{ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ } 12-9-1437 هـ
مبارك العشوان
1437/09/12 - 2016/06/17 00:27AM
إنَّ الحمدَ للهِ... أمَّا بعدُ: فاتقوا اللهَ… مسلمون.
عبادَ الله: اغتَنِمُوا مَوَاسِمَ الخيرَاتِ قبلَ انقِضَائِها، وَإِقبَالَ النُّفوسِ قبلَ إِدْبَارِهَا، أكثِرُوا مِنَ القُرُبَاتِ في شهرِكُم، وفي سَائِرِ حياتِكم.
ثُمَّ اعلموا رحِمَكمُ اللهُ أنَّ هُنَاكَ عِبَادَةً جَلِيْلة، أمَرَ اللهُ تعالى بها نبيَّهُ صلى اللهُ عليهِ وسلم فِي أَوَائِلِ مَا نَزَلَ من القرآن؛ فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ, قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا, نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا, أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا...}وقال تعالى: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } الإسراء 79 فكانَ عَلَيْهِ الصلاة وَالسَلاَمُ: ( يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ ) رواه البخاري. وَقَامَ ليلةً بالبقرةِ والنساءِ وآلِ عمرانَ في ركعةٍ واحدة، يَقرَأُ مُتَرَسِّلاً: إِذَا مَرَّ بآيةٍ فِيهَا تَسبيحٌ سَبَّحَ، وَإذَا مَرَّ بسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإذَا مَرَّ بتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ... ) الحديث رواه مسلم.
يَصِفُهُ عبدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ رضيَ اللهُ عنهُ؛ فيقول:
يَبيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِه ... إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بالْمُشْرِكِين المَضَاجِعُ
وهكذا ربَّى النبيُّ صلى اللهُ عَلَيهِ وسلمَ على هذِهِ العبادَةِ الجليلةِ أهلَهُ وصَحَابَتَهُ، وَحَثَّ عليها في كَثِيرٍ مِنَ الأحَادِيثِ أمَّتَهُ.
قال البخاري رحمه الله: بَابُ تَحْرِيضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَلاَةِ اللَّيْلِ وَالنَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ.
ثم ذكرَ حديثّ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً، فَقَالَ: ( سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتْنَةِ، مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الخَزَائِنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ؟ يَا رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ ). وذكر حديثَ عَلِي بْن أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَيْلَةً، فَقَالَ: ( أَلاَ تُصَلِّيَانِ؟ ) وتقولُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ ) رواه البخاري.
وهكذا صَحَابَتُهُ رضي الله عنهم: { كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } الذاريات 15- 18 وقال سبحانهُ: { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } الفرقان 64 وقال تعالى:
{ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } آل عمران17.
وهكذا عبادَ الله: حَثَّ صلى اللهُ عليهِ وسلم على القيامِ وأثنَى اللهُ تعالى على أهلِه، وَوَعَدَهُم عَلَيْهِ عَظِيْمَ الجزاءِ؛ ففي صَحِيحِ مُسلمٍ مِن حَدِيثِ سَهْل بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ رضي اللهُ عنه قالَ: شَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا وَصَفَ فِيهِ الْجَنَّةَ حَتَّى انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: ( فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } السجدة 16 ويقولُ ابنُ سَعْدِي رحمهُ الله: تَرْتَفِعُ جُنُوبُهُم، وَتَنْزَعِجُ عنِ مَضَاجِعِهَا اللذيذَةِ، إلى مَا هُوَ ألَذُّ عِندَهم مِنهُ وَأحَبُّ إليهِم، وهوَ الصلاةُ في الليلِ، وَمُنَاجَاةُ اللّهِ تَعَالى.
ويقولُ صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَفْشَى السَّلَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ ) رواه ابن حبان وحسنه الألباني.
اللهُمَّ إنا نَسْألُكَ مِنْ فضلِك.
باركَ اللهُ... وأقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله... أما بعد: فَقد أورَدَ البخاريُّ رحِمَهُ اللهُ حديثَ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ وفيه يقول: عبدُ اللهِ بنُ عمر فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ كَقَرْنَيْ الْبِئْرِ وَإِذَا فِيهَا نَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ فَجَعَلْتُ أَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ فَلَقِيَهُمَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي لَنْ تُرَاعَ فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ( نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ) قَالَ سَالِمٌ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يَنَامُ مِنْ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا ) رواه البخاري ومسلم. ويقولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ( يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ ) رواه البخاري ومسلم.
