تأملات في سيرة أبي هريرة رضي الله عنه (2)

طلال شنيف الصبحي
1438/08/14 - 2017/05/10 17:01PM
تأملات في سيرة أبي هريرة رضي الله عنه (2) 16 / 8 / 1438ه
إن الحمد لله،نحمدُه ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا،من يهْدِ اللهُ فلا مضِلَّ له ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تَبِعَهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.أما بعد﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
عباد الله:كنا قد وقفنا معكم في الخطبة الماضية عن سيرة الصحابي الجليل أبو هريرة عبدِ الرَّحمنِ بنِ صخْرٍ الدَّوسيt وعرفنا جانباً من حياته العلمية وكيف كان حفظه وإتقانه لأحاديث الرسول r رغم ما كان يعيشه t من فقر وجوع وشظفٍ في العيش لكن كل ذلك لم يمنعه t من ملازمة رسول الله r والأخذ عنه حتى بلغ منزلة رفيعة في الإسلام وحفظ لهذه الأمة أحاديث نبيها r وهنا وقفة أيها الأحبة فأبو هريرة t لم يكن يملك شيئاً من حطام هذه الدنيا الفانية لم يكن يملك بيتاً ولا داراً ولا مالاً لا يملك إلا الرداء الذي يكسوه ومع ذلك فقد خلد اسمه في التاريخ وحفظ اسمه الصغير قبل الكبير وترضى عليه عوام المسلمين قبل علمائهم, بل لا يسمع بأبي هريرة t مؤمن إلا أحبه كما جاء ذلك في الحديث الذي روى مسلم عن أبي كثير يزيد بن عبد الرحمن قال: حدثني أبو هريرة قال:والله ما خلق الله مؤمنا يسمع بي ولا يراني إلا أحبني. عباد الله: لقد حصَّل أبو هريرة t هذا العلم الزاخر بخصلتين كانتا فيه, لقد كان t ذا لسانٍ سَؤولٍ وقلبٍ عَقولٍ أما لسانهُ السَّؤول فيدلُّ عليه ما رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قلت:يا رسول الله من أسعدُ الناس بشفاعتِك؟قال:لقد ظننت يا أبا هريرة ألَّا يسألني عن هذا الحديث أحدٌ أوّلَ منك لِما رأيت من حرصك على الحديث:"إنَّ أسعدَ الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال : لا إله إلَّا الله خالصاً من نفسه "وأما قلبُهُ العَقول فيدل عليه سعةُ حفظه وفهمه وإدراكه،ومن ذلك ما رواه الحاكم وصححه عن أبي الزعيزعة-كاتب مروان أمير المدينة–قال:أرسل مروان إلى أبي هريرة فجعل يسأله وجعلني خلف السرير،وأنا أكتب،حتى إذا كان رأسُ الحَول(أي بعد سنة)دعا به فأقعدَهُ من وراء الحجاب،فجعل يسأله عن ذلك الكتاب،فما زاد ولا نقص،ولا قدَّم ولا أخَّر
قال الذهبي رحمه الله بعدما أوردَ هذه الحكاية:هكذا فليكن الحفظ .وقال الشافعي:أبو هريرة أحفظُ من روى ا لحديث في دَهرِه، وأخرج الحاكم في المستدرك أنه قيل لابن عمر رضي الله عنهما:هل تُنكرُ مما يحدث بهِ أبو هريرةَ شيئاً؟فقـال:لا،ولكنه اجتَرأ وجَبُـنَّا،
وقد ذكر الذهبي رحمه الله في ترجمته لأبي هريرة t حكاية ساقها بسند قال عنه:كلُّه إسنادٌ بأئِمةٍ ثقات،عن القاضي أبي الطيب قال:كنا في مجلسِ النَظَر بجامع المنصور،فجاء شابٌّ خراساني فسألَ عن مسألةِ الـمُصَرَّاةِ (والمصراةُ هي الناقة أو البقرة أو الشاة تُحبس عن الحَلْب أياماً حتى يكبُر ضَرعُها ثم تباع ليظن المشتري أنها دارّة كثيرة اللَّبن) قال:فأجيب عن سؤاله،فطالب بالدليل،فأسْندَ الناسُ حديثَ أبي هريرة الواردَ فيها،فقال الشاب وكان حنفيا مُتعصباً: أبو هريرة غيرُ مقبولِ الحديث،فما استتَمَّ كلامَه حتى سقطَ عليه حيةٌ عظيمةٌ من سقف الجامع،فوثبَ الناسُ من أجلها وهرب الشاب منها وهي تتبعه،فقيل له:تُبْ .تُبْ،فقال:تُبْتُ،فغابت الحيَّةُ،فلم تتركْ أثَراً" (إنَّ اللهَ يُدافِعُ عنِ الَّذينَ آمنوا إنَّ اللهَ لا يحبُّ كلَّ مُختالٍ فَخُور) قالr"لا تَسُبُّوا أصحابي واللهِ لَو أنَّ أحدَكم أنفقَ مثلَ أُحُدٍ ذهباً،ما بلغَ مُدَّ أحدِهِم ولا نَصِيفَه"رواه البخاري ومسلم. بارك الله لي ولم
الخطبة الثانية:
