تباريح بحثية
احمد ابوبكر
1434/12/18 - 2013/10/23 05:06AM
إبراهيم السكران
الحمد لله وبعد،،
قبل مدة كنت في أدغال بحث عن العلاقة بين (الفكر الحداثي) و(الاستشراق الفيلولوجي)، وقد قادني البحث إلى كتاب صدر حديثاً باللغة الانجليزية عن علم الكلام (Theology)، فبحثت عنه في فهارس المكتبات العامة في السعودية فلم أجده، كمكتبة الملك عبد العزيز، ومكتبة الأمير سلمان بجامعة الملك سعود، ومكتبة الملك فيصل، فلم أعثر عليه فيها كلها، وتضخمت الإحالة إليه، فاشتدت حاجتي له، ثم بحثت عنه في مكتبة الملك فهد الوطنية فوجدته، فلا تكاد تصدق فرحتي، والحقيقة أنه اتضح لي أن مكتبة الملك فهد الوطنية هي أعلى المكتبات العامة في السعودية من حيث مستوى (التزويد)، أي توفير الكتب الجديدة واقتناؤها، ولما تواصلت مع المكتبة أخبرني الموظفون أن الكتاب (في الكراتين)، لأن المكتبة في صدد توسعة المبنى وقد تم تخزين الكتب في صناديق ريثما ينتهي المقاول، فعدت وأنا لا أرى الطريق من سحائب الحزن المعرفي التي غشيت عيني!
فسألت عدداً من الأصدقاء المهتمين بالبحث العلمي، وكلهم أجابني سلباً، فحاولت أن أجد الكتاب مصوراً على الشبكة، فوجدت بعضه قد صورته جوجل، إلا أنهم يصورون دوماً كل شيء إلا موضع الحاجة! وما أكثر ما وقع لي هذا مع مصورات جوجل، أقرأ الكتاب الذي صوروه حتى إذا وصلت إلى الحبكة، وبلغت موضع المسألة محل البحث، وأطرافي مشدودة لقراءة المعلومة المطلوبة، إذا بعبارتهم الباردة تلطمني (الصفحة كذا ليست جزءاً من معاينة هذا الكتاب)!
المهم، أنه خطر بذهني أن أستعين بأحد الأصدقاء المبتعثين، فراسلت أحد الأقارب ممن يدرس في (سياتل) بالولايات المتحدة، وقلت له: ما أقرب جامعة إليك؟ فأخبرني أنها جامعة سياتل، فأردت تيسير المهمة عليه، فقلت سأدخل على موقع مكتبة جامعة سياتل، وأستخرج (رقم الاستدعاء) للكتاب، وأزود صاحبي به، وهو يصور الموضع المطلوب ويرسله لي.
فدخلت على موقع الجامعة، ثم دخلت على موقع المكتبة، لكن الروابط أمامي اضطربت، فلم أهتد لرابط (محرك البحث) عن الكتب، ووجدت على يمين الصفحة مربعاً مكتوباً عليه (librarian chat) أي خدمة الدردشة مع موظف المكتبة، فظننت هذا المربع مجرد أيقونة للمراسلة كما هي عادة المواقع!
فكتبت فيه عبارة: أريد رابط محرك البحث لو سمحت.
فرد علي فوراً بعبارة ترحيبية: (Hi).
فقلت في نفسي يبدو أن هذا مجيب إلكتروني، ويستحيل أن يكون الذي رد موظف بهذه السرعة، فرددت التحية بقريب منها، فأرسل لي مباشرة رابط محرك البحث، فنقرته فنقلني فعلاً إلى محرك البحث! فعدت لأشكره وإذا به قد كتب يسألني في مربع الدردشة:
(هل الأمور على مايرام؟)
فتعجبت من هذه الخدمة.
المهم أنني أخذت رقم الاستدعاء للكتاب، ودفعته لصديقي، فسحب لي الصفحات المطلوبة بالماسح الضوئي (سكانر)، ثم أرسلها لي بالبريد الإلكتروني في دقائق.
وقد أشرت قبل قليل أن (مكتبة الملك فهد الوطنية) متميزة جداً في التزويد بالكتب، إلا أننا حرمنا منها في مدة تطوير المباني الحالية، وقد طالت والتهب شوقنا لكتبها.
وأما (مكتبة الأمير سلمان) بجامعة الملك سعود، ففيها مزايا، الأولى أن المكتبة في الكتب "القديمة" -العربية والإنجليزية- متميزة جداً في (التزويد)، لكنها في الكتب "الحديثة" منذ سنوات انخفض التزويد فيها جداً، وليس من الصعب التوقع بأن القوم قصرت بهم النفقة، وما عادوا يشترون الكتب حديثة الصدور، لتحول طرأ في ميزانية التزويد، وهذا شيء مؤسف، وكلنا أمل أن تتلافى الجامعة هذا التدهور في التزويد، وتعود لسابق مجدها في اقتناء الكتب وتوفيرها لروادها.