كَمَا جَاءَ الثناءُ على أهلِ القِيامِ؛ جَاءَ الذَّمُ للغافلينَ عنهُ ففي البخاري: ( ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ نَامَ لَيْلَهُ حَتَّى أَصْبَحَ، قَالَ ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ أَوْ قَالَ فِي أُذُنِهِ ). وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ؛ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ ) رواه البخاري ومسلم.
عبادَ الله: ثمَّ اعلموا أنَّ وقتَ صلاةِ الليل؛ يَبدأُ بَعدَ صلاةِ العشاءِ إلى طُلُوعِ الفجر، وأفضَلُهُ مَا كَانَ بَعْدَ نَومٍ، قَالَ تعالى: { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً } المزمل 6. وَجَاءَ في البخاري: ( يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ؛ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَـهُ )
قال ابنُ عباسٍ رضي اللهُ عنهُ: مَنْ أحَبَّ أنْ يُهَوِّنَ اللهُ عليهِ الوقوفَ يومَ القيامةِ، فَليَرَهُ اللهُ في ظُلمةِ الليلِ ساجداً أو قائماً يَحْذَرُ الآخِرةَ، وَيَرْجُو رحْمَةَ رَبِّه.
ومَنْ خَشِيَ أن يَغْلِبَهُ النومُ فَليُوتِر قبلَ أنْ يَنَام.
أمَّا صِفَتُها؛ فهي مَثنَى مَثنَى؛ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ ركعتينِ، ثُمَّ يُوتِرُ بِواحِدة؛ يُصلي ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أوتسعاً، أو إِحْدَى عَشْرة، أو ثلاثَ عَشرَة، يُطِيل صَلاتَهُ لحديث: ( أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ ) رواه مسلم. وَالمرادُ بالقُنوتِ هُنَا القيام؛ فإذا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَليُطَوِّلْ مَا شَاءَ؛ وإنْ كانَ إمَاماً فَلْيُرَاعِ حَالَ المَأمُومِين.
يُصَلي المُسلِمُ نشاطَهُ، فإذا نَعَسَ فليرقُد.
عبادَ الله: احرِصوا على إتمامِ صلاةِ التراويحِ مع الإمامِ حتى ينصرف، يُكْتَبْ لكُمْ قِيامُ لَيلة؛ كَما جاءَ ذلكَ في الحديث.
وَمَنْ كَسَلَ عَنِ القيامِ فَلْيُصَلِّ جَالساً؛ فَإِنَّ هذا جائِزٌ في النَّفْلِ حتى مَعَ قُدرَتِهِ على القِيام؛ ولكِنَّ صلاةَ القَاعِدِ القادرِ على القِيامِ؛ عَلَى النِّصفِ مِن صَلاةِ القَائِمِ. أمَّا الفَرِيضَة فَلا تَصِحُّ مِنَ الجَالِسِ مَعَ قُدرَتِهِ على القِيام.
عبادَ الله: مَنْ أوتَرَ أوَّلَ الليلِ ثُمَّ أرادَ الصلاةَ آخرَ الليل؛ فإنهُ يصلي شفعًا.
وَمَنْ فاتَهُ وِرْدُهُ مِنَ الليلِ صَلاهُ في النَّهارِ شَفْعاً؛ فقد كانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ مِنْ اللَّيْلِ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً ) رواه مسلم.
عبادَ الله: أحْيُوا هذِهِ السُّنَةَ، وجَاهِدُوا أنفُسَكُم، وتَواصَوا بِهَا، حُثُّوا عليهَا أولادَكُم، وأيْقِظُوا لها أهلَكُم؛ تَعَاوُنَاً على البِرِّ والتقوى، واقتداءً بنَبِيِ الهُدَى صلى اللهُ عليهِ وسلم.
كَما أنَّ تَرْبِيةَ الأهلِ على العباداتِ وإيقاظِهِم للصلواتِ مِنْ أعظَمِ وُجُوهِ الإحْسانِ إليهم، والقيامِ بِرِعايتِهِم، وهُوَ سَبَبٌ لِنَيْلِ رحمةِ اللهِ تعالى؛ فقد دعا النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ لِمَنْ فَعَلَ ذلكَ؛ فقال: ( رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ ) أخرجه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح.
وفقني اللهُ وإيَّاكُم لِهُداه، والاستِنَانِ بِسُنة نبيهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ ومرافَقَتِهِ في جناتِ النعيم.
ثُمَّ صلوا وسلموا...
اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ ... اللهم أصلِحْ أئِمَّتَنَا...
