تأملات في هجرته صلى الله عليه وسلم إلى المدينة
عبدالله البرح - عضو الفريق العلمي
عناصر الخطبة:
1/مفهوم الهجرة وأقسامها 2/كيد قريش وفشل خطتهم 3/خطة الهجرة 4/معية الله لنبيه صلى الله عليه وسلم وصاحبه 5/شوق الأنصار لقدوم المختار صلى الله عليه وسلم 6/دروس وعبر من هجرة خير البشر.
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه، ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ)[آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب: 70-71]، أما بعد:
معاشر المسلمين: أشرقت شمس رسالة الإسلام وبعثة خير الأنام عليه الصلاة والسلام في مكة المكرمة؛ فكذب بها زعماء قريش ورموزها حسدا وغيظا، وبذلوا ما بوسعهم بغية إطفاء هذا النور الذي جاء ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد ومن الجهل إلى العلم ومن الظلم إلى العدل؛ وأنَّى لهم أن يتحقق ما أراوده وسعوا لأجله؛ فإرادة الله -سبحانه- فوق إرادتهم، ولن يمضي إلا ما أراده -تبارك وتعالى-؛ فهو القائل: (يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ)[التوبة:32- 33].
ولما عجز أعداء الإسلام عن إيقاف دعوته وطمس نوره؛ لجأوا إلى التكذيب بها والأذى والتعذيب لمن سلك سبيلها واتبع رسولها الأمين -صلى الله عليه وسلم-؛ فاشتد البلاء على الثلة المؤمنة المستضعفة في مكة المكرمة فأذن الله لنبيه -صلى الله عليه وسلم- ومن آمن معه بالهجرة إلى المدينة المنورة، ووعدهم -سبحانه- بالأجر العظيم في الدنيا والآخرة فقال -تعالى-: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)[النحل:41].
وحقيقة الهجرة؛ الانتقال من دار الكفر إلى دار الإسلام والإقامة فيه، والفرار بالدين والحفاظ عليه.
والهجرة هجرتان:
هجرة قلبية إلى الله بعبادته وحده لا شريك له، وهجرة إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم- باتباعه وفعل ما أمر به، وترك ما نهى عنه؛ كما قال -صلى الله عليه وسلم- "والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه"(رواه البخاري)، وهذه الهجرة ملازمة للمسلم لا يتركها طوال حياته.
والهجرة الثانية: هجرة بدنية وهذه الهجرة هي؛ الهجرة من بلاد الشرك إلى بلاد الإسلام وهذه الهجرة تفعل عند الحاجة إليها إذا لم يستطع المسلم إظهار دينه في بلاد الكفر قال -تعالى-: (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا)[النساء: 100].
أيها المؤمنون: ولما قرر الرسول -صلى الله عليه وسلم- الهجرة أراد المشركون منعه مخافة أن تقوى شوكته، ويظهر دينه ويتغلب عليهم؛ فاجتمعوا وتشاوروا في شأنه فاتفق رأيهم على قتله، واجتمعوا عند بابه ينتظرون خروجه ليقتلوه فأخبر الله نبيه بمكيدتهم قال -تعالى-: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[الأنفال: 30]؛ فأبطل الله مكرهم وكيدهم.
وفي هجرته -صلوات ربي وسلامه عليه- تجلت صفة القائد الأعظم في التخطيط الدقيق لهجرته وصاحبه الصديق-رضي الله عنه-؛ فأمر عليًا -رضي الله عنه- أن ينام على فراشه وخرج من بينهم، ولم يشعروا به قال -تعالى-: (وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ)[يس: 9].
وذهب إلى أبى بكر -رضي الله عنه- ففرح وأعد راحلتين للسفر، واستأجر دليلًا فخرجا من مكة متخفيين، وذهبا إلى غار ثور ودخلاه واختفيا فيه ودفعا الراحلتين للدليل وواعداه أن يأتي بهما في وقت محدد، وجعلا عبد الله بن أبي بكر يأتيهما بأخبار المشركين، وكان عامر بن فهيرة مولى أبي بكر يرعى غنمًا ويمر بها عليهما فيحلبان من لبنها، وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما بالطعام خفية في المساء، فلبثا في الغار ثلاثة أيام حتى انقطع الطلب فجاء الدليل بالراحلتين على الميعاد فركبا وتوجها إلى المدينة المنورة.
وبينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مع الصديق ودليهما عبدالله ابن أريقط في الطريق إلى المدينة مروا بخيمة أم معبد؛ وطلبوا منها أن يشتروا منها لحماً ولبناً؛ فاعتذرت لهم وأخبرتهم أن زوجها قد ذهب بالغنم إلى المرعى بعيداً، ولم يبق عندها إلا شاة هزيلة، قد جف ضرعها، وخارت قوتها؛ فهي لا تلحق بأخواتها؛ فنظر النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى الشاة، فقال: "هل بها من لبن؟", قالت: هي أجهدُ من ذلك، فقال النبي: "يا أم معبد أتأذنين لي أن أَحْلِبَها؟", قالت: نعم، إنْ رأيتَ بها حَلْبَاً فَاحْلِبْهَا؛ فمسح النبي -صلى الله عليه وسلم- بيده الشريفة ضرع الشاة التي عجفت من القلَّة والجدْب، وسمَّى اللَّه، ودعا لأم معبد في شاتها؛ فتفاجَّت الشاة عليه -أي: فتحت ما بين رجليها للحلْب-؛ فدرّت واجترّت، ثم طلب منها إناءً، ثم حلب فيه حتى امتلأ عن آخره، وقدَّمه إليها فشربت حتى رويت، ثم سقى أصحابه حتى رَوُوا، وشرب آخرهم، ثم حلب ثانياً، وتركه عندها، وارتحلوا عنها".
