تأملات في سورة الحجرات «2»
أمير محمد محمد المدري
1438/04/26 - 2017/01/24 07:02AM
تأملات في سورة الحجرات «2»
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شرك له من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
وأشهد أن نبينا محمد اً عبده ورسوله، جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة. فقال: يا رسول الله متى الساعة. قال: وما أعددت لها؟. قال: لا شيء، إلا أنى أحب الله ورسوله. فقال: أنت مع من أحببت، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت. قال أنس فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بُحبِّي إياهم وإن لم أعمل بعملهم».
ونحن نُشهد الله أننا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر، وعثمان وعليّ وجميع أصحاب الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، وكل التابعين لنهجه وضربه المنير، ونتضرع إلى الله بفضله لا بأعمالنا أن يحشرنا معهم جميعاً بمنّه وكرمه، وهو أرحم الراحمين.
وأشهد أن حبيبنا ونبينا وصفينا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون.
أيها الإخوة المؤمنون: مع اللقاء الثاني من سورة الحجرات، ففي هذا اليوم نتأمل النداء الإلهي الثاني في سورة الحجرات، وهو قول الله تبارك وتعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) [الحجرات: 2].
نزلت هذه الآية الكريمة في أبي بكر وعمر، فقد روى البخاري عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيّران أن يهلكا أبو بكر وعمر؛ رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر فقال أبو بكر لعمر: ما أردتَ إلا خلافي، فقال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله q: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) [الحجرات: 2]، قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول الله بعد هذه الآية حتى يستفهمه مما يخفض. وعن طارق بن شهاب عن أبي بكر ا قال: لما نزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) [الحجرات: 2] قلت: يا رسول والله لا أكلّمك إلا كأخي السِّرار.
أيها الإخوة، هكذا كانت استجابة الخيِّرين لهذه الآية، وهكذا دأب الصحابة في أدبهم مع رسول الله، وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالساً في بيته منكِّساً رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شرّ، كنت أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عملي وأنا من أهل النار، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال: كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: «اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة»، قال أنس ا: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة. فهنيئًا له ثم هنيئًا له.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: «قال العلماء: يُكره رفع الصوت عند قبره كما كان يكره في حياته؛ لأنه محترم حيًا وفي قبره.
ناظر أبو جعفر الخليفة مالكاً الفقيه العلامة الثقة المحدث، ناظره في المسجد النبوي، أي: مناقشة، فقال مالك للخليفة: «لا ترفع صوتك يا أمير المؤمنين في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوماً، فقال: ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) [الحجرات: 2] ومدح قوماً فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ) [الحجرات: 3] وذم قوماً فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) [الحجرات: 4] وإن حُرمته ميتاً كحُرمته حياً«، فاستكان لها أبو جعفر، نزل عند نصيحة الإمام مالك/.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوتَ رجلين في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما، فجاء فقال: أتدريان أين أنتما؟! ثم قال: مِن أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: « لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربًا». ولهذا فإنه ينبغي على الإنسان أن يتأدب مع سنّته وحديثه حين يسمعه أو يقرأه أو يكتبه.
ولله در مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله، فلم يكن يحدّث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اغتسل وتبخر وتطيّب وجلس على صدر فراشه وسرّح لحيته وتمكن من جلوسه بوقار وهيبة، ثم يقول: أحبّ أن أعظِّم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أُحدِّث به إلا على طهارة متمكّنًا، وإذا رفع أحد صوته عنده قال: اغضض من صوتك فإن الله q يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) [الحجرات: 2]، فمن رفع صوته عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله، وقال: حُرْمته حيًّا ومَيْتًا سواء.
عباد الله: إذا كان جزاء من يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم حبوط العمل فما أعظم إثم من يعارض سنّته بعَقله ورأيه، وما أسوأ أدب من يناوئ الذّابين عنها وينتقصها ويهزئ بها وبأهلها كما نسمَع ونقرأ ونشاهد.
أيها المسلمون من خلال تعامل الإنسان مع النبي صلى الله عليه وسلم وتأثره به، يُعرف به هل هو سقيم مريض النفس في هذا الجانب، أم هو صحيح معافى.