ومن مميزات (مكتبة الأمير سلمان) بجامعة الملك سعود -أيضاً- أنها سخية في فتح أبوابها لروادها، فساعات العمل فيها طويلة تشبع نهم القارئ، حيث تفتح أبوابها من (8) صباحاً إلى الساعة (12) ليلاً، بدون انقطاع، وهذا شيء لا أعرفه في السعودية لغير هذه المكتبة، كما أن محرك البحث في هذه المكتبة على شبكة الانترنت محرك ممتاز ومتطور، ولكن العيب القاتل في هذه المكتبة القيّمة هي -كما سبقت الإشارة- حالة (الإفلاس التزويدي) الذي طرأ على المكتبة، فأصبح الباحث لا يجد فيها إلا الكتب القديمة، فإن بقيت المكتبة على هذه الحال في تدهور التزويد فلن تصبح مكتبة عامة، بل ستتحول إلى معرض للكتب القديمة.
ومن عيوب مكتبة الأمير سلمان -أيضاً- عدم العناية بصيانة أجهزة النسخ التصوير، فهي متعددة لكن أكثرها معطل، بحيث يضطر المرء أحياناً أن يصور بجواله الصفحات، وينقلها إلى جهازه المحمول، عبر برامج التبديف.
وأما (مكتبة الملك عبد العزيز العامة) بحي الملك عبد الله، فهذه المكتبة لها في نفسي ذكريات أثيرة، إذ صوّرت منها طوال خمسة عشر عاماً عشرات الكتب المفقودة من السوق، والكتاب المفقود من السوق، والذي تكثر الإحالة إليه بين المؤلفين في نفس الموضوع؛ يصبح له في قلب الباحث (هالة) نفسية لا يستطيع دفعها عن روحه، فإذا وقع عليه في مكتبة عامة يشعر أنه يجب أن يحمله بين يديه بعناية، بل ربما أحس الباحث بحاجته للوقوف على موظف التصوير أثناء تصويره له، خشية أن يلتقطه مستعير آخر، قبل أن تكون بين يديه صورة منه!
وفي مكتبة الملك عبد العزيز موظفون بشكل كافٍ، بل وزيادة، وفيها متجر للتصوير، لكنه موظف واحد فقط، وأحياناً يطلب منك أن تأتي غداً، وهذا فيه مشقة إذا استحضرنا أن المكتبة على طريق خريص، وهو الطريق الذي يسبق الماشي فيه الراكب بكل يسر وسهولة من شدة زحام السيارات، وليس فيها خدمة التصوير الذاتي بالبطاقات (الكوبونات).
وقد حدث لهذه المكتبة -أعني مكتبة الملك عبد العزيز بحي الملك عبد الله- تطور غريب جداً يمكن تلخيصه بأنه (قفزة عقارية وانهيار معرفي)! فأصبحت أمرّ بجانبها وأنا أكظم الحسرات، ما الذي جرى لمكتبتنا العزيزة؟!
حيث أنه قرر إنشاء مبنى متقدم وحديث للمكتبة، على طراز نوعي وبصالات راقية، على طريق خريص، وانتظرنا بفارغ الصبر انتهاء المبنى الجديد، ثم انتظرنا نقل الكتب إليه، وكلها أخذت زمناً كأنه من أعمارنا، ونحن نتخيل أنه ستكون الممرات بين رفوف الكتب ممتدة، ومقرات القراءة والكتابة أوسع، وخصوصاً أن رقي المبنى من الخارج كان يبث إيحاءات براقة طيلة مدة إنشائه، فإذا بنا نكتشف المفاجأة الأليمة، فلما انتهى المبنى الجديد ونُقِلت الكتب، ودَخلْت المكتبة، بحثت عن الكتب، ودخلت بعض الأقسام التي كنت أعرف كتبها جيداً، منذ عرفت هذه المكتبة قبل خمسة عشر عاماً، فلم أجد إلا نزراً يسيراً، يا ترى هل الكتب تعثر نقلها من المبنى القديم؟ هل باعوا كتبهم؟ ما الذي جرى؟
بحثت عن كتاب، وكتابين، وثلاثة، فلم أجد ولا كتاباً واحداً مما في الورقة التي معي موجوداً على الرف، سألت الموظف: لو سمحت كل هذه الكتب، يعطيني فهرس المكتبة أنها موجودة، والواقع أنها غير موجودة على الرف، ما الخطب؟
قال لي الموظف: المعذرة، أكثر الكتب منذ اليوم لن تكون متاحة للباحث على الرف، بل هي موجودة في المخزن في الداخل، فإذا أردت الكتاب، فاطلبه لنجلبه لك من المخزن!
وهو يتحدث ويشرح الإجراء الجديد، بدأت أفهم فكرته تدريجياً، ولكن كنت كأنني مساهم يحدق في مؤشر سوق المال وهو يتدهور ويفقد ثروته!
كتب المكتبة لن تكون متاحة أمامنا .. بل هي في مخازن، يحتاج أن تطلب كل كتاب بمفرده! واحزناه..
من يهتم بالبحث العلمي يعرف أن الباحث يصل للمعلومة عبر مسارين:
إما أن تحيل المراجع في الموضوع المعين إلى كتاب بعينه، وتسمى (الإحالات المرجعية)، وكميتها من معايير قياس أهمية الكتاب، فيطلب الباحث هذا الكتاب المحال إليه، وهذا المسار لم يتعطل عبر الإجراء الجديد لمكتبة الملك عبد العزيز، لأنه يمكنك أن تطلب الكتاب الذي عرفت أهميته من الموظف، ويجلبه لك من المخزن.
