تثبيت العماد (مظاهر التفريط في الصلاة)
راكان المغربي
أما بعد:
الكل يحبس الأنفاس، يُعِدُّ العُدَّة، يحسب اللحظات، يقلب صفحات التقويم.
بعد أيام..
سيزدحم مضمار السباق، وترتفع أسهم الإيمان، وتزدهر تجارة الآخرة.
على أبواب رمضان..
يستعد كل مسلم لأن يبدأ في مشروع تشييد بنيان الإيمان، وتعزيز أركانه، وترميم خلله.
إقامة ركن الصيام، ختمات القرآن، ساعات القيام، لحظات المناجاة، أبواب الجود. أعمال وطاعات يؤمل كل مسلم أن يقطع فيها شوطا، ليدعم بها بنيان إيمانه، ويرسخ جذور عبوديته للواحد القهار.
وما أجمل أن تكون هذه الآمال في بال المسلم، يطمح لتحقيقها، ويسعى للترقي في درجاتها.
ولكن قبل أن ترفعَ الأدوار، وتعلِّيَ البنيان، لا بد أن تتأكد من ثبات عماده، إذ أن العماد هو الأساس الذي يقوم عليه البنيان، فإن قوي العماد قوي البنيان، وإن ضعف ضعف، وإن سقط العماد خر البنيان وتهاوى.
إني عن الصلاة أتحدث. الصلاة القضية الكبرى، والموضوع الجلل، الذي لا نمل من تكراره وإعادة التذكير بشأنه العظيم.
الصلاة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعمودُه الصلاةُ). شرائع الإسلام كثيرة، وأبوابه متعددة، ولكن الله جعل لكل تلك الشرائع عمودا تقوم عليه، وتتقوى به، وتستند إليه. ذلكم العمود هو الصلاة.
ولذا فهي مقدمة الحساب وملخصه، قال صلى الله عليه وسلم: (أول ما يُحاسَبُ به العبدُ يومَ القيامةِ الصلاةُ ، فإنْ صلحَتْ صلحَ له سائِرُ عملِهِ ، وإن فسدَتْ فسَدَ سائِر عملهِ).
أنى للمسلم أن يترقى في درجات الإيمان، وصلاته في آخر اهتماماته؟!
أنى للمسلم أن يدخل في مضمار سباق الآخرة، وهو مفرط في الصلاة، لا يداوم على أداءها أو يخرجها خارج أوقاتها أو يفرط في جمعتها وجماعاتها أو ينقرها نقرا لا يؤدي أركانها ولا يقيم ركوعها ولا سجودها.
إن الصلاة هي العهد، الذي متى ما حافظت عليه، كنت دائم العُرضة لنفحات الرحمة، وسحائب المغفرة. ومتى ما فرطت فيها، نالتك الأخطار، وتعرضت للعواصف لتلقي بك في مهاوي الردى.
قال صلى الله عليه وسلم: (أَرَأَيْتُمْ لو أنَّ نَهْرًا ببَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ منه كُلَّ يَومٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، هلْ يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ؟) قالوا: لا يَبْقَى مِن دَرَنِهِ شيءٌ. قالَ: (فَذلكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ، يَمْحُو اللَّهُ بهِنَّ الخَطَايَا)
وقال: (إنَّ العهدَ الذي بيننا وبينهم الصلاةُ. فمن تركها فقد كفر)
الصلاة هي النور التي متى أبقيته مشتعلا، بصّرك طريق الهدى، وسبل السلام. ومتى ما أَطْفأتَ جذوتَه، أظلمت عليك الدنيا، وتشعّبت بك الطرق، وكنتَ في ضلال مبين.
قال صلى الله عليه وسلم: (الصَّلاةُ نُورٌ، والصَّدَقَةُ بُرْهانٌ، والصَّبْرُ ضِياءٌ، والْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ، أوْ عَلَيْكَ، كُلُّ النَّاسِ يَغْدُو فَبايِعٌ نَفْسَهُ فَمُعْتِقُها، أوْ مُوبِقُها).
