تأملات في سورة العصر

مبارك العشوان
1437/06/22 - 2016/03/31 21:26PM
إن الحمد لله…أما بعد: فاتقوا الله تعالى أيها الناس وأطيعوه وحاذروا غضبه ولا تعصوه؛ { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ }
عباد الله: سورة من كتاب ربنا جل وعلا، وجيزة ألفاظها، غزيرة معانيها، ثلاث آيات؛ حوت الخير كله، خير الدنيا وخير الآخرة مما جعل الإمام الشافعي رحمه الله يقول عنها: لو ما أنزل الله حجة على خلقه إلا هذه السورة لكفتهم.
نتدارس اليوم شيئا من فوائد هذه السورة، ونسأله تعالى أن يعلمنا من كتابه ما جهلنا، ويذكرنا منه ما نُسِّينا، وأن يرزقنا تلاوته آناء الليل والنهار على الوجه الذي يرضيه عنا.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم:
{ وَالْعَصْرِ، إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ، إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ }
أقسم الله تبارك وتعالى هنا بالعصر؛ وفي مواضع أخر أقسم بغيره؛ قال تعالى: { وَالْفَجْرِ، وَلَيَالٍ عَشْرٍ، وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ، وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ } الفجر 1- 5 { وَالضُّحَى، وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى } { وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا، وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا وَالسَّمَاء وَمَا بَنَاهَا، وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا، وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا }
{ وَالسَّمَاء ذَاتِ الْبُرُوجِ، وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ، وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ }
{ وَالسَّمَاء وَالطَّارِقِ } { وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا، فَالْحَامِلاتِ وِقْرًا فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا، فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا } { وَالطُّورِ، وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ فِي رَقٍّ مَّنشُورٍ، وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ، وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ، وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ } { وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ، وَطُورِ سِينِينَ، وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِيــنِ } وأقسم بالنَّجْمِ إِذَا هَوَى، وبِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وبيوم القيامة.
وَقَسَمُ الخالق جل وعلا ببعض مخلوقاته كثيرٌ في القرآن الكريم.
والله جل وعلا يقسم بما شاء من مخلوقاته، أما المخلوق فليس له أن يقسم إلا بخالقه تبارك وتعالى؛ لا يجوز لأحد أن يحلف بوالديه، لا بأبيه، ولا بأمه، ولا بأولاده، لا يجوز لأحد ن يحلف بالذمة أو الأمانة، أو بالشرف أو بالكعبة، أو بالنبي أو بجاه النبي أو بجاه ولي، أو بحياة فلان؛ فكل هذا حلف بغير الله، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مَنْ حَلَفَ بِغَيْرِ اللَّهِ فَقَدْ كَفَرَ أَوْ أَشْرَك ) رواه الترمذي وصححه الألباني. ولما سمع صلى الله عليه وسلم رجلا يحلف بأبيه قال: ( ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفا فليحلف بالله وإلا فليصمت ) رواه البخاري.
وقد يتعلل البعض ويعتذر بأن لسانه قد تعود على مثل هذا، وأنه لا يقصد الشرك، فهذا لا يغني عنه ولا يعفيه أن يجاهد نفسه ويعود لسانه، ويتذكر عظيم الخطر في ذلك.
بارك الله لي ولكم ... وأقول ما تسمعون ...
الخطبة الثانية:
الحمد لله... أما بعد:
عباد الله: أقسم الله تعالى بالعصر، والعصر هو الوقت والزمان والدهر كله ليله ونهاره وصبحه ومساؤه.
وإقسام الله تبارك وتعالى به دليلُ عِظَمِهِ ومنزلته.
وقتك أيها المسلم هو حياتك؛ وحفظك له حفظٌ لحياتك، وتفريطك فيه وتضييعه تضييع لحياتك.
يقول الْحسن رحمه الله: إِنَّمَا أَنْتَ أَيَّامُ مَجْمُوعَةٌ، كُلَّمَا مَضَي يِوْمٌ مَضَى بَعْضُكَ. أ هـ
وقتك هو ما ينبغي أن تغتنمه وتهتم به غاية الاهتمام؛ ؛ كما وجه إلى هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ( اغْتَنِمْ خَمْسًا قَبْلَ خَمْسٍ: وذكر منها: ( شَبَابَكَ قَبْلَ هَرَمِكَ، وَفَرَاغَكَ قَبْلَ شُغْلِكَ وَحَيَاتَكَ قَبْلَ مَوْتِكَ ) وفي الحديث الآخر: ( لَا تَزُولُ قَدَمُ ابْنِ آدَمَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ خَمْسٍ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَ أَفْنَاهُ وَعَنْ شَبَابِهِ فِيمَ أَبْلَاهُ وَمَالِهِ ... ) الخ رواه الترمذي وصححه الألباني.
وفرةُ الوقت لديك أخي المسلم نعمةٌ من أجَلِّ النعم، ولذا جاء في الحديث: ( نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ )
حياة المسلم العاقل حياة جِدٍّ، حياة عمل ونشاط، لا غفلة فيها ولا ضياع؛ كلما فرغ من عمل شرع في آخر، كما قال الله عز وجل: { فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ } الشرح 7 قيل في تفسيرها: إذا فرغت من أعمالك فانصب لعمل آخر. وقال الشنقيطي رحمه الله عن هذه الآية: لم تترك للمسلم فراغا في وقته، لأنه إما في عمل للدنيا وإما في عمل للآخرة. وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال: إني لأكره لأحدكم أن يكون سبهللا، لا في عمل دنيا ولا دين.
حريٌّ بك أخي المسلم أن تستغل وقتك فيما يقربك إلى ربك، هي أيام من العمر، وسيُسأل عنها كل أحد؛ ولهذا حرص السلف رحمهم الله على أوقاتهم أشد الحرص، حتى قال الحسن البصري رحمه الله تعالى: أدركت أقواما كان أحدهم أشحَّ على عمره منه على درهمه، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي، نعوذ بالله من تناقص الأجل من غير زيادة في صالح العمل.
وقال بعض الحكماء: من أمضى يومه في غير حق قضاه، أو فرض أداه، أو مجد أثَّلهُ، أو حَمْدٍ حَصَّلَهُ، أو خير أسسه أو علم اقتبسه ؛ فقد عق يومَه وظلم نفسه.
أسأل الله تعالى أن يوفقنا لحفظ أوقاتنا، فيما يقربنا إلى رحمته ويباعدنا عن عذابه.
وللحديث عن هذه السورة العظيمة صلة في خطبة أخرى إن يسر الله.
عباد الله: { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }.
ثم صلوا وسلموا ...
المشاهدات 1590 | التعليقات 0