عبادَ الله: اذكُروا اللهَ...
.
عبادَ الله: اغتَنِمُوا مَوَاسِمَ الخيرَاتِ قبلَ انقِضَائِها، وَإِقبَالَ النُّفوسِ قبلَ إِدْبَارِهَا، أكثِرُوا مِنَ القُرُبَاتِ في شهرِكُم، وفي سَائِرِ حياتِكم.
ثُمَّ اعلموا رحِمَكمُ اللهُ أنَّ هُنَاكَ عِبَادَةً جَلِيْلة، أمَرَ اللهُ تعالى بها نبيَّهُ صلى اللهُ عليهِ وسلم فِي أَوَائِلِ مَا نَزَلَ من القرآن؛ فقال تعالى: { يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ, قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا, نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا, أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا...}وقال تعالى: { وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا } الإسراء 79 فكانَ عَلَيْهِ الصلاة وَالسَلاَمُ: ( يَقُومُ مِنْ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ ) رواه البخاري. وَقَامَ ليلةً بالبقرةِ والنساءِ وآلِ عمرانَ في ركعةٍ واحدة، يَقرَأُ مُتَرَسِّلاً: إِذَا مَرَّ بآيةٍ فِيهَا تَسبيحٌ سَبَّحَ، وَإذَا مَرَّ بسُؤَالٍ سَأَلَ، وَإذَا مَرَّ بتَعَوُّذٍ تَعَوَّذَ ... ) الحديث رواه مسلم.
يَصِفُهُ عبدُ اللهِ بنُ رَوَاحَةَ رضيَ اللهُ عنهُ؛ فيقول:
يَبيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِه ... إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بالْمُشْرِكِين المَضَاجِعُ
وهكذا ربَّى النبيُّ صلى اللهُ عَلَيهِ وسلمَ على هذِهِ العبادَةِ الجليلةِ أهلَهُ وصَحَابَتَهُ، وَحَثَّ عليها في كَثِيرٍ مِنَ الأحَادِيثِ أمَّتَهُ.
قال البخاري رحمه الله: بَابُ تَحْرِيضِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى صَلاَةِ اللَّيْلِ وَالنَّوَافِلِ مِنْ غَيْرِ إِيجَابٍ.
ثم ذكرَ حديثّ أُمِّ سَلَمَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَيْقَظَ لَيْلَةً، فَقَالَ: ( سُبْحَانَ اللَّهِ مَاذَا أُنْزِلَ اللَّيْلَةَ مِنَ الفِتْنَةِ، مَاذَا أُنْزِلَ مِنَ الخَزَائِنِ، مَنْ يُوقِظُ صَوَاحِبَ الحُجُرَاتِ؟ يَا رُبَّ كَاسِيَةٍ فِي الدُّنْيَا عَارِيَةٍ فِي الآخِرَةِ ). وذكر حديثَ عَلِي بْن أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَرَقَهُ وَفَاطِمَةَ بِنْتَ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلاَمُ لَيْلَةً، فَقَالَ: ( أَلاَ تُصَلِّيَانِ؟ ) وتقولُ عَائِشَةَ رضي الله عنها: ( كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُصَلِّي وَأَنَا رَاقِدَةٌ مُعْتَرِضَةٌ عَلَى فِرَاشِهِ فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يُوتِرَ أَيْقَظَنِي فَأَوْتَرْتُ ) رواه البخاري.
وهكذا صَحَابَتُهُ رضي الله عنهم: { كَانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ، وَبِالأسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } الذاريات 15- 18 وقال سبحانهُ: { وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } الفرقان 64 وقال تعالى:
{ الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأسْحَارِ } آل عمران17.
وهكذا عبادَ الله: حَثَّ صلى اللهُ عليهِ وسلم على القيامِ وأثنَى اللهُ تعالى على أهلِه، وَوَعَدَهُم عَلَيْهِ عَظِيْمَ الجزاءِ؛ ففي صَحِيحِ مُسلمٍ مِن حَدِيثِ سَهْل بْنِ سَعْدٍ السَّاعِدِيَّ رضي اللهُ عنه قالَ: شَهِدْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسًا وَصَفَ فِيهِ الْجَنَّةَ حَتَّى انْتَهَى، ثُمَّ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آخِرِ حَدِيثِهِ: ( فِيهَا مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ، ثُمَّ اقْتَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ: { تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ، فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } السجدة 16 ويقولُ ابنُ سَعْدِي رحمهُ الله: تَرْتَفِعُ جُنُوبُهُم، وَتَنْزَعِجُ عنِ مَضَاجِعِهَا اللذيذَةِ، إلى مَا هُوَ ألَذُّ عِندَهم مِنهُ وَأحَبُّ إليهِم، وهوَ الصلاةُ في الليلِ، وَمُنَاجَاةُ اللّهِ تَعَالى.