"كلُّ إنسانٍ يَسعى بنفسِه إلى طاعةِ اللهِ، فيكونُ مُنقِذَها ومعتقَها منَ النَّار، أو يَسعَى بنفسِه إلى طاعةِ الشَّيطانِ وهَواه، فَيُهلِكُها ويوبقَها بدُخولِها النَّارَ" الدرر السنية بتصرف
الصلاة هي قرة العين، وراحة البال، والصلة التي تربطك بخالقك، فتستمدَّ منه فيها العون، وتستلهمَّ الهدى والرشاد (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).
فإذا فقدت الصلة بين خالقك، ومن هو سبب وجودك، ومن إليه منتهى أمرك، فما قيمتك في هذه الدنيا بعد ذلك؟! وما مصيرك في الآخرة حين تلقاه؟!
إذا كان الله توعد بالويل للمصلين، الذين هم عن صلاتهم ساهون، فيؤخرونها عن أوقاتها، فما بالكم بمن يضيع ذات الصلاة فلا يصليها في وقتها ولا خارج وقتها؟! (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا).
وإن من مظاهر التفريط في الصلاة يا عباد الله، ما نراه من التهاون في تربية الأبناء والبنات الصغار على الصلاة، فلم تعد الصلاة عند البعض أولوية من أولويات تربيته. وتلك والله مصيبة المصائب، حين يهتم الأب والأم بأكل الابن وشربه ومدرسته ومستقبله الدنيوي، ويتهاونون في عماد دينه، ورأس ماله، ومستقبله الخالد، وسبب نجاته وسعادته في الدنيا والآخرة.
لقد وعينا في الدنيا، وكان آباؤنا وأمهاتنا يتعاملون مع صلاتنا، كما يتعاملون مع أكلنا وشربنا وصحتنا. فكما أنهم لم يكونوا يهنؤون بالحياة ونحن جوعى أو عطشى أو مرضى، فكذلك لم يكن يَقِرُّ لهم قرار ونحن نفرطُ في صلاتنا ونضيعُها.
فما بال آباء وأمهات اليوم ينامون عن الصلوات ويضيعونها، ويتركون أبناءهم وبناتهم ينامون عنها ويضيعونها، فيتسببون في خسارة أنفسهم وأهليهم بتفريطهم في الصلاة وتربية أولادهم عليها؟!
قال صلى الله عليه وسلم: (مُروا أولادَكم بالصلاةِ لسبعٍ، واضرِبوهم عليها لعشرٍ). هذا أمر نبيكم ومعلمكم فخذوا به واستمسكوا به وإلا (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ).
عباد الله
في زمن كورونا تغيرت أحوال كثير من الناس مع الصلاة، وخصوصا في الجمعة والجماعة، فقد اعتاد البعض على التهاون في ترك الجمعة والجماعة بغير عذر، واستسهلوا صلاتها في البيت، وما عرف هؤلاء أنهم قد ضيعوا على أنفسهم خيرا كبيرا، وعرضوا أنفسهم لخطر عظيم.
قال عبدالله ابن مسعود رضي الله عنه: "مَن سرَّه أن يَلْقَى الله غدًا مسلمًا، فليحافظْ على هؤلاء الصلوات؛ حيث ينادَى بهنَّ، فإنَّ الله شرَعَ لنبيِّكم صلى الله عليه وسلم سُنن الهدى، وإنهنَّ من سُنن الهدى، ولو أنَّكم صلَّيتُم في بيوتكم كما يصلِّي هذا المتخلِّف في بيته، لتركتُم سُنَّة نبيِّكم، ولو تركتُم سُنَّة نبيِّكم، لضللتُم، وما مِن رجلٍ يتطهَّر، فيُحْسن الطهور، ثم يَعمد إلى مسجد من هذه المساجد، إلاَّ كتَبَ الله له بكلِّ خُطوة يخطوها حسَنَة، ويرفعه بها درجة، ويحطُّ عنه بها سيِّئة، ولقد رأيْتُنا وما يتخلَّف عنها إلا منافقٌ معلوم النفاق، ولقد كان الرجل يُؤْتَى به يُهادَى بين الرجلين؛ حتى يُقام في الصف".