أخي الحبيب إذا كنت تسمع حديثاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تجد أثراً لذلك الحديث على نفسك، أو إذا سمعته كأنما سمعت كلام الناس المعتاد فأنت مريض في التعامل مع رسول الله مرضاً عضالاً عظيماً، ولا بد أن تعالج نفسك.
إذا كنت لا تستشعر محبة رسول الله، ولا تستشعر الانتماء له فكيف تريد أن تُبعث تحت لوائه ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) [الإسراء: 71].
عبد الله
إذا كنت لا تستشعر محبتك للورود على حوضه، والشرب من حوضه شربةً هنيئة لا تظمأ بعدها أبداً، أو لا تستشعر تعظيمك لأصحابه وخلفائه الحاملين سنته الناشرين دعوته، أو تستشعر اشمئزازاً من أي خلق من أخلاقه أو وصف من أوصافه؛ فاعلم أنك مبتلى بداءٍ عضال.
لاحظ السنن والهيئات والأوصاف الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن وجدت في نفسك نفوراً من أية صفة من صفات النبي فاعلم بأنك مصاب بهذا المرض.
والذي يشمئز من الذين يُبلِّغون عن رسول الله، بحيث إنه إذا رأى إنساناً يبلغ عن رسول الله امتثالاً لقول المعلم الأعظم صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية» وقوله صلى الله عليه وسلم: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب»؛ فإذا كان الإنسان يشمئز من هؤلاء ولا يتحمل سماع ما يقولون؛ فهو مبتلى بداءٍ عضال في التعامل مع رسول الله، ولا بد أن يعالجه قبل أن يُكتب له سوء الخاتمة.
عباد الله: التعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم محله القلب، ليس الاحتفال بالمولد النبوي أو لطم الخدود وشق الجيوب، فأول تعظيم مطلوب منا هو التعظيم من القلب بالاعتقاد الجازم بنبوة النبي عليه الصلاة والسلام، وتقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين.
ومن تعظيم القلب استشعار هيبته عليه الصلاة والسلام، وجلالة قدره، وعظيم شأنه، واستحضار محاسنه ونحو ذلك.
ثم تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم باللسان، وذلك بحسن ذكره، وبدوام الصلاة عليه، والثناء عليه.
ثم تعظيم الجوارح، وأعظمه العمل بشريعته، وإتباع سنته، والتزام أوامره ظاهراً وباطناً.
ثم الشوق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، اللهم لا تحرمنا جواره في الجنة يارب العالمين.
عباد الله: ألا تشتاقون لنبيكم محمد.
نسينا فِي ودادك كلَّ غال فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على مَحبتكم ويكفي لنا شرفا نلام وما علينا
تسلى الناس بالدنيا وإنّا لعمرو الله بعدك ما سلونا
ثم تذَكُّره وتمني رؤيته، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: قوله صلى الله عليه وسلم: «من أشد أمتي لي حبًا ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله».
عباد الله::
نُهينا أن نُقدِّم بين يدي رسول الله بأي أمر من الأمور، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) [الحجرات: 1]. ونهينا أن نرفع أصواتنا فوق صوته فقال تعالى: ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) [الحجرات: 2]. أفنرضى بعد ذلك لإخوان القردة والخنازير وعُبّاد الأصنام والأوثان أن ينالوا من رسول الله؟! ولكنه والله الابتلاء لنا، قال تعالى: ( وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) [محمد: 4].
إن هذا الاستهزاء لن يضر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، ولن يهزّ ديننا أبدا، فالله قد قال لنبيه: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) [الحجر: 94] ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) [الحجر: 95].
أيها المسلمون، إن العجب ليس من استهزاء هؤلاء بقدر ما هو ممن يسمع عِرض رسول الله يُنتهك ولا يغضب ولا يحزن، والله لئن سُبّ آباؤنا أو أجدادنا أو قبائلنا لغضبنا لذلك، أفلا نغضب لرسول الله صلى الله عليه وسلموهو والله أغلى من أنفسنا ومن أولادنا ووالدينا والناس أجمعين؟! نفديه بأرواحنا، أرواحنا دون روحه، نحورنا دون نحره، أعراضنا دون عرضه.
