تأملات في سورة الحجرات «3»

أمير محمد محمد المدري
1438/04/26 - 2017/01/24 07:08AM
تأملات في سورة الحجرات «3»

الحمد لله، الحمد لله مُدبر الأحوال ومنشئ السحاب الثقال، أحمده سبحانه وأشكره مسبغ النعم والإفضال، له الحمد في الأولى والآخرة وإليه المآل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، المتفردُ بالعظمة والجلال.
يا من يرى مدّ البعوض جناحها في ظُلمة الليل البهيم الأليل
ويرى نياط عروقها في نحرها والمخ من تلك العظام النُحّل
ويرى خرير الدم في أوداجها متنّقلا من مفصل في مفصل
ويرى مكان الوطء من أقدامها في سيرها وحثيثها المستعجل
ويرى ويسمع حس ما هو دونها في قاع بحر مظلم متهول
اُمنن عليّ بتوبةٍ تمحو بها ما كان مني في الزمان الأول



وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبده ورسوله ربّى الصفوة من الرجال، الذين درسوا معالم الكفر والضلال، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه خير صحب وآل.
أما بعد عباد الله:
فاتقوا الله حقّ التقوى، وراقبوه في السر والنجوى، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 102].
أيها الإخوة المؤمنون، ها نحن اليوم نتدبّر نداء ربنا الثالث في سورة الحجرات: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6].
جاء في سبب نزول هذه الآية ما رواه الإمام أحمد بسنده عن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي ا قال: قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام، فدخلت فيه وأقررت به، فدعاني إلى الزكاة، فأقررت بها وقلت: يا رسول الله، أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام وأداء الزكاة، فمن استجاب لي جمعت زكاته، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق خاف فرجع فأتى رسول الله وقال: يا رسول الله، إن الحارث منعَني الزكاة وأراد قتلي، فضرب رسول الله البعث إلى الحارث،! فلما غشيهم قال لهم: إلى من بُعثتم؟ قالوا: إليك، قال: ولم؟ قالوا: إن رسول الله كان بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعتَه الزكاة وأردتَ قتله، قال: لا والذي بعث محمدًا بالحق، ما رأيتُه بتّة ولا أتاني، فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له: «منعتَ الزكاة وأردت قتل رسولي؟ » قال: لا والذي بعثك بالحق، ما رأيته ولا أتاني، وما أقبلت إلا حين احتبس عليّ رسولك؛ خشيتُ أن تكون سخطة من الله q ورسوله، قال فنزلت: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6] إلى قوله: (فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [الحجرات: 8].
والفاسق عباد الله:: هو الخارج عن الطاعة، وأصل الفسق في اللغة: الخروج عن الطريق المعتاد، فتقول العرب: فسقت النواة عن الرطبة: إذا خرجت من موضعها الذي كان ينبغي أن تبقى فيه، وفسقت الحبة عن الطاحون، أي: ندّت عن موضع طحنها، والفاسق هو الذي خرج عن الصراط السوي، وشرعاً: الذي خرج عن الصراط المستقيم؛ بارتكاب بعض المعاصي والزلات والمخالفات.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) [الحجرات: 6]، وهناك قراءة: «فتثبتوا» وقد جاء عنه صلى الله عليه وسلم في سبب نزولها أنه قال: «التثبت من الرحمان، والعجلة من الشيطان».
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى والتزموا أفضل الأخلاق والآداب وابتعدوا عن سيئات الأخلاق.
واعلموا أن من أمراض النفوس التي انتشرت في المجتمع المسلم مرض النميمة، وهو داءٌ خبيث يسري على الألسن فيهدم الأسر ويُفرِّق بين الأحبة، ويقطع الأرحام وما أكثر انتشار النميمة بين الرجال والنساء في هذه الأيام، وأصل النميمة هي نقل كلام الناس بعضهم إلى بعض على جهة الإفساد وكشف الستر وهتكه.
قال يحي بن أكثم رحمه الله: «النمام شر من الساحر ويعمل النمام في ساعة ما لا يعمل الساحر في سنة».
ويقال: «عمل النمام أضرّ من عمل الشيطان، لأنّ عمل الشيطان بالخيال والوسوسة، وعمل النمام بالمواجهة والمعاينة».