ويقولُ صلى الله عليه وسلم: ( إِنَّ فِي الْجَنَّةِ غُرَفًا يُرَى ظَاهِرُهَا مِنْ بَاطِنِهَا، وَبَاطِنُهَا مِنْ ظَاهِرِهَا أَعَدَّهَا اللَّهُ لِمَنْ أَطْعَمَ الطَّعَامَ، وَأَفْشَى السَّلَامَ، وَصَلَّى بِاللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ ) رواه ابن حبان وحسنه الألباني.
اللهُمَّ إنا نَسْألُكَ مِنْ فضلِك.
باركَ اللهُ... وأقولُ ما تسمعونَ وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله... أما بعد: فَقد أورَدَ البخاريُّ رحِمَهُ اللهُ حديثَ سَالِمٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا؛ وفيه يقول: عبدُ اللهِ بنُ عمر فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ كَأَنَّ مَلَكَيْنِ أَخَذَانِي فَذَهَبَا بِي إِلَى النَّارِ فَإِذَا هِيَ مَطْوِيَّةٌ كَطَيِّ الْبِئْرِ وَإِذَا لَهَا قَرْنَانِ كَقَرْنَيْ الْبِئْرِ وَإِذَا فِيهَا نَاسٌ قَدْ عَرَفْتُهُمْ فَجَعَلْتُ أَقُولُ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ النَّارِ فَلَقِيَهُمَا مَلَكٌ آخَرُ فَقَالَ لِي لَنْ تُرَاعَ فَقَصَصْتُهَا عَلَى حَفْصَةَ فَقَصَّتْهَا حَفْصَةُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: ( نِعْمَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ لَوْ كَانَ يُصَلِّي بِاللَّيْلِ ) قَالَ سَالِمٌ فَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ لَا يَنَامُ مِنْ اللَّيْلِ إِلَّا قَلِيلًا ) رواه البخاري ومسلم. ويقولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ( يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ ) رواه البخاري ومسلم.
كَمَا جَاءَ الثناءُ على أهلِ القِيامِ؛ جَاءَ الذَّمُ للغافلينَ عنهُ ففي البخاري: ( ذُكِرَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلٌ نَامَ لَيْلَهُ حَتَّى أَصْبَحَ، قَالَ ذَاكَ رَجُلٌ بَالَ الشَّيْطَانُ فِي أُذُنَيْهِ أَوْ قَالَ فِي أُذُنِهِ ). وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( يَعْقِدُ الشَّيْطَانُ عَلَى قَافِيَةِ رَأْسِ أَحَدِكُمْ إِذَا هُوَ نَامَ ثَلَاثَ عُقَدٍ يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ عَلَيْكَ لَيْلٌ طَوِيلٌ فَارْقُدْ فَإِنْ اسْتَيْقَظَ فَذَكَرَ اللَّهَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ تَوَضَّأَ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فَإِنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ؛ فَأَصْبَحَ نَشِيطًا طَيِّبَ النَّفْسِ، وَإِلَّا أَصْبَحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلَانَ ) رواه البخاري ومسلم.
عبادَ الله: ثمَّ اعلموا أنَّ وقتَ صلاةِ الليل؛ يَبدأُ بَعدَ صلاةِ العشاءِ إلى طُلُوعِ الفجر، وأفضَلُهُ مَا كَانَ بَعْدَ نَومٍ، قَالَ تعالى: { إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَأَقْوَمُ قِيلاً } المزمل 6. وَجَاءَ في البخاري: ( يَتَنَزَّلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الْآخِرُ؛ يَقُولُ مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَـهُ )
قال ابنُ عباسٍ رضي اللهُ عنهُ: مَنْ أحَبَّ أنْ يُهَوِّنَ اللهُ عليهِ الوقوفَ يومَ القيامةِ، فَليَرَهُ اللهُ في ظُلمةِ الليلِ ساجداً أو قائماً يَحْذَرُ الآخِرةَ، وَيَرْجُو رحْمَةَ رَبِّه.
ومَنْ خَشِيَ أن يَغْلِبَهُ النومُ فَليُوتِر قبلَ أنْ يَنَام.
