تأملات في سورة الحجرات«4»

أمير محمد محمد المدري
1438/04/26 - 2017/01/24 07:13AM
تأملات في سورة الحجرات«4»

الحمد لله الواحدُ، الأحد، الفردُ، الصمد، الذي يمهلُ ولا يُهمل، الحكَم العدل، لا مُعقّب لحكمه، ولا رادَّ لفضله.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له.
سبحان من يعفو ونهفو دائمًا ولا يزل مهما هفا العبد عفا
يُعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخَطَا


وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، خير بشر وطئت الثرى قدمه، ونطق بالحق فمه، وجرى في عرق دمه.
أتحب أعـداء الحبيب وتدّعـي حُباً له، ما ذاك في الإمكـان
وكذا تُعادى جاهـداً أحبـابه أين المحـبة يا أخا الشيطان؟!
إن المحــبة أن توافـق مـن تحب على محـبته بلا نقصـانِ
فإن ادعيت له المحبـة مـع خلاف ما يحب فأنت ذو بهتان



صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
عباد الله:
أيها الإخوة المؤمنون ما زلنا نتفيأ ظلالَ سورة الحجرات، هذه السورة الكريمة التي رسمت منهجًا للمسلم في حياته الذي به صلاحه، ومن ثم صلاح المجتمع بأسره، وما أحوجنا في هذا الزمن زمن الماديات الذي نعيشه إلى أن ننظر في رصيدنا الأخلاقي والسلوكي، وأن نهتم بزيادته ونودِعَ فيه ما ينمّيه، بعد أن نعرف أن أكثر ما يدخل الجنة تقوى الله وحُسن الخلق، وأن بعثة النبي صلى الله عليه وسلم كانت لإتمام مكارم الأخلاق، أم أنّ الدنيا قد أشغلتنا وألهتنا عمّا فيه صلاحنا وفلاحنا ونجاتنا في الدنيا والآخرة.
اسمع هذا النداء الرباني في هذه السورة المباركة وهو النداء الرابع عِش معه بقلبك وقالبك وانظر أين أنت منه: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [الحجرات: 11].
ثلاث نواهٍ تضمّنتها الآية: أوّلها النهي عن السخرية، ثانيها النهي عن اللمز، أما الثالث فهو النهي عن التنابز بالألقاب.
تأملوا عباد الله أولاً في قوله تعالى: ( لا يَسْخَرْ قَومٌ ) [الحجرات: 11]، المفروض أن الذي سيسخر هو فرد واحد، ولكن الله سبحانه أسند السخرية المنهي عنها بقوم، والقوم هم الجماعة، فالمقصود أن السخرية لا تنشأ إلا من شخص واحد، وهو يمثل القوم، والقوم موافقون وراضون وساكتون، أما من يُنكر ذلك فقد خرج منهم.
نعم السامع للغيبة والسخرية والاستهزاء بأخيه المسلم ولا يتحرك فهو مشارك للغيبة وآثم إن لم ينه عن هذا المنكر.
عباد الله: يكفينا في ذلك حديث أبي هريرة رضي الله عنه في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم: «لا تحاسدوا، ولا تناجشوا، ولا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا يبع بعضكم على بيع بعض، وكونوا عباد الله إخوانا. المسلم أخو المسلم؛ لا يظلمه ولا يخذله ولا يحقره. التقوى ها هنا ـ ويشير إلى صدره ثلاث مرات ـ، بحسب امرئٍ من الشر ـ أي: يكفيه شرًا ويكفيه إثمًا ـ أن يحقر أخاه المسلم، كلّ المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه».
والعِرض هو محلّ الذم أو المدح من الإنسان، فإذا اغتبتَ إنسانًا فقد نِلت من عِرضه، وإذا نممت على إنسان فقد جرحتَ عرضه، وإذا سخرت منه فقد انتقصتَ من عرضه، «كلُّ المسلم على المسلم حرام: دمه وماله وعرضه».
وفي خُطبة حَجّة الوداع لم يغفل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه القضية المهمة في بناء المجتمع المسلم، فلقد كانت رُكنًا ركينًا، وقف يوم الحج الأكبر يسألهم: «أيّ يوم هذا؟ أيّ شهر هذا؟ أيّ بلد هذا؟ » ثم قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا»، ولم يكتف بذلك بل قال أخيرًا: «ألا هل بلغت؟ » قالوا: نعم، قال: «اللهم فاشهد».
إن السخرية ناتجة عن شعور بالغرور والكبر إزاء الآخرين،، إن الصغار لا يسخرون من الملوك، بل السخرية تأتي من الكبار إلى الصغار، ومن أنت؟ هل ترفعت على الناس وتكبرت عليهم بمالك أو بجاهك أو بعزك؟ من أين أخذت هذا؟ أليس الذي وهبك يستطيع أن يسلبك؟!! ألم تعلم أنه يُعزُّ من يشاء ويُذل من يشاء، يخفض القسط ويرفعه، يرفع أناساً ويضع آخرين؟

