامْتِثَالًا لِقَوْلِ اللَّـهِ تَعَالَى: ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾.
وَالتَّقْصِيرُ فِي الْفَرَائِضِ ظُلْمٌ وَمَعْصِيَةٌ؛ فَمَنْ كَانَ يُؤَخِّرُ الصَّلَاةَ عَنْ وَقْتِهَا -وَلَا سِيَّمَا الْفَجْرُ أَوِ الْعَصْرُ- فَلْيَتَّقِ اللهَ تَعَالَى، وَلَا يُؤَخِّرْهَا فِي هَذَا الشَّهْرِ؛ تَعْظِيمًا لِحُرْمَتِهِ، وَمَنْ كَانَ مُقَصِّرًا فِي صَلَاةِ الْجَمَاعَةِ فَلْيُحَافِظْ عَلَيْهَا، وَمَنْ كَانَتْ تَفُوتُهُ التَّكْبِيرَةُ الْأُولَى فَلَا تَفُتْهُ فِي هَذَا الشَّهْرِ المُعَظَّمِ. وَهَكَذَا كُلُّ وَاجِبٍ عَلَى الْعَبْدِ سَوَاءً كَانَ عِبَادَةً مَحْضَةً، أَمْ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِحُقُوقِ الْعِبَادِ، فَعَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَكْمَلِ، وَيَجْتَهِدَ فِي أَنْ لَا يَبْخَسَ مِنْهُ شَيْئًا فِي هَذَا الشَّهْرِ الَّذِي حَرَّمَهُ اللهُ تَعَالَى، وَنَهَى عَنْ ظُلْمِ النَّفْسِ فِيهِ.
وَمَنْ عَظَّمَ حُرُمَاتِ اللَّـهِ تَعَالَى فِي رَجَبٍ أَعَانَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى الْإِتْيَانِ بِمَا تَرَكَ مِنْ فَرَائِضِهِ، وَأَعَانَهُ عَلَى تَرْكِ مَا وَقَعَ فِيهِ مِنْ مَعْصِيَتِهِ فِي غَيْرِ رَجَبٍ؛ لِأَنَّ تَعْظِيمَ الْعَبْدِ لِلْأَشْهُرِ الْحُرُمِ دَلِيلٌ عَلَى بَقَاءِ جَذْوَةِ الْإِيمَانِ فِي قَلْبِهِ.
وَمَنِ انْتَهَكَ حُرْمَةَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ خِيفَ عَلَيْهِ مِنَ الْإِيغَالِ فِي المَعَاصِي، وَالِانْتِقَالِ مِنْ لمَمِهَا وَصَغَائِرِهَا إِلَى كَبَائِرِهَا، وَخِيفَ عَلَيْهِ مِنْ تَرْكِ الْفَرَائِضِ. وَلِلْأَسَفِ فَإِنَّ رَجَبًا يَمُرُّ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ كَمَا يَمُرُّ غَيْرُهُ مِنَ الشُّهُورِ، لَا يَسْتَشْعِرُونَ حُرْمَتَهُ، وَلَا يَسْتَحْضِرُونَ عَظَمَتَهُ، وَلَا يُرَاعُونَ حَقَّ اللَّـهِ تَعَالَى فِيهِ.
أَعُوذُ بِاللَّـهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّـهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ﴾ [الحج: 30].
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ...
الخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّـهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا كَمَا يُحِبُّ وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ ﴿وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ﴾ [البقرة:281].
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: مِنَ الْخَطَإِ الَّذِي يَقَعُ فِيهِ كَثِيرٌ مِنَ المُسْلِمِينَ خَلْطُهُمْ بَيْنَ تَعْظِيمِ حُرْمَةِ الشَّيْءِ وَبَيْنَ تَخْصِيصِهِ بِعَمَلٍ لَمْ يَرِدْ فِي الشَّرْعِ؛ فَاللهُ تَعَالَى قَدْ يُفَضِّلُ زَمَنًا وَيَخُصُّهُ بِعَمَلٍ كَمَا فَضَّلَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ وَخَصَّهُ بِخُطْبَتِهَا وَصَلَاتِهَا، وَفَضَّلَ رَمَضَانَ، وَخَصَّهُ بِفَرْضِ الصِّيَامِ، وَفَضِيلَةِ التَّرَاوِيحِ.
وَقَدْ يُفَضِّلُ سُبْحَانَهُ زَمَنًا وَلَا يَأْمُرُ فِيهِ بِعَمَلٍ، فَلَا يَجُوزُ حِينَئِذٍ أَنْ يُخَصَّ بِعَمَلٍ؛ كَمَا فِي تَعْظِيمِ حُرْمَةِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ؛ فَإِنَّ الْوَارِدَ فِيهَا الْإِمْسَاكُ عَنْ ظُلْمِ النَّفْسِ بِالمَعَاصِي سَوَاءً كَانَتْ فِعْلًا أَمْ تَرْكًا، وَسَوَاءً تَعَلَّقَتْ بِحُقُوقِ اللَّـهِ تَعَالَى المَحْضَةِ، أَمْ تَعَلَّقَتْ بِحُقُوقِ الْعِبَادِ.