إمام المسلمين فداك روحي وأرواح الأئمة والدّعاة
رسول العالَمين فداك عرضي وأعراض الأحبة والتقاة
ويا علم الهدى يفديك عمري ومالِي يا نبِيّ المكرمات
فداك الكون يا عطر السجايا فما للناس دونك من زكاة
فأنت قداسة إما استُحِلّت فذاك الموت من قبل الممات
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا اله إلا الله تعظيماً لشانه، واشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه وعلى اله وأصحابه وجميع إخوانه.
وبعد
أيها المسلمون كما أمر الله بعدم رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم حياً وميتا فكذلك نحن مأمورون بذلك مع ورثة الأنبياء العلماء..
فلقد أعلى الله تعالى شأنَ العلماء وأبان منزلتهم فقال: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) [الزمر: 9]، وقال سبحانه: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) [فاطر: 28]، وقال تعالى: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) [المجادلة: 11]، وقال تعالى: ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ) [آل عمران: 18]، فبدأ ـ بنفسه وثنى بملائكته المسبحة بقُدسه وثلَّث بأهل العلم، وكفاهم ذلك شرفًا وفضلاً وجلالة ونبلاً، وفي البخاري من حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يردِ الله به خيرًا يفقهه في الدين»، وروى أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»، وقال ابن عمر ب: «مجلس فقه خير من عبادةِ ستين سنة»، وقال الحسن البصري رحمه الله : «كانوا يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيءٌ ما اختلف الليل والنهار»، وقال أبو مسلم الخولاني رحمه الله : «العلماء في الأرض مثلُ النجوم في السماء، إذا بدت للناس اهتدوا بها، وإذا خفيت عليهم تحيّروا»، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: «عالم معلّم يدعَى كبيرًا في ملكوت السماء»، وقال سهل بن عبد الله رحمه الله : «من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء».
الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهم نسبٌ يُفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئٍ ما كان يُحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلمٍ تعش حيًا به أبدا فالناس موتى وأهل العم أحياء
أيها الإخوة، من خِلال هذه النصوص الكريمة السابقة وهذه الأقوال المحفوظة يتبيّن لنا المكانة العظيمة والدّرجة العالية التي يتمتّع بها علماء الأمة، ومن ثم وجب علينا أن نوفّيَهم حقّهم من التعظيم والتقدير والإجلال وحفظ الحرمات ونحن أيها المسلمون ـ قد اُبتلِينا في هذا الزمن بمن يلمِز العلماء ويغمِزهم، بل يُصرّح بتنقّصهم وذمّهم ويتتبّع مثالِبَهم وعثراتهم ويتهمهم بالسذاجة والغفلة، تَرَك أعداء الإسلام والمنافقين والمحاربين لدين الله واشتغل بنجوم الأرض العلماء.
وهؤلاء مرضى القلوب على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، الذين ينالون من العلماء ويقعون فيهم في الصّحف وعلى شبكة الإنترنت وغيرها لم يدفعهم إلى ذلك إلا:
أولاً: الغِيرة والحسد والهوى، قال تعالى: ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) [النساء: 54]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «صاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه»، وكان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا قد أعمته دنياه.
ثانياً: التعالم وادِّعاء الفهم في الشريعة حتى أصبحتَ ترى أحداثًا أغرارًا لم يبلغوا من العلم الشرعي ما يؤهّلهم للتصدر والإفتاء ولم تحنّكهم التجارب ولا الأيام يخوضون في مسائل وأمور لو عُرِضَت على عمر لجمع لها أهل بدر، فالله المستعان على ما يصفون.
ثالثاً: إنّ من أعظم أسباب النيل من العلماء والثّلب فيهم النفاقَ وكره الحقّ، وصدق الله حين وصف المنافقين بقوله: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ) [البقرة: 13]، وبقوله تعالى: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) [البقرة: 14]، فهؤلاء المنافقون وأمثالهم هم من أكثر الواقعين في أعراض العلماء لما في قلوبهم من المرض والبغض للحق وأهله.