على من تترفّع؟ على هذا المسكين والضعيف!! ألم تعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رُبّ أشعث أغبر ذي طمرين لا يؤبه له، لو أقسم على الله لأبره» وفي رواية: «منهم البراء بن مالك» [ورد في صحيح الجمع الصغير بنحوه «4573»]، حيث كانوا إذا اشتد الوطيس، ودارت الدائرة على المسلمين، يأتون إلى البراء يقولون: يا براء أنت الذي قال فيك صلى الله عليه وسلم: «رُبّ أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره»، فينظر إلى السماء يشير بإصبعه يقسم على الله ليهزمن القوم.. أقسمت عليك إلا منحتنا أكتافهم، فلا يرد يديه إلى الأرض إلا وتبدأ هزيمة الأعداء.
عباد الله: هؤلاء المدفوعون بالأبواب، هم الذين يحمون المجتمعات من الدمار، من الزلزلة الإلهية، من العذاب الرباني قال صلى الله عليه وسلم: «خير الناس الأخفياء الأتقياء الأبرياء، الذين إذا غابوا لم يُفتقدوا، وإذا حضروا لم يُعرفوا، أولئك مصابيح الهدى تنجلي عنهم كل فتنة عمياء مظلمة» [هذا القول ورد به أثر كما في ابن ماجة والبيهقي في الزهد والحاكم وقال: صحيح ولا علة له «انظر الترغيب والترهيب 3/444»]. وإنما تنصرون وترزقون بضعفائكم.
ثم من أنت في ميزان الله q؟ أما بلغك حديث البخاري، قال أبو العباس سهل بن سعد الساعدي ا: مرّ رجل على النبيصلى الله عليه وسلم، فقال لرجل عنده جالس: «ما رأيك في هذا»؟ فقال: رجل من أشراف الناس، هذا والله حريٌ إن خطب أن يُنكح، وإن شفع أن يُشفّع.
فسكت رسول الله، عليه الصلاة والسلام، ثم مرّ رجل آخر، فقال له رسول الله: «ما رأيك في هذا»؟ فقال: يا رسول الله، هذا رجل من فقراء المسلمين، هذا حريٌ إن خطب أن لا يُنكح، وإن شفع أن لا يُشفّع، وإن قال أن لا يُسمع لقوله. فقال رسول الله: «هذا خير من ملء الأرض مثل هذا»
ما هو الميزان إذن؟ ما هو المقياس؟ ما هي المؤهلات التي ترفع الإنسان وتخفضه؟ (إن أكرمكم عند الله أتقاكم) [الحجرات: 13].
فكم رجل يُعد بألف رجل وكم ألف تمر بلا عداد، ولن تجد فرساً أفضل من ألف فرس، ولا بعيراً أفضل من ألف بعير، ولا حماراً أفضل من ألف حمار.. ولكن الإنسان قد يعدل ملء الأرض من مثله من جنسه. «هذا خيرٌ من ملء الأرض من ذاك».
ثم يا أخي: لماذا تتكبر؟ ولماذا الغرور؟ ألم تعلم بأن المعصية بسبب الغرور يخشى أن لا تغفر، والمعصية بسبب الشهوات والذنوب قد تغفر.. ألم تعلم أن إبليس قد عصى الله بغرور فلم يغفر الله له، وآدم × عصى الله بشهوة فغفر الله له.. إياكم والغرور، وفي الصحيح يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من كبر» [جزء من حديث رواه مسلم في صحيحه و صحيح الجامع الصغير 7674»].
لماذا تترفع على الآخرين؟! ولماذا تعيبهم؟ ألا تنظر إلى نفسك؟! عدّد عيوبك يا أخي قبل أن تُعدّد عيوب الآخرين، وانظر إلى نقائصك قبل أن تنتقص الآخرين.
إذا شئت أن تحيا سليماً من الأذى وحظُّك موفورٌ وعِرضك صيّنُ
لسانك لا تذكر به عورة امرئٍ فكلُك عوراتٌ وللناس ألسن
وعينك إن أبدت إليك معايباً يوماً فقل يا عين للناس أعين
فصاحب بمعروفٍ وسامح من اعتدى وفارق ولكن بالتي هي أحسن