وفي الحديث الآخر يقول صلى الله عليه وسلم: «ألا أخبركم بشراركم؟ قالوا: بلى، قال: المشاوؤن بالنميمة المفسدون بين الأحبة» [أخرجه أحمد «27599»، والبخاري في الأدب المفرد «323»، وحسنه الألباني في صحيح الأدب المفرد «246»].، ولنتأمل قول النبي صلى الله عليه وسلم أيضاً: «من أشاع على مسلمٍ كلمة يشينه بها بغير حق شانه الله بها في النار يوم القيامة» [أخرجه ابن أبي الدنيا في الصمت والطبراني في مكارم الأخلاق].
هذا جزاؤه يوم القيامة وقبل ذلك عذاب القبر، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بقبرين فقال: «إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير أما أحدهما فكان يمشي بين الناس بالنميمة وأما الآخر فكان لا يستتر من بوله»، قال العلماء في معنى قوله: «وما يعذبان في كبير» أي فيما يظن الناس أن هذا العمل بسيط ولكنه عند الله كبير.
فينبغي أن لا يسترسل الرجل إلى كل ما يُنقل إليه وليتثبت قبل أن يحكم قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات: 6]
وروي عن عمر بن عبد العزيز / أنه دخل عليه رجل فذكر عنده وشاية في رجل آخر فقال عمر: إن شئت حقّقنا هذا الأمر الذي تقول فيه وننظر فيما نسبته إليه، فإن كنت كاذباً فأنت من أهل هذه الآية: (إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا) [الحجرات: 6] وإن كنت صادقاً فأنت من أهل هذه الآية: (هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ) [القلم: 11] وإن شئت عفونا عنك، فقال: العفو يا أمير المؤمنين لا أعود إليه أبداً.
ثم اعلم أخي المسلم أن من نقل إليك كلام الناس وأفشى سِرهم، فإنه ينقل عنك كلامك ويفشي سرك إلى الآخرين، ورحم الله الحسن البصري حين قال:
لا تفش سراً ما استطعت إلى امرئ يفشي إليك سرائراً يستودع
فكما تراه بسر غيرك صانعاً فكذا بسرك لا أباً لك يصنع


وقال آخر:
لا تقبلنّ نميمة بُلِّغتها وتحفَظَّن من الذي أنبأكها
إن الذي أهدى إليك نميمةً سينم عنك بمثلها قد حاكها


فيا أيها الناس كم من بيوتٍ تهدمت واُسرٍ تفككت وأواصر تقطّعت والسبب عدم التثبت، عدم التبيّن.
قد يسمع الرجل زوجته تقول أمك فعلَت، أُختك قالت، أخيك قال كذا، فيصدق قبل أن يتبين فيعق أمه ويقطع أرحامه، قد يسمع الرجل أمه تقول زوجتك فعلت وقالت ثم لا يتبين فيظلم زوجته ويفكك أسرته.
روي أنه باع رجل عبداً، وقال للمشتري: ما فيه عيب إلا النميمة، قال: قد رضيت، فاشتراه، فمكث الغلام أياماً، ثم قال لزوجة مولاه: إن سيدي لا يحبك، وهو يريد أن يتسرى عليك، فخذي الموسى، واحلقي من شعر قفاه عند نومه شعرات حتى أسحره عليها، فيحبك، ثم قال للزوج: إن امرأتك اتخذت خليلاً، وتريد أن تقتلك، فتناوم لها حتى تعرف ذلك، فتناوم لها، فجاءت المرأة بالسكين، فظن أنها تريد قتله، فقام إليها فقتلها، فجاء أهل المرأة فقتلوا الزوج، ووقع القتال بين القبيلتين». [انظر: إحياء علوم الدين للغزالي «3/154»].
ومن ذلك قيام بعض المقربين لدى أرباب الجاه والسلطان والمسؤولين بنقل كلام الآخرين بقصد إلحاق الضرر بهم.
فكم جرّت هذه السعاية والوشاية من ويلات على كثير من الأبرياء المؤمنين الغافلين طاهري القلوب سليمي الصدور، فقضت على أرواحهم وأموالهم، وكم نكّلت بكثير من العلماء فأخرجتهم من ديارهم وأموالهم وأصبحوا عرضة للمحن والمصائب؟ وكم ضرّت بصالحين مطمئنين فأودعتهم السجون وسلبتهم الحقوق وجعلت للفسقة عليهم سلطاناً؟ وكم حرمت أطفالاً ونساءً من قوتهم وسلبت منهم نعيمهم بدون جناية اقترفوها؟ فلذلك على الراعي والمسؤول أن يتقي الله ويتبين ويتثبت ويختر له البطانة الصالحة التي تدله على الخير.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ) [الحجرات: 6]
أيها الإخوة المؤمنون، هذه الآية الكريمة ترسِم لنا منهجًا عظيمًا في شأن تلقّي الأخبار، وبالأخص في هذا العصر الذي نرى فيه السباق المحموم لنقل الأخبار والأحداث ساعةً بساعة، بل لحظة بلحظة، في عالم قد اتّصل شرقه بغربه وتقارب أقصاه من أدناه، تملأ سماءه فضائيات وقنوات وتغصّ أرضه بصحف ومجلات، ناهيك عن عجيبة هذا العصر شبكة المعلومات العالمية المسماة بالإنترنت.
