تأملات في سيرة أبي هريرة رضي الله عنه (1)

طلال شنيف الصبحي
1438/08/08 - 2017/05/04 20:33PM
تأملات في سيرة أبي هريرة رضي الله عنه (1) 9 / 8 / 1438ه (مختصرة من خطبة الشيخ محمد العريفي, مع تصرف يسير)
إن الحمد لله،نحمدُه ونستعينه ونستغفره ونستهديه ونعوذُ بالله من شرورِ أنفسنا ومن سيئاتِ أعمالنا،من يهْدِ اللهُ فلا مضِلَّ له ومن يضلل فلا هادي له.وأشهد أنْ لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له وأشهد أنَّ محمداً عبدُه ورسولُه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تَبِعَهم بإحسانٍ وسلَّم تسليمًا كثيرًا إلى يوم الدين.أما بعد﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾
عباد الله:إنَّ لكلِّ أمَّةٍ عُظَماءَ تفخرُ بهم وتنشرُ سيرتَهم،وأعظمُ عظماءَ هذهِ الأمَّة:رسولُ اللهِ ،يقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ:(محمدٌ رسولُ اللهِ والَّذينَ معَهُ أشِدَّاءُ على الكفارِ رُحماءُ بينهم)فأثْنَى سبحانهُ على أصحابِ نبيِّهِ ومدحَهم؛لأنهم القدوةُ لمن أرادَ الاقتداءَ والسراجُ لمن أرادَ الاهتداء،ونقفُ في هذه الجمعة والتي تليها إن شاء الله مع سيرةِ عَلَمٍ من هؤُلاءِ الأعلامِ،يحفظُ اسمَهُ الصغيرُ قبلَ الكبيرِ،ويعرفهُ عوامُّ المسلمين قبل علمائهم،نقف ُمعَ الإمامِ الفقيهِ،المجتهدِ الحافظِ،بل مع سيِّدِ الحفَّاظِ الأثباتِ، صاحبِ رسولِ اللهِ مع أبي هريرةَ عبدِ الرَّحمنِ بنِ صخْرٍ الدَّوسي .
إنَّ من يتأملُ مسارَ حياتهِ،وينظرُ في إسلامهِ وطلبهِ للعلم،يجدُ عجباً من العَجب.يجدُ رجلاً لا كالرجالِ، جمعَ إمامةَ العلمِ،مع إمامةِ الحفظِ،مع إمامةِ الجهادِ،والصدَقةِ والصيامِ والقيامِ،والأمرِ بالمعروفِ والنهيِ عن المنكر.ومع أنَّ أبا هريرةَ أسلمَ متأخِّراً وما صاحبَ رسولَ الله  إلا أربعَ سنواتٍ فقط إلّا أنه سبقَ فِئاماً أسلموا قبله،وذلك فضلُ اللهِ يؤتيهِ من يشاء.كان اسمهُ في الجاهليةِ عبدَ شمسٍ فسماهُ النبيُّ عبدَ الرحمن وقيلَ سماهُ عبدَ الله.واشتُهر بكنيتهِ أبو هريرة؛وذلك لأنه وجد هِرَّةً بريَّةً فأخذها وربَّاها، فاشتُهر بها،وكانيسميهِ أبا هِرْ ويقول له:الذَّكرُ خيرٌ من الأنثى،رواها الحاكم في المستدرك.
أبو هريرة ،حمل عن النبي  علماً كثيراً طيباً مباركاً فيه لم يُلْحق في كثرتهِ،حتى بلغَ ما رواه من الأحاديثِ خمسةَ آلافٍ وثلاثَمائةٍ وأربعةً وسبعين حديثاً،كما ذكر الحافظ الذهبي رحمه الله.وروى عنه خلقٌ كثيرٌ من الصحابةِ،والتابعينَ وحتى بلغ عددُ أصحابه ثمانُمائةٍ، كلهم يَغرِفونَ من بحرهِ،وَيَرِدُونَ حوضه.
أسلم  في السنة السابعة للهجرة وعمره يزيدُ عن الثلاثين بقليل،ومنذُ أسلم لازمَ رسولَ الله  في مدخله ومخرجه ومسجده،وجميع مجالسه،فلا عجب أن يكون بهذه الملازمةِ أكثرَ الصحابة روايةً عن رسول الله .