وهؤلاء ـ أيها الإخوة ـ لا يستهدفون العلماء لذواتهم فحسب، بل إنهم يهدفون من وراء ذلك إلى جعل الناس يردّون ما يحمله ذلك العالم من الحقّ كحال المشركين مع الرسول سواء بسواء، فقريش لم تطعن في الإسلام أولاً، بل طعنوا في شخص رسول الله؛ لأنهم يعلمون يقينًا أنهم إن استطاعوا تشويهَ صورته في أذهان الناس فلن يقبلوا ما يقوله من الحقّ، ولذلك فجرح العالم هو جرح للعلم الذي معه وهو إرث محمد، وبالتالي فهو طعن في الإسلام من حيث يشعر هؤلاء أو لا يشعرون، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «من آذى فقيهًا فقد آذى رسول الله، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله جل وعلا»، والله تعالى يقول: ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ) [الأحزاب: 57] ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) [الأحزاب: 58]. إن هؤلاء العلماء من أولياء الله، وفي الحديث القدسي: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب» [رواه البخاري]، قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى: «إن لم يكن الفقهاء والعلماء أولياءَ الله فليس لله ولي».
أيها الإخوة، ينبغي علينا تجاه علمائنا عدة أمور:
أولاً: أن نحفظ لهم مكانتهم وفاعليتهم في قيادة الأمة وأن نتأدّب معهم ونناصرهم.
ثانيًا: أن نعلم أنه لا معصومَ إلا من عصمه الله، وعلى هذا فيجب علينا أن ندركَ أن العالم معرّض للخطأ فنعذره حين يجتهد فيخطئ، ولا نذهبُ نتلمّس أخطاءهم ونحصيها عليهم.
ثالثاً: أن ندرك أنّ الخلاف موجود منذ عهد الصحابة وإلى أن تقوم الساعة، فيجب أن تتّسع صدورنا له، فكل عالم له فهمه واطلاعه على الأدلة، ولكل منهم نظرته في ملابسات الأمور، فمن الطبيعي أن يختلفوا.
رابعًا: أن نحمِل أقوالهم على أحسن المحامل، وأن لا نسيء الظن فيهم وإن لم نأخذ بأقوالهم، فنحن لسنا ملزَمين بالأخذ بكل أقوال العالم إذا خالف الدليل باجتهاد منه، لكن ثمّة فرق كبير بين عدم الأخذ بقول عالم وبين الجرح فيه واستباحة عرضه.
خامساً: أن ننشغل بعيوبنا وأخطائنا عن عيوب الناس وأخطائهم وخصوصًا العلماء.
وما مثَل من يقع في أعراض العلماء وينسى نفسه إلا كما قال الشاعر:
كناطحٍ صــخرة يومـا ليوهنها
فلم يضرها، وأوهى قرنه الوعل
أو كما قال الآخر:
يا ناطح الجبـل العالـي ليُثلمـه
أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
قد يُقصّر العالم، ولكن هل يعني تقصيره أن نترك علمه وعمله؟!
اعمل بعلمي وإن قصرت في عملي
ينفعك علمي، ولا يضررك تقصيري
عباد الله: اعرفوا لأهل العلم قدرَهم وشأنهم، وأنزلوهم منزلتهم التي أنزلهم الله.
اللّهمّ احفظ علماءنا، وأحفظ الأمة بحفظهم. اللهم اعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
الحمد لله رب العالمين وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شرك له من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه.
وأشهد أن نبينا محمد اً عبده ورسوله، جاء في الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: «أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة. فقال: يا رسول الله متى الساعة. قال: وما أعددت لها؟. قال: لا شيء، إلا أنى أحب الله ورسوله. فقال: أنت مع من أحببت، قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي صلى الله عليه وسلم: أنت مع من أحببت. قال أنس فأنا أحب النبي صلى الله عليه وسلم وأبا بكر وعمر، وأرجو أن أكون معهم بُحبِّي إياهم وإن لم أعمل بعملهم».