والمسار الثاني هو أن يقف الباحث بين أرتال الكتب المصنفة في قسم معين هو محل بحثه، فتراه بين صفوف حوامل الكتب، تارة واقفاً، وتارة جالساً على ركبتيه، وتارة متكئاً على الحامل، ويجرد الكتب في الفن قدر طاقته وإمكانه، فيتعرف على كتب في الموضوع لم يسمع بها من قبل، ولم تذكرها المراجع الأخرى، وتتفتح له نوافذ بحثية، ويسقط على كنوز معرفية، ولا يزيده استكشاف مصادر الموضوع إلا عطشاً للمعرفة، ويعرف الباحثون بالاتفاق أن جرد الكتب في الموضوع هو لحظة الإشراق التي تشع فيها خيوط الشمس على دوائر بحثه.
وهذا المسار الثاني للبحث العلمي أقفلته علينا اليوم إدارة مكتبة الملك عبد العزيز هداهم الله، وغفر لهم، وسامحهم، وتجاوز عنهم، وركلتنا الإدارة خارج باب المخزن، وأصبحنا كالثكالى نمر بجانب الموظف، ونطل من باب المخزن إذا انفرج، لعلنا نرى تلك الكتب التي كنا بجانبها يوماً نعيش أحلى لحظات البحث العلمي.
وأما أقسى ما وقع في مكتبة الملك عبد العزيز بعد التطوير فهو أنني بحثت في فهرسهم الإلكتروني عن كتاب مفقود من السوق، ووجدته عندهم، وبحثت في الأرفف فلم أجده، فجئت للموظف وطلبت منه أن يستخرجه لي من المخزن، فدخل، ثم جاءني وقال: للأسف هذا الكتاب مصنف تحت فئة (محدود الاطلاع). قلت: حسناً، دعني اطلع عليه أمامك أو في أي قاعة تختارها. قال: لا، فئة محدود الاطلاع ليست عندنا في المبنى "الجديد"، بل يتوجب عليك أن تذهب للمبنى "القديم"، وتطلب الاطلاع على الكتاب!
فإنا لله وإنا إليه راجعون من هذه المعضلة الجديدة، وهي أن الكتب بعد تطوير مكتبة الملك عبد العزيز تشرذمت، فبعد أن كانت الكتب في الفن الواحد متكاتفة أمام الباحث فاغرة دلاءها تسقيه عسل العلم، أصبحت الكتب شظايا متناثرة على ثلاثة أقسام:
1-قسم على الرفوف
2-وقسم في المخزن
(وهذان القسمان في المبنى "الجديد")
3-وقسم في المبنى القديم!
فأصبح تخمين "موقع" الكتاب في مكتبة الملك عبد العزيز نوع من القمار البيبليوجرافي!
فأي آصار بحثية هذه؟!
ومن الأمور الغريبة في مكتبة الملك عبد العزيز –أيضاً- أن فهرسهم الإلكتروني "الأفق" (هورايزن) يكون معطلاً غالب الوقت لمن يبحث من منزله خارج المكتبة، فتضطر للقدوم للمكتبة لتبحث في الفهرس الإلكتروني وقد لا تجد الكتاب، وهذا بخلاف الفهرس الإلكتروني لمكتبة الأمير سلمان بجامعة الملك سعود، فهو فهرس متميز لا يتعطل إلا نادراً، ويستطيع الباحث وهو في منزله: أن يعرف هل الكتاب عندهم أم لا، قبل قدومه.
ومن الأمور الغريبة في مكتبة الملك عبد العزيز –أيضاً- أن أجهزة الحاسوب في المكتبة غالبها معطل، فلا أدري لماذا إهمالها بهذا الشكل وهم للتو انتقلوا لمبنى جديد؟! هل صيانة أجهزة الحاسوب عملية معقدة أو مكلفة؟ ثم إن مظهرها وهي أجهزة متناثرة معطلة منح المكتبة روحاً بالية!
وبكل صراحة، وأتحدث هاهنا عن نفسي شخصياً، فالخدمات التي كانت تقدم للباحثين لما كانت مكتبة الملك عبد العزيز في كوخهم القديم أفضل كثيراً من الخدمات في قصرهم الجديد.. ألا ليت مكتبة الملك عبد العزيز تهاجر من قصرها لكوخها! ونرجع نتنفس العلم بين ممراتها ورفوفها السابقة.
كنت مرة أتناقش مع أحد المفكرين السعوديين عن ظواهر الدعم اللامحدود لملاعب كرة القدم، فقال لي: هذا الدعم له هدف سياسي، وهو إشغال الشباب حتى لا يصرفوا طاقتهم في انحرافات أمنية أو سياسية.
فلما رأيت الوضع الحزين لمكتباتنا العامة، قلت في نفسي: ألا مبلغ عني صانع القرار، أن دفع الإعلام والتعليم باتجاه تشجيع البحث العلمي، وتوفير المصادر، وإبراز المؤلفات المحلية والمبدعة، وإشعال الدوريات العلمية ومراجعات الكتب، وعقد اللقاءات مع العلماء والمثقفين الموضوعيين للحديث عن نتاجهم العلمي؛ كل هذا يصنع قيماً ونماذج ملهمة، ويشغل الشباب حقاً في الإنتاج النافع المثمر، فبدلاً من مكافأة ناقة حسناء في مزاينٍ ما، أو مكافأة راكل لكرة؛ تتم مكافأة وإبراز وتشجيع الكتب والمؤلفات والأبحاث في العلوم الشرعية والإنسانية والطبيعية، بحيث تكون ظاهرة اجتماعية مهيمنة، والإعلام الرسمي بانتظار الإشارة ويصبح المطلوب رائعاً كما هي عادتهم.