في هذه الأجواءِ ومع التقدّم المتعاظِم في وسائلِ الاتّصال فإنه يجِب الحذَر ثم الحذرُ ممّا يشيعه المرجفون والمنافقون وتتناوله آلاتُ الإعلام وتتناقله وسائِل الاتّصال من شائعاتٍ وأراجيف، فكم للشائعات من خطر عظيم في انتشارها وأثر بليغ في ترويجها.
الشائعات يا عباد الله: تعتبر من أخطر الأسلحة الفتاكة والمدمرة للمجتمعات والأشخاص.
فكم أقلقت الإشاعة من أبرياء، وكم حطّمت الإشاعة من عظماء، وكم هدمت الإشاعة من وشائج، وكم تسببت الشائعات في جرائم، وكم فككت الإشاعة من علاقات وصداقات، وكم هزمت الإشاعة من جيوش، وكم أخرت الإشاعة في سير أقوام.
لخطر الإشاعة فإننا نرى الدول، دول العالم كلها تهتم بها، والحكام رؤساء الدول يرقبونها معتبرين إياها، بل إن كثير من دول العالم تُسخر وحدات خاصة في أجهزة استخباراتها، لرصد وتحليل ما يبث وينشر من إشاعة في دولتها. وبانين عليها توقعاتهم للأحداث، سواء على المستوى المحلي أو الخارجي.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه، واشهد أن لا اله إلا الله تعظيماً لشانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه وعلى اله وأصحابه وجميع إخوانه.
وبعد عباد الله:
إن تاريخ الإشاعة قديم، قدم هذا الإنسان، وقد ذُكر في كتاب الله q نماذج من ذلك منذ فجر التاريخ وبقراءة في تاريخ الأنبياء عليهم السلام وقصصهم نجد أن كلاً منهم قد أُثير حوله الكثير من الإشاعات من قبل قومه ثم يبثونها ويتوارثونها أحياناً. ولا شك أن تلك الإشاعات كان لها الأثر في جعل بعض المعوقات في طريق دعوة أولئك الأنبياء والرسل.
فهذا نوح عليه وسلم اُتهم بإشاعة من قومه بأنه (يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ) [المؤمنون: 24] أي يتزعم ويتأمر يريد سلطة ومكانة ووجاهه، ثم يشاع عنه أنه ضال: (إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) [الأعراف: 60] و يشاع عنه الجنون (وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ) [القمر: 9].
هذا موسى عليه وسلم، يحمل دعوة ربه إلى فرعون وملائه وقومه، فيملأ فرعون سماء مصر اسمعوا ماذا يقول فرعون: (إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ) [غافر: 26]، موسى مفسد ومخرب، من المصلح فرعون يا سبحان الله، بل قال الملا والحاشية لفرعون كما قال تعالى: (وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ) [الأعراف: 127]
اتقوا الله أيها المسلمون، واحذروا الشائعات احذروا من نشرها وتوزيعها، لا يكن أحدكم مردداً لكل ما يسمع، فقد ثبت في صحيح مسلم قوله عليه الصلاة والسلام: «كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع» وفي رواية: «كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع».
واحذروا كذلك يا عباد الله، من قول كل خبر، وتصديق كل ما يقال، فإن هناك فئات وأصنافاً من الناس في كل مجتمع، قلوبها مريضة، أرواحها ميتة، ذممها مهدرة، لا تخاف من الله، ولا تستحي من عباد الله، مهنتهم ووظيفتهم وهوايتهم نشر الشائعات في أوساط الناس، خاصة على العلماء والصالحين تتغذى على لحوم البشر، ترتقي على أكتاف وحساب غيرها.
عباد الله:: ليكن منهج كل واحد منكم عند سماعه لأي خبر قول الله q: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات: 6].
في معركة أُحد، كانت شائعة عندما أشاع الكفار أن الرسول صلى الله عليه وسلم قُتل فأثّر ذلك في عضد كثير من المسلمين، حتى أن بعضهم ألقى السلاح وترك القتال، فتأملوا رحمكم الله تأثير الإشاعة.