ونحن نُشهد الله أننا نحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر، وعمر، وعثمان وعليّ وجميع أصحاب الحبيب النبي صلى الله عليه وسلم، وكل التابعين لنهجه وضربه المنير، ونتضرع إلى الله بفضله لا بأعمالنا أن يحشرنا معهم جميعاً بمنّه وكرمه، وهو أرحم الراحمين.
وأشهد أن حبيبنا ونبينا وصفينا محمد المصطفى صلى الله عليه وسلم.
عباد الله: اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون.
أيها الإخوة المؤمنون: مع اللقاء الثاني من سورة الحجرات، ففي هذا اليوم نتأمل النداء الإلهي الثاني في سورة الحجرات، وهو قول الله تبارك وتعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) [الحجرات: 2].
نزلت هذه الآية الكريمة في أبي بكر وعمر، فقد روى البخاري عن ابن أبي مليكة قال: كاد الخيّران أن يهلكا أبو بكر وعمر؛ رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه ركب بني تميم، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس أخي بني مجاشع، وأشار الآخر برجل آخر فقال أبو بكر لعمر: ما أردتَ إلا خلافي، فقال: ما أردت خلافك، فارتفعت أصواتهما في ذلك، فأنزل الله q: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) [الحجرات: 2]، قال ابن الزبير: فما كان عمر يُسمع رسول الله بعد هذه الآية حتى يستفهمه مما يخفض. وعن طارق بن شهاب عن أبي بكر ا قال: لما نزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) [الحجرات: 2] قلت: يا رسول والله لا أكلّمك إلا كأخي السِّرار.
أيها الإخوة، هكذا كانت استجابة الخيِّرين لهذه الآية، وهكذا دأب الصحابة في أدبهم مع رسول الله، وفي الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ثابت بن قيس فقال رجل: يا رسول الله، أنا أعلم لك علمه، فأتاه فوجده جالساً في بيته منكِّساً رأسه، فقال له: ما شأنك؟ فقال: شرّ، كنت أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عملي وأنا من أهل النار، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال: كذا وكذا، فقال صلى الله عليه وسلم: «اذهب إليه فقل له: إنك لست من أهل النار، ولكنك من أهل الجنة»، قال أنس ا: فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ونحن نعلم أنه من أهل الجنة. فهنيئًا له ثم هنيئًا له.
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: «قال العلماء: يُكره رفع الصوت عند قبره كما كان يكره في حياته؛ لأنه محترم حيًا وفي قبره.
ناظر أبو جعفر الخليفة مالكاً الفقيه العلامة الثقة المحدث، ناظره في المسجد النبوي، أي: مناقشة، فقال مالك للخليفة: «لا ترفع صوتك يا أمير المؤمنين في هذا المسجد، فإن الله تعالى أدب قوماً، فقال: ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) [الحجرات: 2] ومدح قوماً فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى ) [الحجرات: 3] وذم قوماً فقال: ( إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ ) [الحجرات: 4] وإن حُرمته ميتاً كحُرمته حياً«، فاستكان لها أبو جعفر، نزل عند نصيحة الإمام مالك/.
وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوتَ رجلين في مسجد النبيّ صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما، فجاء فقال: أتدريان أين أنتما؟! ثم قال: مِن أين أنتما؟ قالا: من أهل الطائف، قال: « لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضربًا». ولهذا فإنه ينبغي على الإنسان أن يتأدب مع سنّته وحديثه حين يسمعه أو يقرأه أو يكتبه.
ولله در مالك بن أنس إمام دار الهجرة رحمه الله، فلم يكن يحدّث بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اغتسل وتبخر وتطيّب وجلس على صدر فراشه وسرّح لحيته وتمكن من جلوسه بوقار وهيبة، ثم يقول: أحبّ أن أعظِّم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا أُحدِّث به إلا على طهارة متمكّنًا، وإذا رفع أحد صوته عنده قال: اغضض من صوتك فإن الله q يقول: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ ) [الحجرات: 2]، فمن رفع صوته عند حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فكأنما رفع صوته فوق صوت رسول الله، وقال: حُرْمته حيًّا ومَيْتًا سواء.