ألم تعلم أن النار خُصّت بالمتكبرين، والجنة خُصّت بالمستضعفين.. في صحيح البخاري يقول صلى الله عليه وسلم «تحاجّت الجنة والنار - تجادلت الجنة والنار - قالت النار أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين، وقالت الجنة: مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم وغرتهم، فقال الله تعالى للجنة: إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء.. وقال للنار إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء، ولكل ملؤها».
( لا يَسْخَرْ قَومٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ ) [الحجرات: 11].
وغالباً المسخور منهم خير من الذين سخروا بهم.
أيّها الإخوة المؤمنون، ( وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ) [الحجرات: 11]، اللمز والهمز ذكِر في كتاب الله كثيرًا، واللمز هو المعيبة باللسان، والهمز بغير اللسان كالإشارة باليد أو العين أو غير ذلك، وقيل: اللمز في الوجه، والهمز في الغَيبة، قال تعالى: ( وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ ) [الهمزة: 1]، وقال سبحانه: ( وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ *عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ ) [القلم: 13].
( وَلا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ) [الحجرات: 11] تعبير ربّاني لا يقدر عليه البشر؛ لأنك عندما تلمِز أخاك وتعيبه إنما تعيب نفسَك؛ لأن المؤمن للمؤمن كالبنيان، وفي الحديث يقول صلى الله عليه وسلم: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد؛ إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى» [مسلم «2586»].
الأمة المسلمة جسدٌ واحد لا تشتغل إلا كُلاً: فأحدٌ عينها، وآخر أُذنها، وثالثٌ قلبها، ورابعٌ يدها، وخامسٌ رجلها. وأي عضو أو شلو من الأشلاء يفقد، إنما تنتقص الأمة المسلمة في إنتاجها وعطائها وبذلها وتضحيتها.. فعندما تلمز أحداً من المسلمين إنما تلمز نفسك.
وتتبّع عورات المسلمين باللمز والهمز علامة على النفاق وليست علامة الإيمان، يقول صلى الله عليه وسلم: «ليس المؤمن بالطعّان ولا اللعّان ولا الفاحش ولا البذيء»، وفي البخاري عن بلال بن الحارث رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله q، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله q له بها رضوانه إلى يوم القيامة. وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سَخط الله q، ما يظن أن تبلغ ما بلغت، يكتب الله q بها عليه سخطه إلى يوم القيامة».
يُلقي الرجل الكلمةَ لا يُلقي لها بالاً وهو يحتسي القهوة والشاي، يريد أن يملأ فراغه ويضحِك خلاّنه أو يسرّ الذين يسامرونه، فيسخر من أخيه المسلم أو يقع في عرضه همزًا أو لمزًا، هذه الكلمة قد يكتب الله بها عليه سخطه إلى يوم القيامة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه واشهد أن لا اله إلا الله تعظيماً لشانه، واشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه وعلى اله وأصحابه وجميع إخوانه.
وبعد عباد الله:
