تأملات في سورة الزلزلة
إبراهيم بن سلطان العريفان
الحمد لله رب العالمين ...
إخوة الإيمان والعقيدة ... لقد أمرنا الله سبحانه وتعالى أن نقرأ القرآن الكريم، وأن نفهم معانِيَه، ونتدبره لندرك مَرَامِيه، فالمتدبر لآيات القرآن العظيم يزداد إيمانه، ويتضح له الطريق الموصلة إلى الله، وكلما كانت قراءة القرآن عن تدبر وتعقل كان وقعها في النفس أكبر، وكان لها أثر في سلوك الإنسان، ولما سئلت عائشة رضي الله عنها عن خلق رسول الله ﷺ قالت: كان خلقه القرآن. فكان ﷺ يتمثل القرآن منهجًا لحياته قراءةً وتدبرًا وتطبيقًا، قال ابن مسعود t: لا تهذوا القرآن هَذَّ الشعر، ولا تنثروه نثر الدقل، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب، ولا يكن هم أحدكم آخر السورة. وقال علي بن أبي طالب t: لا خير في قراءة لا تدبر معها.
أيها السلمون .. سوف نقضي معكم دقائق ولحظات من سورة عظيمة، نحرك بها القلوبَ، ونطهر بها النفوس، وتسمو فيها الأرواح، وتسعد بها الأفئدة، يقول الله تعالى ]إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا * يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[.
ففي هذه السورة (سورة الزلزلة) يخبرنا الله تبارك وتعالى عما يحدث يوم القيامة من أهوال ، فالأرض تتزلزل وترجف وترتج، حتى يسقط ما عليها من بناء وعلم ، وعندها تندك جبالها، وتسوى تلالها ]وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا[ فهذه الأرض التي نراها ساكنة ،ونمشي عليها هادئةً مستقرة بالجبال الرواسي، حتى إذا جاء يوم القيامة تُدَكُّ دَكًّا، كمال قال تعالى ]كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا[ فهذا إعلان بانتهاء الحياة الدنيا. تُزلزلُ الأرض زلزالها الذي لا يماثله أي زلزال آخر في شدته وعظمته وهوله ]يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ[.
وبعدها ]وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا[ أخرجت الأرض ما في بطنها، من الأموات ، ومن الكنوز، وغير ذلك ، قال رسول الله ﷺ (تَقِيءُ الأَرْضُ أَفْلاَذَ كَبِدِهَا أَمْثَالَ الأُسْطُوَانِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ، فَيَجِيءُ الْقَاتِلُ فَيَقُولُ فِي هَذَا قَتَلْتُ، وَيَجِيءُ الْقَاطِعُ فَيَقُولُ فِي هَذَا قَطَعْتُ رَحِمِي، وَيَجِيءُ السَّارِقُ فَيَقُولُ فِي هَذَا قُطِعَتْ يَدِى ثُمَّ يَدَعُونَهُ فَلاَ يَأْخُذُونَ مِنْهُ شَيْئًا) فإذا رأى الانسان ما حدث لهذه الأرض من الأمر العظيم، قال مستعظمًا لذلك ]مَا لَهَا[ ما الذي حدث للأرض، وأي شيء أصابها ، ولماذا اضطربت وارتجت؟ فيأتي الجواب ]يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا[ فالأرض تشهد على العاملين بما عملوا على ظهرها من خير وشر، تشهد على العباد بأعمالهم يوم القيامة، وذلك ]بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا[ فالله سبحانه هو الذي أمرها أن تخبر بما عُمل عليها، فليس للأرض أن تعصى أمر الله، فسوف تتكلم يوم القيامة وتُحدث وتنطق، قرأ رسول الله ﷺ ]يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا[ قَالَ (أَتَدْرُونَ مَا أَخْبَارُهَا!) قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ (فَإِنَّ أَخْبَارَهَا أَنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلِّ عَبْدٍ أَوْ أَمَةٍ بِمَا عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا أَنْ تَقُولَ عَمِلَ كَذَا وَكَذَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا) قَالَ (فَهَذِهِ أَخْبَارُهَا).
ثم نأتي إلى قوله تعالى ]يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ[ يسرعون إلى منازلهم من أرض الموقف، وحين يقضي الله بينهم، يصدرون ]أَشْتَاتًا[ فرقًا متفاوتين، ينصرفون من موقف الحساب أصنافًا متفرقين ]وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ[ لِمَ هذا التشتت والتفرق! ]لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ[ ليريهم الله ما عملوا من الحسنات والسيئات، ويريهم جزاءهم موفورًا، ينظر الناس إلى أعمالهم ، فالمحسن يرى ما أعده الله من النعيم، والمسيء يرى ما أعده الله له من العذاب المقيم ]فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ[ فإذا رأى مثقال الذرة، التي هي أحقر الأشياء - وجوزي عليها - فما فوق ذلك من باب أولى وأحرى ]يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا[ وهذه الآية غاية الترغيب في فعل الخير ولو قليلا، وغاية الترهيب من فعل الشر ولو حقيرًا.
وهذه الأعمال يجدها العبد مكتوبة في كتاب لا يضيع منه شيء ]وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا * اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا[ وقال تعالى ]وَنَضَعُ الموازين القِسطَ لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ[.
أقول ما تسمعون ....
الحمد لله رب العالمين ...
معاشر المؤمنين ... سورة الزلزلة سورةٌ تحرك القلوبَ لمن كان له قلب، فهي قليلةٌ ألفاظُها كثيرةٌ معانيها.
فليحذر العبدُ من معصية الله، لأنه على أرضه، وكل مكان من الأرض سيخبر بما عمل عليه من خير أو شر، فلا تحتقر شيئًا من العمل خيرًا كان أو شرًّا، قال رسول الله ﷺ (اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ) وقال رسول الله ﷺ (إِيَّاكُمْ وَمُحَقَّرَاتِ الذُّنُوبِ، فَإِنَّهُنَّ يَجْتَمِعْنَ عَلَى الرَّجُلِ حَتَّى يُهْلِكْنَهُ).
واعلموا أنكم مقبلون ليوم المعاد، فعلِّقوا قلوبكم بالدار الآخرة، ولا تنشغلوا بالدار الفانية، والعاقلُ من قدم الباقي على الفاني.
وصل اللهم على نبينا محمد