فَكُلُّ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ -وَمِنْهَا رَجَبٌ- لَا يُشْرَعُ تَخْصِيصُهَا بِعَمَلٍ لَا يَعْمَلُهُ الْعَبْدُ فِي غَيْرِهَا، إِلَّا مَا وَرَدَ مِنَ الْعَمَلِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ؛ فَإِنَّهَا مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَوَرَدَ تَخْصِيصُهَا بِالْعَمَلِ الصَّالِحِ فِي نُصُوصٍ عِدَّةٍ، وَوُرُودُ ذَلِكَ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ دُونَ سَائِرِ أَيَّامِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ تَخْصِيصَ غَيْرِهَا بِعَمَلٍ صَالِحٍ غَيْرُ مَشْرُوعٍ؛ لِأَنَّ اللهَ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ تَخْصِيصَهَا بِعَمَلٍ صَالِحٍ لَدَلَّنَا عَلَيْهِ كَمَا دَلَّنَا عَلَيْهِ فِي عَشْرِ ذِي الْحِجَّةِ وَأَيَّامِ التَّشْرِيقِ.
وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ الْعُمْرَةُ فِي ذِي الْقَعْدَةِ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اعْتَمَرَ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ كُلُّهُنَّ فِي ذِي الْقَعْدَةِ، فَصَارَ مِنْ سُنَّتِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَصْدُ ذِي الْقَعْدَةِ بِعُمْرَةٍ فِيهِ.
وَأَمَّا بَقِيَّةُ أَيَّامِ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فَلَا يُشْرَعُ تَخْصِيصُهَا بِصَوْمٍ، وَلَا صَدَقَةٍ، وَلَا إِحْيَاءِ لَيْلِهَا بِذِكْرٍ أَوْ صَلَاةٍ، وَلَا أَيِّ عَمَلٍ صَالِحٍ.
وَلَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنْ يَتْرُكَ الْعَبْدُ عَمَلًا صَالِحًا قَدِ اعْتَادَ عَلَيْهِ قَبْلَ رَجَبٍ خَوْفًا مِنْ ذَلِكَ، بَلْ يَعْمَلُ الْعَبْدُ فِي رَجَبٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالنَّوَافِلِ مَا كَانَ يَعْمَلُهُ فِي غَيْرِهِ.
وَلَوْ لَمْ يَتَهَيَّأْ لَهُ الْعَمَلُ الصَّالِحُ إِلَّا فِي رَجَبٍ؛ لِأَنَّهُ وَقْتُ فَرَاغِهِ أَوْ نَشَاطِهِ، وَلَمْ يَقْصِدِ الْعَمَلَ فِيهِ لِأَنَّهُ رَجَبٌ، أَوْ لِأَنَّهُ كَانَ مَوْعِدَ تَوْبَتِهِ، فَعَمِلَ فِيهِ مِنَ الصَّالِحَاتِ مَا لَمْ يَكُنْ يَعْمَلُ قَبْلَهُ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ تَخْصِيصًا لِرَجَبٍ بِعَمَلٍ فَلَا يُمْنَعُ مِنْهُ.
وَتَخْصِيصُ رَجَبٍ بِإِحْيَاءِ لَيَالٍ مِنْهُ، أَوِ الِاحْتِفَالِ بِهَا، أَوْ صِيَامِ أَيَّامٍ مِنْهُ، أَوْ تَخْصِيصِهِ بِصَلَاةٍ مُعَيَّنَةٍ، أَوْ ذَبِيحَةٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ عُمْرَةٍ أَوْ أَيِّ عَمَلٍ صَالِحٍ لَا يَعْمَلُهُ إِلَّا لِأَنَّهُ فِي رَجَبٍ فَهُوَ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَيُخْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْوُقُوعِ فِي الْبِدْعَةِ. وَالِابْتِدَاعُ فِي دِينِ اللَّـهِ تَعَالَى مِنَ الظُّلْمِ المَنْهِيِّ عَنْهُ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ ﴿فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾؛ لِمَا فِيهِ مِنَ الْجُرْأَةِ عَلَى اللَّـهِ تَعَالَى بِإِحْدَاثِ شَيْءٍ فِي دِينِهِ، وَمُحَادَّتِهِ فِي شَرْعِهِ، وَمُشَاقَقَةِ رَسُولِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 115].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
المرفقات
تحريم رجب مشكولة.doc
تحريم رجب مشكولة.doc
تحريم رجب.doc
تحريم رجب.doc
المشاهدات 4348 | التعليقات 6
بسم الله الرحمن الرحيم
جزاك الله عنا خير الجزاء و جعل ما تقدمه في موازين حسناتك..,,
جزاك الله خير ونفع الله بما كتبت وسنخطب بهذه الخطبه بإذن الله لا شتمالها ولمناسبتها
فأسأل الله أن يجعلها في ميزان حسناتك ووالديك ،،
جاء في الخازن (2/ 358) كلامٌ في ما معناه:
أن الحكمة من تحريم وتعظيم هذه الأشهر الحرم عن غيرها، هو: أن الأنفس مجبولة بطبعها على الظلم، والفساد والامتناع عنه على الإطلاق شاق على النفس، فخص الله عز وجل بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام؛ ليمتنع الإنسان في تلك الأوقات من فعل الظلم والقبائح والمنكرات، فربما تركها في باقي الأوقات فتصير هذه الأوقات الشريفة والأشهر المحرمة المعظمة سببا لترك الظلم وفعل المعاصي في غيرها من الأشهر.
شبيب القحطاني
عضو نشطجزاك الله خيرا
تعديل التعليق