ما الذي شتتنا؟ ما الذي مزق كياننا؟ ما الذي فرّق جماعتنا؟ ما الذي دمّر مجتمعاتنا؟ ما الذي أضرنا وهز وجودنا إلا هذا اللسان؟ إلا هذه المضغة التي لا ترعى فيها بمسلم إلاً ولا ذمة؟
فيا أخي إن حدثتك نفسك أن تعيب أخاك فانظر إلى عيوبك، والحمد لله أن رائحة الذنوب لا نشمها، فقد جاء في بعض الآثار في فتاوى ابن تيمية «مجموع الفتاوى» على أن العبد إذا أذنب ذنباً تباعد عنه الملك ميلاً من رائحة الذنوب، الحمد لله أننا لا نشم ذوبنا وإلا فرائحتنا تزكم الأنوف، ومقدار ذنوبنا يطبق الأرض نتنا.
قالت عائشة ل يومًا: يا رسول الله، حسبُك من صفيّة كذا وكذا، تعني أنها قصيرة، فقال صلى الله عليه وسلم: «لقد قلتِ كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته»، لو اختلطت بماء البحر لأنتَن البحر كلّه، هذه الكلمة ـ إنها قصيرة وهي تُرى قصيرة ـ أنتنت ماء البحر لو مزجت به، فكيف بكثير مما نقوله صباح مساء؟!
أحد السلف لما تزوّج ودخل على زوجه - ما كان رآها قبل ذلك- فلما نظر إليها كأنه كان يتوقع أحسن منها جمالا، فعرفت ذلك في وجهه، فقالت: يا فلان! إن الله تعالى يقول: ( وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ) [البقرة: 216].
«إن الخير قد يكون كامناً في الشر».
وهو رجل فقيه لما سمع كلام الله وفي وقت حرج مثل هذا قال: قبلنا، فرزقه الله منها بـ ولد بلغت شهرته الآفاق علماً وتقوى.
الثالثة: عدم التنابز بالألقاب.
ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب.. وقد نزلت هذه الآية في بني سلمة.. قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة المنورة، فوجد للصحابة الأنصار مجموعة من الأسماء، فكان إذا دعا صحابياً باسمه يقولون: له يا رسول الله إن هذا اللقب يكرهه هذا الأخ، فنزلت الآية لتمنعهم من الألقاب الكريهة..
أيها المسلم: ماذا عليك لو بسطت وجهك وفردت أساريرك في وجه أخيك؟ وتبسمك في وجه أخيك لك صدقة.. ماذا عليك لو دعوت أخاك بأحب الأسماء إليه لتدخل السرور على هذا القلب الذي قد يكون منكسراً فتجبره هذه الكلمة، وقد يكون متألماً فتشفيه هذه اللفظة، ماذا عليك؟ «إشحّة عليكم» بخيل حتى بالكلام! بخيل حتى بالسلام! بخيل حتى بطيب الكلام!
أيها الإخوة، ثلاث نواهٍ السخرية واللمز والتنابز بالألقاب، ونتيجة أي واحدة من الثلاث وجزاؤها شيئان عند الله: تأخذ من الله اسمين وتفقد اسمًا عظيمًا، كان اسمك عند الله مؤمنا فأعطاك الله بدله اسم الفاسق، وإذا لم تتب مسرعًا فيعطيك لقبًا آخر وهو الظلم، ( بِئْسَ الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ) [الحجرات: 11]، هل اشتريت باسم المؤمن عند الله اسم الفاسق؟! بعت اسم المؤمن واشتريت اسم الفاسق والظالم معا، بماذا؟! بهمزات لسان وومضات شفاه أو لحظات عين، تعس من تخلّى عن اسم مؤمن ونال من ربه تعالى الذي لا معقب لكلماته ولا راد لقوله ولا معقب على حكمه اسمين اثنين: اسم الفسق واسم الظلم، أيُّ لعنة هذه البيعة التي بعت بها إيمانًا واشتريت بها فسقًا وظلما؟!