والمجتمعات لا تتقدم ولا تتطور إلا بتطور المعرفة والعلم، لا بتطور جماليات الإبل!
لكن ماذا تحتاج المكتبات العامة؟
تحتاج أولاً إلى مباني ضخمة متعددة الأدوار إلى عشرة طوابق وأكثر، وأن تكون موزعة بين أنحاء الرياض ونحوها من المدن الكبرى، أو قاعدة كل إقليم.
وتحتاج المكتبة العامة إلى أولوية (التزويد)، بأن يكون التنسيق مع كافة دور النشر ليكون الكتاب المطبوع يوفر منه عدة نسخ في ظرف ثلاثة أيام فور طباعته، هي مسافة الطريق.
وتحتاج المكتبات العامة إلى دعم خدمات النسخ والتصوير والسحب الضوئي (سكانر)، وأن تكون بخيارين: خيار التصوير الشخصي بالكوبونات، وخيار متجر التصوير الذي يعمل فيه موظفون بشكل كافٍ.
وتحتاج المكتبات العامة إلى فهارس إلكترونية ذكية على موقع المكتبة على شبكة الانترنت بحيث تكون فهارس مستمرة العمل لا تتعطل، بالإضافة إلى التطوير الجاد لخدمات تكشيف الفهارس والدوريات.
وتحتاج مكتباتنا العامة إلى تكثيف المقصورات البحثية الصغيرة المستقلة، وأن يكون المسجد قريباً جداً من الباحثين في رحبة المكتبة بحيث يعينهم على الصلاة.
وتحتاج المكتبات العامة إلى إطالة أمد ساعات افتتاحها، ويمكن أن يكون دوام الموظفين طبيعياً في وقت الذروة، وأما الوقت المبكر والمتأخر فيقلص العدد جداً.
وما المانع أن تكون مكتباتنا العامة الكبرى (أربع مكتبات في الرياض على الأقل) تفتح أبوابها للباحثين بنظام: (24) ساعة في اليوم (7) أيام في الأسبوع؟! لتلبي اختلاف الظروف البحثية للباحثين، وخصوصاً من يضربون أكباد الأديترات من خارج المدن.
ولطالما فكرت: هل يمكن أن تبرم مكتباتنا العامة مع دور النشر اتفاقية تجيز لها تصوير الكتب وعرضها للباحثين بطريقة لا يمكن تحريرها خارج موقع المكتبة؟ كما تفعل جوجل في تصوير جزء من الكتب دون إمكانية تنزيلها (داونلود)، هل ذلك ممكن في عالم الكتب العربية؟ بحيث تتحول كل محتويات المكتبة العامة لمكتبة رقمية للاطاع فقط، فيدخلها الباحث وهو في غرفة منزلة ويجد كل كتاب يريده.
ولو أمكن رقمنة المكتبة العامة (تحويلها لكتب مصورة) فهذا فيه خدمة لا يمكن وصف مداها لشريحة (الباحثات) اللائي يعانين الغبن من نقص ساعات المكتبة، ومحدودية الكتب التي تعرض لهن، ونفص كفاءة المكتبيات اللائي يخدمنهن.
والحقيقة أن ضمور الهم العلمي في شريحة النساء، وهيمنة الاهتمامات السطحية في الطبخات والتجميل؛ من الأمور المحزنة التي تستحق إفراد معالجات مستقلة لها للارتفاع بالثقافة الجادة في أوساط النساء، ومع وجود الخير، وبروز كوكبة صاعدة من الباحثات وطالبات العلم والمثقفات الموضوعيات، بل ظهور الكاتبات الفاعلات في قضايا الشأن العام؛ إلا أنه مازال دون النسبة المأمولة بكثير.
ومن الموضوعية والإنصاف أن نقر ونعترف أن المشكلة ليست كلها على ظهور مسؤولي المكتبات العامة، بل هناك أزمة خطيرة في (أخلاقيات وآداب البحث العلمي) لدى بعض الباحثين للأسف، بما يتطلب حملة تثقيفية توعوية، فتجد بعضهم لا يحترم الكتاب في المكتبة العامة، ويتعامل معه وكأنه سلعة مغتصبة، فيخط بقلمه على الصفحات كيفما اتفق، بل وبعضهم يقتطع صفحات معينة ويطويها ويضعها في جيبه ويخرج تكاسلاً عن نسخها! وهذه جريمة اختلاس منحطة ووضيعة.
وبعضهم لا يجد غضاضة أن يتحدث ويقهقه بجواله في قلب قاعة البحث والناس يرمقونه بأبصارهم كالقائل اخفض صوتك وتحدث خارج القاعة، وهو يناكف نظراتهم المتوسلة ويواصل حديثه الهاتفي الجهوري بكل فجاجة، ويشعر أن مغادرته القاعة لمواصلة اتصاله الهاتفي نوع انكسار لا يليق بكرامته!
هذه تباريح بحثية اقتضاها الخاطر المكدود، وليست ورقة منظمة في موضوع (المكتبات العامة: الواقع والمأمول)، فليت المتخصصين يطرحون ورش عمل في هذا الموضوع فائق الأهمية.
جُعِلْت فداك .. وهل تبنى المجتمعات إلا بسواعد البحث العلمي؟!