قالت أسماء بنت أبي بكر -رضي الله عنهما-: "مكثنا ثلاث ليال لا ندري أين توجه رسول الله -صلى الله عليه و سلم-؟ إذ أقبل رجل من الجن من أسفل مكة يتغنى بأبيات غناء العرب والناس يتبعونه ويسمعون منه ولا يرونه حتى خرج من أعلى مكة فعرفنا أين توجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".
جزى الله رب الناس خير جزائه *** رفيقين حلا خيمتي أم معبد
هما نزلا بالبر وارتحلا به *** فأفلح من أمسى رفيق محمد
فيا لقصي ما زوى الله عنكم *** به من فعال لا يجازى وسؤدد
وقد غادرت وهنا لديها بحالب *** يرد بها في مصدر ثم يورد
سلوا أختكم عن شاتها وإنائها *** فإنكم إن تسألوا الشاة تشهد
دعاها بشاة حائل فتحلبت *** له بصريح ضرة الشاة مزبد
ليهن أبا بكر سعادة جده *** بصحبته من يسعد الله يسعد
ويهن بني كعب مكان فتاتهم *** ويقعدها للمؤمنين بمرصد
وكان الأنصار -رضي الله عنهم- ينتظرون قدومه بفارغ الصبر كل يوم، إلى أن وصل بسلامة الله وحفظه إلى المدينة، وهناك أقام النبي الكريم دولة الإسلام، وأمر الله رسوله بالجهاد لإعلاء كلمة الله وإظهار دينه، فواصل -صلى الله عليه وسلم- الغزوات والسرايا حتى نصره الله وأظهر دينه.
فيا خيبة من هاجر من بين أظهرهم خير البرية وأزكى البشرية، ويا سعادة من نزل بينهم، ورضي الله عن شاعر الرسول حسان بن ثابت حيث قال:
لقد خاب قوم زال عنهم نبيهم *** وقدس من يسري إليه ويغتدي
ترحل عن قوم فزالت عقولهم *** وحل على قوم بنور مجدد
هداهم به بعد الضلالة ربهم *** وأرشدهم من يتبع الحق يرشد
وقد نزلت منه على أهل يثرب *** ركاب هدى حلت عليهم بأسعد
نبي يرى ما لا يرى الناس حوله *** ويتلو كتاب الله في كل مشهد
وإن قال في يوم مقالة غائب *** فتصديقها في ضحوة اليوم أوغد
أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده أما بعد:
عباد الله: لقد كان في هجرة الرسول -صلى الله عليه وسلم- الكثير من الدروس والعبر ولعلنا نذكر ملخصا لها في هذا المقام فمنها:
أن الله أذن لعباده المستضعفين بالهجرة ومفارقة درياهم إلى بلد يأمنون فيها على دينهم وحياتهم.
ومن الدروس: وجوب الأخذ بالأسباب وأخذ جميع الاحتياطات، وأن ذلك لا ينافي التوكل على الله والاعتماد عليه.
ومنها: بقاء سيدنا علي -رضي الله عنه- على فراش الرسول -صلى الله عليه وسلم- ليلة الهجرة يدل على إيمانه وشجاعته، ويدل على جواز خداع العدو فالحرب خدعة.
ومن دروس الهجرة: أن الله -تعالى- أجرى معجزات كثيرة على يد رسوله -صلى الله عليه وسلم- أثناء الهجرة لينصره ويمكن له من الأرض.
ومن الدروس: فضل أبي بكر الصديق وأسرته الكريمة في نجاح الهجرة.
عباد الله: هكذا كانت هجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نصرة لدين الله وإعلاء لكلمته، ولم يكن القصد منها الرفاهية وراحة البدن والتنعم، وهكذا ينبغي أن تكون هجرة المؤمنين إلى آخر الزمان.
وما أجمل قول الشاعر وهو يصف هجرة المصطفى -صلى الله عليه وسلم-:
هاجرت يا خير خلق الله قاطبةً *** من مكةً بعد ما زاد الأذى فيها
هاجرت لما رأيت الناس في ظلم *** وكنت بدرا منيراً في دياجيها
هاجرت لما رأيت الجهل منتشراً *** والشر والكفر قد عمّا بواديها
هاجرت لله تطوي البيد مصطحبا ً*** خلاً وفياً كريم النفس هاديها
هو الإمام أبو بكر وقصته *** رب السماوات في القرآن يرويها
يقول في الغار لا تحزن لصاحبه *** فحسبنا الله ما أسمى معانيها
هاجرت يا سيد الأكوان متجهاً *** نحو المدينة داراً كنت تبغيها
هذي المدينة قد لاحت طلائعها *** والبشر من أهلها يعلو نواصيها
أيها المسلمون: والهجرة من بلد الكفر إلى بلد الإسلام باقية إلى أن تطلع الشمس من مغربها لمن لا يستطع إظهار دينه في بلد الكفر؛ وإظهار الدين معناه الجهر به والدعوة إليه وبيان بطلان ما عليه الكفار وأعداء الدين، وليس معنى إظهار الدين أن يترك الإنسان يصلي ويتعبد ويسكت عن الدعوة إلى الله وإنكار الشرك والكفر؛ إذ لو كان الأمر كذلك لبقي النبي -صلى الله عليه وسلم- بمكة لأن المشركين لم يمنعوه من أن يصلي ويتعبد ولكنهم منعوه من الدعوة إلى الله وإبطال ما عليه الكفار والمشركون.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].
اللهم إنا نسألك الهجرة من معصيتك إلى طاعتك، ومن البدعة إلى التمسك بكتابك وسنة نبيك.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.