عباد الله: إذا كان جزاء من يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم حبوط العمل فما أعظم إثم من يعارض سنّته بعَقله ورأيه، وما أسوأ أدب من يناوئ الذّابين عنها وينتقصها ويهزئ بها وبأهلها كما نسمَع ونقرأ ونشاهد.
أيها المسلمون من خلال تعامل الإنسان مع النبي صلى الله عليه وسلم وتأثره به، يُعرف به هل هو سقيم مريض النفس في هذا الجانب، أم هو صحيح معافى.
أخي الحبيب إذا كنت تسمع حديثاً صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تجد أثراً لذلك الحديث على نفسك، أو إذا سمعته كأنما سمعت كلام الناس المعتاد فأنت مريض في التعامل مع رسول الله مرضاً عضالاً عظيماً، ولا بد أن تعالج نفسك.
إذا كنت لا تستشعر محبة رسول الله، ولا تستشعر الانتماء له فكيف تريد أن تُبعث تحت لوائه ( يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا ) [الإسراء: 71].
عبد الله
إذا كنت لا تستشعر محبتك للورود على حوضه، والشرب من حوضه شربةً هنيئة لا تظمأ بعدها أبداً، أو لا تستشعر تعظيمك لأصحابه وخلفائه الحاملين سنته الناشرين دعوته، أو تستشعر اشمئزازاً من أي خلق من أخلاقه أو وصف من أوصافه؛ فاعلم أنك مبتلى بداءٍ عضال.
لاحظ السنن والهيئات والأوصاف الواردة عن النبي صلى الله عليه وسلم، فإن وجدت في نفسك نفوراً من أية صفة من صفات النبي فاعلم بأنك مصاب بهذا المرض.
والذي يشمئز من الذين يُبلِّغون عن رسول الله، بحيث إنه إذا رأى إنساناً يبلغ عن رسول الله امتثالاً لقول المعلم الأعظم صلى الله عليه وسلم: «بلغوا عني ولو آية» وقوله صلى الله عليه وسلم: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب»؛ فإذا كان الإنسان يشمئز من هؤلاء ولا يتحمل سماع ما يقولون؛ فهو مبتلى بداءٍ عضال في التعامل مع رسول الله، ولا بد أن يعالجه قبل أن يُكتب له سوء الخاتمة.
عباد الله: التعظيم للنبي صلى الله عليه وسلم محله القلب، ليس الاحتفال بالمولد النبوي أو لطم الخدود وشق الجيوب، فأول تعظيم مطلوب منا هو التعظيم من القلب بالاعتقاد الجازم بنبوة النبي عليه الصلاة والسلام، وتقديم محبته على النفس والولد والوالد والناس أجمعين.
ومن تعظيم القلب استشعار هيبته عليه الصلاة والسلام، وجلالة قدره، وعظيم شأنه، واستحضار محاسنه ونحو ذلك.
ثم تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم باللسان، وذلك بحسن ذكره، وبدوام الصلاة عليه، والثناء عليه.
ثم تعظيم الجوارح، وأعظمه العمل بشريعته، وإتباع سنته، والتزام أوامره ظاهراً وباطناً.
ثم الشوق إلى النبي صلى الله عليه وسلم، اللهم لا تحرمنا جواره في الجنة يارب العالمين.
عباد الله: ألا تشتاقون لنبيكم محمد.
نسينا فِي ودادك كلَّ غال فأنت اليوم أغلى ما لدينا
نلام على مَحبتكم ويكفي لنا شرفا نلام وما علينا
تسلى الناس بالدنيا وإنّا لعمرو الله بعدك ما سلونا
ثم تذَكُّره وتمني رؤيته، روى مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: قوله صلى الله عليه وسلم: «من أشد أمتي لي حبًا ناس يكونون بعدي، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله».
عباد الله::
نُهينا أن نُقدِّم بين يدي رسول الله بأي أمر من الأمور، قال تعالى: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ) [الحجرات: 1]. ونهينا أن نرفع أصواتنا فوق صوته فقال تعالى: ( لا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ ) [الحجرات: 2]. أفنرضى بعد ذلك لإخوان القردة والخنازير وعُبّاد الأصنام والأوثان أن ينالوا من رسول الله؟! ولكنه والله الابتلاء لنا، قال تعالى: ( وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ ) [محمد: 4].