وقد حدَّث عن نفسه فقال:إنكم تقولون:إنَّ أبا هريرة يكثرُ الحديثَ عن رسول الله وتقولون:ما للمهاجرين والأنصار لا يحدِّثون مثله‍‍!وإنَّ إخواني من المهاجرين كان يَشغلُهم الصفْقُ بالأسواق،وكان إخواني من الأنصار يشغلهم عملُ أموالهم،وكنت امرأً مسكيناً من مساكين الصُّفة،ألزمُ رسولَ الله على مَلءِ بطني، فأحضُر حين يغيبون،وأعي حين ينسون،ثم قال:وإنَّ رسول الله قال:ألا تسألني من هذه الغنائم التي يسألُني أصحابُك؟قلت:أسألُك أن تعلمني مما علمك الله،فنزعَ نـَمِرَةً كانت على ظهري، فبسَطها بيني وبينه،حتى كأنّي أنظرُ إلى القملِ يدُبُّ عليها،فحدثني حتى إذا استوعبتُ حديثَه،قال اجمعها فَصُرْها إليك،ففعلت فَوَالَّذِي بَعَثَهُ بِالحَقِّ مَا نَسِيتُ شَيْئًا سَمِعْتُهُ مِنْهُ.رواه البخاري.
وأخرج الترمذي وحسّنه أن رجلاً جاء إلى طلحةَ بنِ عبيدِ الله فقال:يا أبا محمد،أرأيتَ هذا اليماني–يعني أبا هريرة– أهوَ أعلمُ بحديثِ رسولِ الله  منكم؟نسمعُ منه أشياءَ لا نسمعُها منكم،أم هو يقول على رسول الله ما لم يقُل؟فقال طلحةُ:أمَّا أن يكون سمع مالم نسمع فلا أشكُّ،سأحدِّثك عن ذلك:إنا كنا أهلَ بيوتاتٍ وغَنَمٍ وعمل، كنا نأتي رسول الله  طرفي النهار،وكان مِسكيناً،ضَيفاً على باب رسول الله يدُه مع يدِه،فلا نشكُّ أنه سمع ما لم نسمع،ولا تجدُ أحداً فيه خيرٌ يقول على رسول اللهما لم يقل.
اللهم ارضَ عن أصحابِ نبيِّكَ وأَرضِهم يا ذا الجلال والإكرام. بارك الله لي ولكم.
الخطبة الثانية:
عباد الله ولم يبلغ أبو هريرة  هذه الرُّتبةَ العظيمةَ من الرواية والدِّراية إلَّا بالتَّعبِ والجوعِ والنصَبِ،وصَدَقَ القائلُ:لا تحسبن المجد تمراً أنت آكله/لَنْ تَبْلُغَ الـمَـجْدَ حتَّى تلْعَقَ الصَّبـِرَ.
ولقد حدَّثَ عن شيءٍ من الشدَّةِ التي لَقِيَها في ذلك.فعن محمد بن سيرين،قال كنا عند أبي هريرة وعليه ثوبان ممشقان من كتان فتمخط فقال بخ بخ أبو هريرة يتمخط في الكتان:لَقَدْ رَأيْتُنِي وَإنِّي لأَخِرُّ فِيمَا بَيْنَ مِنْبَرِ رسولِ الله  إِلَى حُجْرَةِ عائِشَةَ رضي الله عنها مَغْشِيًّا عَلَيَّ،فَيَجِيءُ الجَائِي،فَيَضَعُ رِجْلَهُ عَلَى عُنُقِي،وَيَرَى أنِّي مَجْنُونٌ وَمَا بِي مِنْ جُنُونٍ،مَا بِي إلا الْجُوعُ.رواه البخاري.وروى مُجَاهِدٌ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كان يقول آلله الذي لَا إِلَهَ إلا هو إن كنت لَأَعْتَمِدُ بِكَبِدِي على الأرض من الْجُوعِ وَإِنْ كنت لَأَشُدُّ الْحَجَرَ على بَطْنِي من الْجُوعِ.وَلَقَدْ قَعَدْتُ يَوْمًا على طَرِيقِهِمْ الذي يَخْرُجُونَ منه فَمَرَّ أبو بَكْرٍ فَسَأَلْتُهُ عن آيَةٍ من كِتَابِ اللَّهِ ما سَأَلْتُهُ إلا لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ ولم يَفْعَلْ ثُمَّ مَرَّ بِي عُمَرُ فَسَأَلْتُهُ عن آيَةٍ من كِتَابِ اللَّهِ ما سَأَلْتُهُ إلا لِيُشْبِعَنِي فَمَرَّ ولم يَفْعَلْ.