إن حُرمة عرض المسلم أعظم من حرمة الزنا والربا، ففي حديث ابن مسعود رضي الله عنه عند الحاكم قال صلى الله عليه وسلم: «الربا اثنان وسبعون بابًا، أدناها مثلُ إتيان الرجل أمه، وإن أربى الربا استطالة الرجل في عرض أخيه» [انظر صحيح الجامع برقم «3537»].
أيها المؤمنون، لقد حفلت نصوص الشرع بالتحذير من زلات اللسان وبيان خطورته وما يجره على صاحبه من ويلات ومهالك، قال تعالى: ( مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ) [ق: 18]، وقال سبحانه: ( سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا ) [آل عمران: 181]، وقال عز شأنه: ( وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ) [النور: 15]، وحث على حفظ اللسان وصيانة المنطق ومجانبة الفحش والبَذاء فقال جل وعلا: ( وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا ) [الإسراء: 53]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: «أمسك عليك هذا» وأشار إلى لسانه، فقال معاذ: يا رسول الله، وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟! ف‍‍قال: «ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو على مناخرهم إلا حصائد ألسنتهم؟! » وحصائد الألسن جزاء الكلام المحرّم وعقوباته.
وروى الترمذي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إذا أصبح ابن آدم فإن الأعضاء كلها تكفِّر اللسان تقول: اتق الله فينا، فإنما نحن بك، فإن استقمت استقمنا، وإن اعوججت اعوججنا»، قال النووي رحمه الله: «تكفر اللسان» أي: تذل له وتخضع.
ولقد كان خوف السلف الصالح من آفات اللسان عظيمًا، فهذا أبو بكر الصديق كان يخرج لسانه ويقول: «هذا الذي أوردني شر الموارد»، وكان ابن عباس يأخذ بلسانه ويقول: «ويحك، قُل خيرًا تغنم، أو اسكت عن سوء تسلم، وإلا فإنك ستندم»، فقيل له: يا ابن عباس، لم تقول هذا؟ قال: «إنه بلغني أن الإنسان ليس على شيء من جسده أشد حَنَقًا أو غيظًا منه على لسانه إلا من قال به خيرًا أو أملى به خيرًا»، وكان ابن مسعود يحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما على الأرض شيء أحوج إلى طول سجن من لسان، وقال الحسن البصري رحمه الله: «اللسان أمير البدن، فإذا جنى على الأعضاء شيئا جنت، وإذا عفّ عفت»، وقال عمر رضي الله عنه: «من كثُر كلامه كثر سقطه، ومن كثر سقطه كثرت ذنوبه، ومن كثرت ذنوبه كانت النار أولى به»، وكان طاووس رحمه الله يعتذر من طول السكوت ويقول: «إني جرّبت لساني فوجدته لئيمًا وضيعًا»، وقال أحد السلف: «إن ترك فضول الكلام والطعن في الناس أشق على النفس من قيام الليل»، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: «كان بعض أصحابنا يحفظ كلامه من الجمعة إلى الجمعة».
أيها المؤمنون، حفظ المرء للسانه وقلّة كلامه عنوان أدبه وزكاء نفسه ورجحان عقله، كما قيل في مأثور الحكم: «إذا تم العقل نقص الكلام»، وقال بعض الحكماء: «كلام المرء بيان فضله وترجمان عقله، فاقصره على الجميل، واقتصر منه على القليل».
هذا وصلوا وسلموا على محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم..


المرفقات

تأملات في سورة الحجرات-الجزء الرابع.doc

تأملات في سورة الحجرات-الجزء الرابع.doc

المشاهدات 1181 | التعليقات 0