إن هذا الاستهزاء لن يضر رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء، ولن يهزّ ديننا أبدا، فالله قد قال لنبيه: ( فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ) [الحجر: 94] ( إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ) [الحجر: 95].
أيها المسلمون، إن العجب ليس من استهزاء هؤلاء بقدر ما هو ممن يسمع عِرض رسول الله يُنتهك ولا يغضب ولا يحزن، والله لئن سُبّ آباؤنا أو أجدادنا أو قبائلنا لغضبنا لذلك، أفلا نغضب لرسول الله صلى الله عليه وسلموهو والله أغلى من أنفسنا ومن أولادنا ووالدينا والناس أجمعين؟! نفديه بأرواحنا، أرواحنا دون روحه، نحورنا دون نحره، أعراضنا دون عرضه.
إمام المسلمين فداك روحي وأرواح الأئمة والدّعاة
رسول العالَمين فداك عرضي وأعراض الأحبة والتقاة
ويا علم الهدى يفديك عمري ومالِي يا نبِيّ المكرمات
فداك الكون يا عطر السجايا فما للناس دونك من زكاة
فأنت قداسة إما استُحِلّت فذاك الموت من قبل الممات
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وأشهد أن لا اله إلا الله تعظيماً لشانه، واشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه وعلى اله وأصحابه وجميع إخوانه.
وبعد
أيها المسلمون كما أمر الله بعدم رفع الصوت فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم حياً وميتا فكذلك نحن مأمورون بذلك مع ورثة الأنبياء العلماء..
فلقد أعلى الله تعالى شأنَ العلماء وأبان منزلتهم فقال: ( قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ ) [الزمر: 9]، وقال سبحانه: ( إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ) [فاطر: 28]، وقال تعالى: ( يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ ) [المجادلة: 11]، وقال تعالى: ( شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ ) [آل عمران: 18]، فبدأ ـ بنفسه وثنى بملائكته المسبحة بقُدسه وثلَّث بأهل العلم، وكفاهم ذلك شرفًا وفضلاً وجلالة ونبلاً، وفي البخاري من حديث معاوية رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من يردِ الله به خيرًا يفقهه في الدين»، وروى أبو الدرداء رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ليلة البدر، وإن العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورّثوا دينارًا ولا درهمًا، إنما ورثوا العلم، فمن أخذه أخذ بحظ وافر»، وقال ابن عمر ب: «مجلس فقه خير من عبادةِ ستين سنة»، وقال الحسن البصري رحمه الله : «كانوا يقولون: موت العالم ثلمة في الإسلام لا يسدها شيءٌ ما اختلف الليل والنهار»، وقال أبو مسلم الخولاني رحمه الله : «العلماء في الأرض مثلُ النجوم في السماء، إذا بدت للناس اهتدوا بها، وإذا خفيت عليهم تحيّروا»، وقال الفضيل بن عياض رحمه الله: «عالم معلّم يدعَى كبيرًا في ملكوت السماء»، وقال سهل بن عبد الله رحمه الله : «من أراد النظر إلى مجالس الأنبياء فلينظر إلى مجالس العلماء».
الناس من جهة التمثال أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهم نسبٌ يُفاخرون به فالطين والماء
ما الفضل إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئٍ ما كان يُحسنه والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلمٍ تعش حيًا به أبدا فالناس موتى وأهل العم أحياء
أيها الإخوة، من خِلال هذه النصوص الكريمة السابقة وهذه الأقوال المحفوظة يتبيّن لنا المكانة العظيمة والدّرجة العالية التي يتمتّع بها علماء الأمة، ومن ثم وجب علينا أن نوفّيَهم حقّهم من التعظيم والتقدير والإجلال وحفظ الحرمات ونحن أيها المسلمون ـ قد اُبتلِينا في هذا الزمن بمن يلمِز العلماء ويغمِزهم، بل يُصرّح بتنقّصهم وذمّهم ويتتبّع مثالِبَهم وعثراتهم ويتهمهم بالسذاجة والغفلة، تَرَك أعداء الإسلام والمنافقين والمحاربين لدين الله واشتغل بنجوم الأرض العلماء.