أمَّا صِفَتُها؛ فهي مَثنَى مَثنَى؛ يُسَلِّمُ مِنْ كُلِّ ركعتينِ، ثُمَّ يُوتِرُ بِواحِدة؛ يُصلي ثلاثاً، أو خمساً، أو سبعاً، أوتسعاً، أو إِحْدَى عَشْرة، أو ثلاثَ عَشرَة، يُطِيل صَلاتَهُ لحديث: ( أَفْضَلُ الصَّلَاةِ طُولُ الْقُنُوتِ ) رواه مسلم. وَالمرادُ بالقُنوتِ هُنَا القيام؛ فإذا صَلَّى لِنَفْسِهِ فَليُطَوِّلْ مَا شَاءَ؛ وإنْ كانَ إمَاماً فَلْيُرَاعِ حَالَ المَأمُومِين.
يُصَلي المُسلِمُ نشاطَهُ، فإذا نَعَسَ فليرقُد.
عبادَ الله: احرِصوا على إتمامِ صلاةِ التراويحِ مع الإمامِ حتى ينصرف، يُكْتَبْ لكُمْ قِيامُ لَيلة؛ كَما جاءَ ذلكَ في الحديث.
وَمَنْ كَسَلَ عَنِ القيامِ فَلْيُصَلِّ جَالساً؛ فَإِنَّ هذا جائِزٌ في النَّفْلِ حتى مَعَ قُدرَتِهِ على القِيام؛ ولكِنَّ صلاةَ القَاعِدِ القادرِ على القِيامِ؛ عَلَى النِّصفِ مِن صَلاةِ القَائِمِ. أمَّا الفَرِيضَة فَلا تَصِحُّ مِنَ الجَالِسِ مَعَ قُدرَتِهِ على القِيام.
عبادَ الله: مَنْ أوتَرَ أوَّلَ الليلِ ثُمَّ أرادَ الصلاةَ آخرَ الليل؛ فإنهُ يصلي شفعًا.
وَمَنْ فاتَهُ وِرْدُهُ مِنَ الليلِ صَلاهُ في النَّهارِ شَفْعاً؛ فقد كانَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( إِذَا فَاتَتْهُ الصَّلَاةُ مِنْ اللَّيْلِ مِنْ وَجَعٍ أَوْ غَيْرِهِ صَلَّى مِنْ النَّهَارِ ثِنْتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً ) رواه مسلم.
عبادَ الله: أحْيُوا هذِهِ السُّنَةَ، وجَاهِدُوا أنفُسَكُم، وتَواصَوا بِهَا، حُثُّوا عليهَا أولادَكُم، وأيْقِظُوا لها أهلَكُم؛ تَعَاوُنَاً على البِرِّ والتقوى، واقتداءً بنَبِيِ الهُدَى صلى اللهُ عليهِ وسلم.
كَما أنَّ تَرْبِيةَ الأهلِ على العباداتِ وإيقاظِهِم للصلواتِ مِنْ أعظَمِ وُجُوهِ الإحْسانِ إليهم، والقيامِ بِرِعايتِهِم، وهُوَ سَبَبٌ لِنَيْلِ رحمةِ اللهِ تعالى؛ فقد دعا النبيُّ صلى اللهُ عليهِ وسلمَ لِمَنْ فَعَلَ ذلكَ؛ فقال: ( رَحِمَ اللَّهُ رَجُلًا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى، وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ فَصَلَّتْ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ، رَحِمَ اللَّهُ امْرَأَةً قَامَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّتْ وَأَيْقَظَتْ زَوْجَهَا، فَإِنْ أَبَى نَضَحَتْ فِي وَجْهِهِ الْمَاءَ ) أخرجه أبو داود وقال الألباني: حسن صحيح.
وفقني اللهُ وإيَّاكُم لِهُداه، والاستِنَانِ بِسُنة نبيهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ ومرافَقَتِهِ في جناتِ النعيم.
ثُمَّ صلوا وسلموا...
اللهمَّ أعِزَّ الإسلامَ ... اللهم أصلِحْ أئِمَّتَنَا...
عبادَ الله: اذكُروا اللهَ...
.
مبارك العشوان
تصويب: ويقولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: ( يَا عَبْدَ اللَّهِ لَا تَكُنْ مِثْلَ فُلَانٍ كَانَ يَقُومُ اللَّيْلَ فَتَرَكَ قِيَامَ اللَّيْلِ) رواه البخاري ومسلم.
عبدالله بن عمرو بن العاص ، وليس عمرو بن العاص ( رضي الله عنهما )
تعديل التعليق