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
أبو عمر
ذي الحجة 1434ه
الحمد لله وبعد،،
قبل مدة كنت في أدغال بحث عن العلاقة بين (الفكر الحداثي) و(الاستشراق الفيلولوجي)، وقد قادني البحث إلى كتاب صدر حديثاً باللغة الانجليزية عن علم الكلام (Theology)، فبحثت عنه في فهارس المكتبات العامة في السعودية فلم أجده، كمكتبة الملك عبد العزيز، ومكتبة الأمير سلمان بجامعة الملك سعود، ومكتبة الملك فيصل، فلم أعثر عليه فيها كلها، وتضخمت الإحالة إليه، فاشتدت حاجتي له، ثم بحثت عنه في مكتبة الملك فهد الوطنية فوجدته، فلا تكاد تصدق فرحتي، والحقيقة أنه اتضح لي أن مكتبة الملك فهد الوطنية هي أعلى المكتبات العامة في السعودية من حيث مستوى (التزويد)، أي توفير الكتب الجديدة واقتناؤها، ولما تواصلت مع المكتبة أخبرني الموظفون أن الكتاب (في الكراتين)، لأن المكتبة في صدد توسعة المبنى وقد تم تخزين الكتب في صناديق ريثما ينتهي المقاول، فعدت وأنا لا أرى الطريق من سحائب الحزن المعرفي التي غشيت عيني!
فسألت عدداً من الأصدقاء المهتمين بالبحث العلمي، وكلهم أجابني سلباً، فحاولت أن أجد الكتاب مصوراً على الشبكة، فوجدت بعضه قد صورته جوجل، إلا أنهم يصورون دوماً كل شيء إلا موضع الحاجة! وما أكثر ما وقع لي هذا مع مصورات جوجل، أقرأ الكتاب الذي صوروه حتى إذا وصلت إلى الحبكة، وبلغت موضع المسألة محل البحث، وأطرافي مشدودة لقراءة المعلومة المطلوبة، إذا بعبارتهم الباردة تلطمني (الصفحة كذا ليست جزءاً من معاينة هذا الكتاب)!
المهم، أنه خطر بذهني أن أستعين بأحد الأصدقاء المبتعثين، فراسلت أحد الأقارب ممن يدرس في (سياتل) بالولايات المتحدة، وقلت له: ما أقرب جامعة إليك؟ فأخبرني أنها جامعة سياتل، فأردت تيسير المهمة عليه، فقلت سأدخل على موقع مكتبة جامعة سياتل، وأستخرج (رقم الاستدعاء) للكتاب، وأزود صاحبي به، وهو يصور الموضع المطلوب ويرسله لي.
فدخلت على موقع الجامعة، ثم دخلت على موقع المكتبة، لكن الروابط أمامي اضطربت، فلم أهتد لرابط (محرك البحث) عن الكتب، ووجدت على يمين الصفحة مربعاً مكتوباً عليه (librarian chat) أي خدمة الدردشة مع موظف المكتبة، فظننت هذا المربع مجرد أيقونة للمراسلة كما هي عادة المواقع!
فكتبت فيه عبارة: أريد رابط محرك البحث لو سمحت.
فرد علي فوراً بعبارة ترحيبية: (Hi).
فقلت في نفسي يبدو أن هذا مجيب إلكتروني، ويستحيل أن يكون الذي رد موظف بهذه السرعة، فرددت التحية بقريب منها، فأرسل لي مباشرة رابط محرك البحث، فنقرته فنقلني فعلاً إلى محرك البحث! فعدت لأشكره وإذا به قد كتب يسألني في مربع الدردشة:
(هل الأمور على مايرام؟)
فتعجبت من هذه الخدمة.
المهم أنني أخذت رقم الاستدعاء للكتاب، ودفعته لصديقي، فسحب لي الصفحات المطلوبة بالماسح الضوئي (سكانر)، ثم أرسلها لي بالبريد الإلكتروني في دقائق.
وقد أشرت قبل قليل أن (مكتبة الملك فهد الوطنية) متميزة جداً في التزويد بالكتب، إلا أننا حرمنا منها في مدة تطوير المباني الحالية، وقد طالت والتهب شوقنا لكتبها.
وأما (مكتبة الأمير سلمان) بجامعة الملك سعود، ففيها مزايا، الأولى أن المكتبة في الكتب "القديمة" -العربية والإنجليزية- متميزة جداً في (التزويد)، لكنها في الكتب "الحديثة" منذ سنوات انخفض التزويد فيها جداً، وليس من الصعب التوقع بأن القوم قصرت بهم النفقة، وما عادوا يشترون الكتب حديثة الصدور، لتحول طرأ في ميزانية التزويد، وهذا شيء مؤسف، وكلنا أمل أن تتلافى الجامعة هذا التدهور في التزويد، وتعود لسابق مجدها في اقتناء الكتب وتوفيرها لروادها.
ومن مميزات (مكتبة الأمير سلمان) بجامعة الملك سعود -أيضاً- أنها سخية في فتح أبوابها لروادها، فساعات العمل فيها طويلة تشبع نهم القارئ، حيث تفتح أبوابها من (8) صباحاً إلى الساعة (12) ليلاً، بدون انقطاع، وهذا شيء لا أعرفه في السعودية لغير هذه المكتبة، كما أن محرك البحث في هذه المكتبة على شبكة الانترنت محرك ممتاز ومتطور، ولكن العيب القاتل في هذه المكتبة القيّمة هي -كما سبقت الإشارة- حالة (الإفلاس التزويدي) الذي طرأ على المكتبة، فأصبح الباحث لا يجد فيها إلا الكتب القديمة، فإن بقيت المكتبة على هذه الحال في تدهور التزويد فلن تصبح مكتبة عامة، بل ستتحول إلى معرض للكتب القديمة.