ومن الشائعات حادثة الإفك، تلك الشائعة التي طعنت في عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم، الشائعة التي هزّت بيت النبوة شهراً كاملاً، بل هزّت المدينة كلها، بل هزّت المسلمين كلهم، هذا الحادث، الذي كلّف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلها آلاماً لا تطاق، حتى نزل الوحي ليضع حداً لتلك المأساة الفظيعة، وليكون درساً تربوياً رائعاً لذلك المجتمع، ولكل مجتمع مسلم إلى قيام الساعة.
(إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ) [النور: 11]، في الصحيحين عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: «نهى رسول الله عن قيل وقال» و«قيل وقال» أي: كثرة الحديث وكثرة الكلام دون رويّة ولا تدبر ولا تثبت ولا تبيّن. وفي سنن أبي داود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «بئس مطية الرجل: زعموا»، وهذه هي التي سماها بعض أهل العلم من المعاصرين: «وكالة أنباء يقولون»، فترى كثيرًا من الناس يتناقلون الأحاديث والشائعات والأخبار دون رويّة ولا تثبّت، وقد يسهمون بذلك بفتّ عضد المسلمين وضعضعة معنوياتهم وبثّ الرعب في قلوبهم، فيخدمون من حيث لا يشعرون أهدافَ العدو، فيضعفون المعنويات ويلقون الرعب في القلوب.
فاتقوا الله أيها المؤمنون، واحذروا من كيد الأعداء ومكرهم، (وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ) [إبراهيم: 46].
عباد الله: لابد أن يكون لنا منهج واضح محدد نتعامل فيه مع الإشاعات، والأخبار بتوجيهات قرآنية نبوية
التوجيه الأول: حُسنُ الظنّ بالمسلِمين أفرادًا وجماعات ممّن تتناولهم الشّائعات قال تعالى: (لَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ) [النور: 12].
وتأمّلوا هذا التطبيقَ العمليّ لهذا التّوجيه الكريم: هذا أبو أيّوب الأنصاريّ الصحابي الجليل وزوجُه وقد خاض النّاس في حديث الإفك، فماذا كان شأنهما في تلك الشائعة؟ قالت أم أيوب: يا أبا أيوب، أما تسمع ما يقول الناس في عائشة ل؟! قال: نعم، وذلك الكذب أكنتِ فاعلةً ذلك يا أمّ أيوب؟ قالت: لا والله، ما كنتُ لأفعله، قال: فعائشة ـ والله ـ خيرٌ منك وأطيب، إنما هذا كذبٌ وإفكٌ باطل.
إنّه إحسانُ الظنّ بالمسلمين، وهو الطريق الصّحيح الأقربُ والأيسر والأسلَم والأصدَق.
التوجيه الثاني: الموقفُ الحاسِم والجازم والحازِم في ضرورة إثباتِ هذه الشائعة: (لَوْلا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ) [النور: 13]، وذلك يقتضي مِن المجتمع أن لا يستَمع إلى شيء أو يقبَله من غير بيّنة ظاهرة، فإذا لم تُوجد بيّنة ضُمّت هذه الشائعة لطائِفة الكذِب والكذّابين، قال تعالى: (فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُوْلَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النور: 13].
التّوجيه الثالث: الموقفُ الصارم من المجتمع في رفضِ الإشاعةِ وعدم السّماح برواجِها والتكلّم بها، قال تعالى: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ) [النور: 16].
أيّها المسلمون، إن الذي يتعيَّن هو اعتمادُ أخبار الثقات العدول والبعدُ عن السّماع مِن الفُسّاق والمتسرّعين، ومَن عُرِف بكثرةِ نقل الأخبارِ من غيرِ تثبّت، كما ينبغِي صونُ اللسان في أوقاتِ الفتَن والأجواء التي تروّج فيها الشائعاتُ والأراجيف، بل إنَّ العقل والإيمانَ ليدعُوان صاحبَهما إلى الموازنة بين مصلحةِ الكلام ومصلحةِ الصّمت، فليس الكلامُ خيرًا دائمًا، وليس الصمت بِرًّا دائمًا، وفي الحديث الصحيح قال صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقُل خيرًا أو ليصمُت»، فليس ثَمَّ ـ يا عبد الله ـ إلا طريقان: إما خيرٌ تقوله، أوصمت تلتزِمه.
والزموا وصية الله التي أوصى بها فقال: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 71].
هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه، فقال (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.

المشاهدات 1237 | التعليقات 0