عباد الله:وقد يقول قائل هل كان لهذا العلم الذي حازه أبو هريرة t والحفظ لأحاديث رسول الله r أثر في عبادته t لربه وخشيته وخوفه من الله؟ والإجابة واضحة وصريحة في كتاب الله عز وجل (إنما يخشى الله من عباده العلماء) فلا بُدَّ لعبدٍ قد فتحَ اللهُ تعالى عليه هذا الفتحَ العظيم،من العلمِ الواسع،والسُّمعةِ والشُّهرةِ عند القاصي والداني،لا بـُد لهذا العبد من معاملةٍ خفيَّةٍ،عبادةٍ بينَه وبينَ ربِّه عزَّ وجل،يحفظُ بها هذه النِّعم (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُم لَئِن شَكَرْتُم لَأَزِيدَنَّكُم)فكيف كانت عبادَتُه t ؟!
قال أبو عُثمان النَّهْدي: تَضَيَّفتُ أبا هريرة سَبعاً فكان هو،وامرأَتُه،وخادِمُه،يعْتَقِبون اللَّيلَ أثلاثاً:يصلي هذا،ثم يوقَظُ هذا فيصلي،ثم يوقَظُ الثالث.وقال عكرمة:كان أبو هريرة t يسبِّح كلَّ يوم اثنتي عشرة ألف تسبيحةٍ ويقول:أُسبِّح بقدر دِيَتي أفتَكُّ بها نفسي من النار.وكان t يصوم الاثنين والخميس وكان متصدِّقاً مِعطاءً،حتى إنَّ مروان بنَ الحكم بعث إليه مِائةَ دينارٍ ذهباً،فلم يبت وعنده منها شيء. وكان t شديد البر بأمه قال t:إن أمي كانت امرأة مشركة،وإني كنت أدعوها إلى الإسلام وكانت تأبى علي،فدعوتها يوما فأسمعتني في رسول الله r ما أكره،فأتيت رسول الله r وأنا أبكي،قلت:يا رسول الله إني كنت أدعو أمي إلى الإسلام فتأبى علي،فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره،فادع الله أن يهدي أم أبي هريرة،فقال رسول الله r «اللهم اهد أم أبي هريرة»فخرجت مستبشرا بدعوة نبي الله r،فلما جئت فصرت إلى الباب،فإذا هو مجاف، فسمِعَت أمي خشف قدمي،فقالت:مكانك يا أبا هريرة وسمعت خضخضة الماء،قال:فاغتسلت ولبست درعها وعجلت عن خمارها،ففتحت الباب،ثم قالت:يا أبا هريرة أشهد أن لا إله إلا الله،وأشهد أن محمدا عبده ورسوله،قال:فرجعت إلى رسول الله rفأتيته وأنا أبكي من الفرح،قال:قلت:يا رسول الله أبشر قد استجاب الله دعوتك وهدى أم أبي هريرة،فحمد الله وأثنى عليه وقال خيراً،قال:قلت:يا رسول الله ادع الله أن يحببني أنا وأمي إلى عباده المؤمنين،ويحببهم إلينا،قال:فقال رسول الله r«اللهم حبب عُبيدك هذا- يعني أبا هريرة-وأمه إلى عبادك المؤمنين،وحبب إليهم المؤمنين»فما خلقٌ مؤمنٌ يسمع بي ولا يراني إلا أحبني. ونادته أمه يوماً:يا أبا هريرة..فصرخ:لبيكِ..فشعر أن صوته أرفع من صوتها وأنه نهَرها..فاشترى عبدين وأعتقهما توبة من ذلك.
ومع ما كان عليه tمن التقوى والعبادة والعلم والفضل فقد كان شديد الخوف من الله تعالى وشديد التأثر بأحاديث الرسولr ومن ذلك ما أخرجه الإمام الترمذي في سننه بسنده عن عقبة بن مسلم أن شفيا الأصبحي حدثه:أنه دخل المدينة،فإذا هو برجل قد اجتمع عليه الناس،فقال:من هذا؟فقالوا:أبو هريرة،فدنوت منه حتى قعدت بين يديه وهو يحدث الناس،فلما سكت وخلا قلت له:أنشدك بحق وبحق لما حدثتني حديثاً سمعته من رسول الله rعقلته وعلمته،فقال أبو هريرة:افعل،لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله rعقلته وعلمته،ثم نشغ أبو هريرة نشغة –أيْ:شَهِقَ ثُمَّ أُغمِيَ علِيهِ-فمكثنا قليلاً ثم أفاق،فقال:لأحدثنك حديثاً حدثنيه رسول الله rفي هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره،ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة،ثم أفاق ومسح وجهه،وقال:أفعل،لأحدثنك حديثا حدثنيه رسول الله r وأنا وهو في هذا البيت ما معنا أحد غيري وغيره،ثم نشغ أبو هريرة نشغة شديدة،ثم مال خاراً على وجهه،فأسندته طويلاً ثم أفاق فقال:حدثني رسول الله r.ثم ساق الحديث.
عباد الله:ومع كلُّ ذلك لما نزل به الموتُ بكى فقيل:ما يُبكيكَ؟قال:ما أبكي على دنياكم هذه،ولكن على بُعدِ سفري وقِلَّةِ زادي وأني أمسيتُ في صُعود مَهبِطُه على جَنَّة أو نار،فلا أدري إلى أيِّهِما يُؤخَذُ بـي. وكان يقول في مرضِ موتهِ :اللهم إني أُحِبُّ لِقاءَك فأَحِبَّ لِقَائي.اللهم إنا نسألك أنْ تجمَعَنا بنَبِيِّك محمدٍ r وأصحابهِ في جنَّتِك يا ربَّ العالمين
المرفقات

تأملات في سيرة أبي هريرة رضي الله عنه 2.docx

تأملات في سيرة أبي هريرة رضي الله عنه 2.docx

المشاهدات 1075 | التعليقات 0