ومن عيوب مكتبة الأمير سلمان -أيضاً- عدم العناية بصيانة أجهزة النسخ التصوير، فهي متعددة لكن أكثرها معطل، بحيث يضطر المرء أحياناً أن يصور بجواله الصفحات، وينقلها إلى جهازه المحمول، عبر برامج التبديف.
وأما (مكتبة الملك عبد العزيز العامة) بحي الملك عبد الله، فهذه المكتبة لها في نفسي ذكريات أثيرة، إذ صوّرت منها طوال خمسة عشر عاماً عشرات الكتب المفقودة من السوق، والكتاب المفقود من السوق، والذي تكثر الإحالة إليه بين المؤلفين في نفس الموضوع؛ يصبح له في قلب الباحث (هالة) نفسية لا يستطيع دفعها عن روحه، فإذا وقع عليه في مكتبة عامة يشعر أنه يجب أن يحمله بين يديه بعناية، بل ربما أحس الباحث بحاجته للوقوف على موظف التصوير أثناء تصويره له، خشية أن يلتقطه مستعير آخر، قبل أن تكون بين يديه صورة منه!
وفي مكتبة الملك عبد العزيز موظفون بشكل كافٍ، بل وزيادة، وفيها متجر للتصوير، لكنه موظف واحد فقط، وأحياناً يطلب منك أن تأتي غداً، وهذا فيه مشقة إذا استحضرنا أن المكتبة على طريق خريص، وهو الطريق الذي يسبق الماشي فيه الراكب بكل يسر وسهولة من شدة زحام السيارات، وليس فيها خدمة التصوير الذاتي بالبطاقات (الكوبونات).
وقد حدث لهذه المكتبة -أعني مكتبة الملك عبد العزيز بحي الملك عبد الله- تطور غريب جداً يمكن تلخيصه بأنه (قفزة عقارية وانهيار معرفي)! فأصبحت أمرّ بجانبها وأنا أكظم الحسرات، ما الذي جرى لمكتبتنا العزيزة؟!
حيث أنه قرر إنشاء مبنى متقدم وحديث للمكتبة، على طراز نوعي وبصالات راقية، على طريق خريص، وانتظرنا بفارغ الصبر انتهاء المبنى الجديد، ثم انتظرنا نقل الكتب إليه، وكلها أخذت زمناً كأنه من أعمارنا، ونحن نتخيل أنه ستكون الممرات بين رفوف الكتب ممتدة، ومقرات القراءة والكتابة أوسع، وخصوصاً أن رقي المبنى من الخارج كان يبث إيحاءات براقة طيلة مدة إنشائه، فإذا بنا نكتشف المفاجأة الأليمة، فلما انتهى المبنى الجديد ونُقِلت الكتب، ودَخلْت المكتبة، بحثت عن الكتب، ودخلت بعض الأقسام التي كنت أعرف كتبها جيداً، منذ عرفت هذه المكتبة قبل خمسة عشر عاماً، فلم أجد إلا نزراً يسيراً، يا ترى هل الكتب تعثر نقلها من المبنى القديم؟ هل باعوا كتبهم؟ ما الذي جرى؟
بحثت عن كتاب، وكتابين، وثلاثة، فلم أجد ولا كتاباً واحداً مما في الورقة التي معي موجوداً على الرف، سألت الموظف: لو سمحت كل هذه الكتب، يعطيني فهرس المكتبة أنها موجودة، والواقع أنها غير موجودة على الرف، ما الخطب؟
قال لي الموظف: المعذرة، أكثر الكتب منذ اليوم لن تكون متاحة للباحث على الرف، بل هي موجودة في المخزن في الداخل، فإذا أردت الكتاب، فاطلبه لنجلبه لك من المخزن!
وهو يتحدث ويشرح الإجراء الجديد، بدأت أفهم فكرته تدريجياً، ولكن كنت كأنني مساهم يحدق في مؤشر سوق المال وهو يتدهور ويفقد ثروته!
كتب المكتبة لن تكون متاحة أمامنا .. بل هي في مخازن، يحتاج أن تطلب كل كتاب بمفرده! واحزناه..
من يهتم بالبحث العلمي يعرف أن الباحث يصل للمعلومة عبر مسارين:
إما أن تحيل المراجع في الموضوع المعين إلى كتاب بعينه، وتسمى (الإحالات المرجعية)، وكميتها من معايير قياس أهمية الكتاب، فيطلب الباحث هذا الكتاب المحال إليه، وهذا المسار لم يتعطل عبر الإجراء الجديد لمكتبة الملك عبد العزيز، لأنه يمكنك أن تطلب الكتاب الذي عرفت أهميته من الموظف، ويجلبه لك من المخزن.