ثُمَّ مَرَّ بِي أبو الْقَاسِمِفَتَبَسَّمَ حين رَآنِي وَعَرَفَ ما في نَفْسِي وما في وَجْهِي ثُمَّ قال يا أَبَا هِرٍّ! قلت: لَبَّيْكَ يا رَسُولَ اللَّهِ،قال(الْحَقْ)وَمَضَى فَتَبِعْتُهُ،فَدَخَلَ فأستأذن فَأَذِنَ لي،فَدَخَلَ فَوَجَدَ لَبَنًا في قَدَحٍ،فقال من أَيْنَ هذا اللَّبَنُ قالوا أَهْدَاهُ لك فُلَانٌ أو فُلَانَة.قال(أَبَا هِرٍّ)!قلت:لَبَّيْكَ يا رَسُولَ اللَّهِ،قال(الْحَقْ إلى أَهْلِ الصُّفَّةِ فَادْعُهُمْ لي قال وَأَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ الْإِسْلَامِ لَا يَأْوُونَ على أَهْلٍ ولا مَالٍ ولا على أَحَدٍ، إذا أَتَتْهُ صَدَقَةٌ بَعَثَ بها إِلَيْهِمْ ولم يَتَنَاوَلْ منها شيئا،وإذا أَتَتْهُ هَدِيَّةٌ أَرْسَلَ إِلَيْهِمْ وَأَصَابَ منها وَأَشْرَكَهُمْ فيها.فَسَاءَنِي ذلك فقلت وما هذا اللَّبَنُ في أَهْلِ الصُّفَّةِ؟ كنت أَحَقُّ أنا أَنْ أُصِيبَ من هذا اللَّبَنِ شَرْبَةً أَتَقَوَّى بها،فإذا جاء أَمَرَنِي فَكُنْتُ أنا أُعْطِيهِمْ وما عَسَى أَنْ يَبْلُغَنِي من هذا اللَّبَنِ ولم يَكُنْ من طَاعَةِ اللَّهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ  بُدٌّ.فَأَتَيْتُهُمْ فَدَعَوْتُهُمْ فَأَقْبَلُوا فَاسْتَأْذَنُوا فَأَذِنَ لهم،وَأَخَذُوا مَجَالِسَهُمْ من الْبَيْتِ،قال:(يا أَبَا هِرٍّ)قلت:لَبَّيْكَ يا رَسُولَ اللَّهِ،قال:(خُذْ فَأَعْطِهِمْ)قال فَأَخَذْتُ الْقَدَحَ فَجَعَلْتُ أُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حتى يَرْوَى،ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَأُعْطِيهِ الرَّجُلَ فَيَشْرَبُ حتى،يروي ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ فَيَشْرَبُ حتى يروي، ثُمَّ يَرُدُّ عَلَيَّ الْقَدَحَ حتى انْتَهَيْتُ إلى النبي وقد روى الْقَوْمُ كلهم.فَأَخَذَ الْقَدَحَ فَوَضَعَهُ على يَدِهِ،فَنَظَرَ إلي فَتَبَسَّمَ،فقال:(أَبَا هِرٍّ) قلت:لَبَّيْكَ يا رَسُولَ اللَّهِ،قال:(بَقِيتُ أنا وَأَنْتَ) قلت:صَدَقْتَ يا رَسُولَ اللَّهِ،قال:(اقْعُدْ فَاشْرَبْ)فَقَعَدْتُ فَشَرِبْتُ،فقال:(اشْرَبْ) فَشَرِبْتُ،فما زَالَ يقول:(اشْرَبْ)حتى قلت:لَا وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ ما أَجِدُ له مَسْلَكًا،قال:(فَأَرِنِي)فَأَعْطَيْتُهُ الْقَدَحَ فَحَمِدَ اللَّهَ وَسَمَّى وَشَرِبَ الْفَضْلَةَ"رواه البخاري.ونكمل هذه السيرة العطرة لهذا الصحابي الجليل في الجمعة القادمة إن شاء الله. هذا وصلوا وسلموا على رسول الله
المرفقات

تأملات في سيرة أبي هريرة رضي الله عنه 1.docx

تأملات في سيرة أبي هريرة رضي الله عنه 1.docx

المشاهدات 609 | التعليقات 0