وفي شأن الجمعة قال صلى الله عليه وسلم: (لَيَنْتَهينَّ أقْوامٌ عن ودْعِهِمُ الجُمُعاتِ، أوْ لَيَخْتِمَنَّ اللَّهُ علَى قُلُوبِهِمْ، ثُمَّ لَيَكونُنَّ مِنَ الغافِلِينَ).
فهل من وقفة صادقة مع النفس، نسعى فيها لتصحيح حالنا مع الصلاة، فنحافظ عليها ونؤديها على الوجه الذي يرضى به ربنا عنا.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم..
الخطبة الثانية:
أما بعد:
عباد الله
حين أوحى الله إلى موسى كانت أول أوامره له بعد التوحيد إقامة الصلاة (إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي).
وهي أول ما يؤمر به المسلم بعد إسلامه، فعن طارق بن أشْيَم رضي الله عنه قال: (كانَ الرَّجُلُ إذَا أَسْلَمَ، عَلَّمَهُ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ الصَّلَاةَ).
وحين كان يرسل النبي صلى الله عليه وسلم دعاتَه إلى الناس، كانت الصلاة أول الأوامر بعد الشهادتين، كما في حديث معاذ رضي الله عنه حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليمن فقال: (فليكُنْ أولَّ ما تدعوهم إليه شهادةُ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ فإن أجابوكَ لذلك فأَعلِمْهم أنَّ اللهَ افتَرَض عليهِم خمسَ صلواتٍ في كلِّ يومٍ وليلةٍ).
والصلاة هي أول شريعة يُلزم بها الطفل المسلم في حياته حتى قبل بلوغه، كما مر معنا في حديث (مُروا أولادَكم بالصلاةِ لسبعٍ، واضرِبوهم عليها لعشرٍ).
وكان أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يكتب إلى أمرائه وعماله في الأمصار، فيقول لهم: "إِنَّ أَهَمَّ أَمْرِكُم عِنْدِي الصَّلاَة، فَمَنْ حَفِظَهَا وَحَافَظَ عَلَيْهَا حَفِظَ دِينَهُ، وَمَنْ ضَيَّعَهَا فَهُوَ لِمَا سِوَاهَا أَضْيَع".
الصلاة هي أولى الأوليات، وأعظم المهمات، وأهم القضايا..
حين ذكر الله لنا ضلال الأمم السابقة بعد أنبيائهم، كان أساس الخلل في الصلاة (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)، وأخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الصلاة هي آخر ما ينقض من عرى الدين فقال: (لَتُنتَقَضَنَّ عُرى الإسلامِ عُروةً عُروةً، فكُلَّما انتَقَضَت عُروةٌ تَشَبَّث النَّاسُ بالتي تليها، فأَوَّلُهنَّ نَقضًا الحُكمُ، وآخِرُهنَّ الصَّلاةُ)، فإذا ضاعت الصلاة ضاع الدين، وإذا ضاع الدين، ضاعت الدنيا، ثم ضاعت الآخرة.
فالله الله في الصلاة يا أخي المسلم
مهما قُطِّعت بينك وبين الله من حبال، فحافظ على حبل الصلاة، فهي العهد وهي النور وهي النجاة. قال صلى الله عليه وسلم: (خمسُ صلواتٍ افترضَهُنَّ اللَّهُ علَى عبادِهِ، فمن جاءَ بِهِنَّ لم ينتقِصْ منهنَّ شيئًا استخفافًا بحقِّهنَّ، فإنَّ اللَّهَ جاعلٌ لَه يومَ القيامةِ عَهْدًا أن يُدْخِلَهُ الجنَّةَ، ومن جاءَ بِهِنَّ قدِ انتقَصَ منهنَّ شيئًا استخفافًا بحقِّهنَّ، لم يَكُن لَه عندَ اللَّهِ عَهْدٌ إن شاءَ عذَّبَهُ وإن شاءَ غفرَ لَهُ)
ربنا اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا ربنا وتقبل دعاء
ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب
المرفقات
1648142254_إصلاح العماد (مظاهر التفريط في الصلاة).docx
1648142254_إصلاح العماد (مظاهر التفريط في الصلاة).pdf