والمسار الثاني هو أن يقف الباحث بين أرتال الكتب المصنفة في قسم معين هو محل بحثه، فتراه بين صفوف حوامل الكتب، تارة واقفاً، وتارة جالساً على ركبتيه، وتارة متكئاً على الحامل، ويجرد الكتب في الفن قدر طاقته وإمكانه، فيتعرف على كتب في الموضوع لم يسمع بها من قبل، ولم تذكرها المراجع الأخرى، وتتفتح له نوافذ بحثية، ويسقط على كنوز معرفية، ولا يزيده استكشاف مصادر الموضوع إلا عطشاً للمعرفة، ويعرف الباحثون بالاتفاق أن جرد الكتب في الموضوع هو لحظة الإشراق التي تشع فيها خيوط الشمس على دوائر بحثه.
وهذا المسار الثاني للبحث العلمي أقفلته علينا اليوم إدارة مكتبة الملك عبد العزيز هداهم الله، وغفر لهم، وسامحهم، وتجاوز عنهم، وركلتنا الإدارة خارج باب المخزن، وأصبحنا كالثكالى نمر بجانب الموظف، ونطل من باب المخزن إذا انفرج، لعلنا نرى تلك الكتب التي كنا بجانبها يوماً نعيش أحلى لحظات البحث العلمي.
وأما أقسى ما وقع في مكتبة الملك عبد العزيز بعد التطوير فهو أنني بحثت في فهرسهم الإلكتروني عن كتاب مفقود من السوق، ووجدته عندهم، وبحثت في الأرفف فلم أجده، فجئت للموظف وطلبت منه أن يستخرجه لي من المخزن، فدخل، ثم جاءني وقال: للأسف هذا الكتاب مصنف تحت فئة (محدود الاطلاع). قلت: حسناً، دعني اطلع عليه أمامك أو في أي قاعة تختارها. قال: لا، فئة محدود الاطلاع ليست عندنا في المبنى "الجديد"، بل يتوجب عليك أن تذهب للمبنى "القديم"، وتطلب الاطلاع على الكتاب!
فإنا لله وإنا إليه راجعون من هذه المعضلة الجديدة، وهي أن الكتب بعد تطوير مكتبة الملك عبد العزيز تشرذمت، فبعد أن كانت الكتب في الفن الواحد متكاتفة أمام الباحث فاغرة دلاءها تسقيه عسل العلم، أصبحت الكتب شظايا متناثرة على ثلاثة أقسام:
1-قسم على الرفوف
2-وقسم في المخزن
(وهذان القسمان في المبنى "الجديد")
3-وقسم في المبنى القديم!
فأصبح تخمين "موقع" الكتاب في مكتبة الملك عبد العزيز نوع من القمار البيبليوجرافي!
فأي آصار بحثية هذه؟!
ومن الأمور الغريبة في مكتبة الملك عبد العزيز –أيضاً- أن فهرسهم الإلكتروني "الأفق" (هورايزن) يكون معطلاً غالب الوقت لمن يبحث من منزله خارج المكتبة، فتضطر للقدوم للمكتبة لتبحث في الفهرس الإلكتروني وقد لا تجد الكتاب، وهذا بخلاف الفهرس الإلكتروني لمكتبة الأمير سلمان بجامعة الملك سعود، فهو فهرس متميز لا يتعطل إلا نادراً، ويستطيع الباحث وهو في منزله: أن يعرف هل الكتاب عندهم أم لا، قبل قدومه.
ومن الأمور الغريبة في مكتبة الملك عبد العزيز –أيضاً- أن أجهزة الحاسوب في المكتبة غالبها معطل، فلا أدري لماذا إهمالها بهذا الشكل وهم للتو انتقلوا لمبنى جديد؟! هل صيانة أجهزة الحاسوب عملية معقدة أو مكلفة؟ ثم إن مظهرها وهي أجهزة متناثرة معطلة منح المكتبة روحاً بالية!
وبكل صراحة، وأتحدث هاهنا عن نفسي شخصياً، فالخدمات التي كانت تقدم للباحثين لما كانت مكتبة الملك عبد العزيز في كوخهم القديم أفضل كثيراً من الخدمات في قصرهم الجديد.. ألا ليت مكتبة الملك عبد العزيز تهاجر من قصرها لكوخها! ونرجع نتنفس العلم بين ممراتها ورفوفها السابقة.
كنت مرة أتناقش مع أحد المفكرين السعوديين عن ظواهر الدعم اللامحدود لملاعب كرة القدم، فقال لي: هذا الدعم له هدف سياسي، وهو إشغال الشباب حتى لا يصرفوا طاقتهم في انحرافات أمنية أو سياسية.
فلما رأيت الوضع الحزين لمكتباتنا العامة، قلت في نفسي: ألا مبلغ عني صانع القرار، أن دفع الإعلام والتعليم باتجاه تشجيع البحث العلمي، وتوفير المصادر، وإبراز المؤلفات المحلية والمبدعة، وإشعال الدوريات العلمية ومراجعات الكتب، وعقد اللقاءات مع العلماء والمثقفين الموضوعيين للحديث عن نتاجهم العلمي؛ كل هذا يصنع قيماً ونماذج ملهمة، ويشغل الشباب حقاً في الإنتاج النافع المثمر، فبدلاً من مكافأة ناقة حسناء في مزاينٍ ما، أو مكافأة راكل لكرة؛ تتم مكافأة وإبراز وتشجيع الكتب والمؤلفات والأبحاث في العلوم الشرعية والإنسانية والطبيعية، بحيث تكون ظاهرة اجتماعية مهيمنة، والإعلام الرسمي بانتظار الإشارة ويصبح المطلوب رائعاً كما هي عادتهم.
والمجتمعات لا تتقدم ولا تتطور إلا بتطور المعرفة والعلم، لا بتطور جماليات الإبل!
لكن ماذا تحتاج المكتبات العامة؟
تحتاج أولاً إلى مباني ضخمة متعددة الأدوار إلى عشرة طوابق وأكثر، وأن تكون موزعة بين أنحاء الرياض ونحوها من المدن الكبرى، أو قاعدة كل إقليم.
وتحتاج المكتبة العامة إلى أولوية (التزويد)، بأن يكون التنسيق مع كافة دور النشر ليكون الكتاب المطبوع يوفر منه عدة نسخ في ظرف ثلاثة أيام فور طباعته، هي مسافة الطريق.
وتحتاج المكتبات العامة إلى دعم خدمات النسخ والتصوير والسحب الضوئي (سكانر)، وأن تكون بخيارين: خيار التصوير الشخصي بالكوبونات، وخيار متجر التصوير الذي يعمل فيه موظفون بشكل كافٍ.
وتحتاج المكتبات العامة إلى فهارس إلكترونية ذكية على موقع المكتبة على شبكة الانترنت بحيث تكون فهارس مستمرة العمل لا تتعطل، بالإضافة إلى التطوير الجاد لخدمات تكشيف الفهارس والدوريات.
وتحتاج مكتباتنا العامة إلى تكثيف المقصورات البحثية الصغيرة المستقلة، وأن يكون المسجد قريباً جداً من الباحثين في رحبة المكتبة بحيث يعينهم على الصلاة.
وتحتاج المكتبات العامة إلى إطالة أمد ساعات افتتاحها، ويمكن أن يكون دوام الموظفين طبيعياً في وقت الذروة، وأما الوقت المبكر والمتأخر فيقلص العدد جداً.
وما المانع أن تكون مكتباتنا العامة الكبرى (أربع مكتبات في الرياض على الأقل) تفتح أبوابها للباحثين بنظام: (24) ساعة في اليوم (7) أيام في الأسبوع؟! لتلبي اختلاف الظروف البحثية للباحثين، وخصوصاً من يضربون أكباد الأديترات من خارج المدن.
ولطالما فكرت: هل يمكن أن تبرم مكتباتنا العامة مع دور النشر اتفاقية تجيز لها تصوير الكتب وعرضها للباحثين بطريقة لا يمكن تحريرها خارج موقع المكتبة؟ كما تفعل جوجل في تصوير جزء من الكتب دون إمكانية تنزيلها (داونلود)، هل ذلك ممكن في عالم الكتب العربية؟ بحيث تتحول كل محتويات المكتبة العامة لمكتبة رقمية للاطاع فقط، فيدخلها الباحث وهو في غرفة منزلة ويجد كل كتاب يريده.
ولو أمكن رقمنة المكتبة العامة (تحويلها لكتب مصورة) فهذا فيه خدمة لا يمكن وصف مداها لشريحة (الباحثات) اللائي يعانين الغبن من نقص ساعات المكتبة، ومحدودية الكتب التي تعرض لهن، ونفص كفاءة المكتبيات اللائي يخدمنهن.
والحقيقة أن ضمور الهم العلمي في شريحة النساء، وهيمنة الاهتمامات السطحية في الطبخات والتجميل؛ من الأمور المحزنة التي تستحق إفراد معالجات مستقلة لها للارتفاع بالثقافة الجادة في أوساط النساء، ومع وجود الخير، وبروز كوكبة صاعدة من الباحثات وطالبات العلم والمثقفات الموضوعيات، بل ظهور الكاتبات الفاعلات في قضايا الشأن العام؛ إلا أنه مازال دون النسبة المأمولة بكثير.
ومن الموضوعية والإنصاف أن نقر ونعترف أن المشكلة ليست كلها على ظهور مسؤولي المكتبات العامة، بل هناك أزمة خطيرة في (أخلاقيات وآداب البحث العلمي) لدى بعض الباحثين للأسف، بما يتطلب حملة تثقيفية توعوية، فتجد بعضهم لا يحترم الكتاب في المكتبة العامة، ويتعامل معه وكأنه سلعة مغتصبة، فيخط بقلمه على الصفحات كيفما اتفق، بل وبعضهم يقتطع صفحات معينة ويطويها ويضعها في جيبه ويخرج تكاسلاً عن نسخها! وهذه جريمة اختلاس منحطة ووضيعة.
وبعضهم لا يجد غضاضة أن يتحدث ويقهقه بجواله في قلب قاعة البحث والناس يرمقونه بأبصارهم كالقائل اخفض صوتك وتحدث خارج القاعة، وهو يناكف نظراتهم المتوسلة ويواصل حديثه الهاتفي الجهوري بكل فجاجة، ويشعر أن مغادرته القاعة لمواصلة اتصاله الهاتفي نوع انكسار لا يليق بكرامته!
هذه تباريح بحثية اقتضاها الخاطر المكدود، وليست ورقة منظمة في موضوع (المكتبات العامة: الواقع والمأمول)، فليت المتخصصين يطرحون ورش عمل في هذا الموضوع فائق الأهمية.
جُعِلْت فداك .. وهل تبنى المجتمعات إلا بسواعد البحث العلمي؟!
والله أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه.
أبو عمر
ذي الحجة 1434ه