وهؤلاء مرضى القلوب على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، الذين ينالون من العلماء ويقعون فيهم في الصّحف وعلى شبكة الإنترنت وغيرها لم يدفعهم إلى ذلك إلا:
أولاً: الغِيرة والحسد والهوى، قال تعالى: ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ) [النساء: 54]، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «صاحب الهوى يعميه الهوى ويصمه»، وكان السلف يقولون: احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا قد أعمته دنياه.
ثانياً: التعالم وادِّعاء الفهم في الشريعة حتى أصبحتَ ترى أحداثًا أغرارًا لم يبلغوا من العلم الشرعي ما يؤهّلهم للتصدر والإفتاء ولم تحنّكهم التجارب ولا الأيام يخوضون في مسائل وأمور لو عُرِضَت على عمر لجمع لها أهل بدر، فالله المستعان على ما يصفون.
ثالثاً: إنّ من أعظم أسباب النيل من العلماء والثّلب فيهم النفاقَ وكره الحقّ، وصدق الله حين وصف المنافقين بقوله: ( وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ ) [البقرة: 13]، وبقوله تعالى: ( وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ) [البقرة: 14]، فهؤلاء المنافقون وأمثالهم هم من أكثر الواقعين في أعراض العلماء لما في قلوبهم من المرض والبغض للحق وأهله.
وهؤلاء ـ أيها الإخوة ـ لا يستهدفون العلماء لذواتهم فحسب، بل إنهم يهدفون من وراء ذلك إلى جعل الناس يردّون ما يحمله ذلك العالم من الحقّ كحال المشركين مع الرسول سواء بسواء، فقريش لم تطعن في الإسلام أولاً، بل طعنوا في شخص رسول الله؛ لأنهم يعلمون يقينًا أنهم إن استطاعوا تشويهَ صورته في أذهان الناس فلن يقبلوا ما يقوله من الحقّ، ولذلك فجرح العالم هو جرح للعلم الذي معه وهو إرث محمد، وبالتالي فهو طعن في الإسلام من حيث يشعر هؤلاء أو لا يشعرون، قال عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: «من آذى فقيهًا فقد آذى رسول الله، ومن آذى رسول الله فقد آذى الله جل وعلا»، والله تعالى يقول: ( إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا ) [الأحزاب: 57] ( وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا ) [الأحزاب: 58]. إن هؤلاء العلماء من أولياء الله، وفي الحديث القدسي: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب» [رواه البخاري]، قال الإمامان أبو حنيفة والشافعي رحمهما الله تعالى: «إن لم يكن الفقهاء والعلماء أولياءَ الله فليس لله ولي».
أيها الإخوة، ينبغي علينا تجاه علمائنا عدة أمور:
أولاً: أن نحفظ لهم مكانتهم وفاعليتهم في قيادة الأمة وأن نتأدّب معهم ونناصرهم.
ثانيًا: أن نعلم أنه لا معصومَ إلا من عصمه الله، وعلى هذا فيجب علينا أن ندركَ أن العالم معرّض للخطأ فنعذره حين يجتهد فيخطئ، ولا نذهبُ نتلمّس أخطاءهم ونحصيها عليهم.
ثالثاً: أن ندرك أنّ الخلاف موجود منذ عهد الصحابة وإلى أن تقوم الساعة، فيجب أن تتّسع صدورنا له، فكل عالم له فهمه واطلاعه على الأدلة، ولكل منهم نظرته في ملابسات الأمور، فمن الطبيعي أن يختلفوا.
رابعًا: أن نحمِل أقوالهم على أحسن المحامل، وأن لا نسيء الظن فيهم وإن لم نأخذ بأقوالهم، فنحن لسنا ملزَمين بالأخذ بكل أقوال العالم إذا خالف الدليل باجتهاد منه، لكن ثمّة فرق كبير بين عدم الأخذ بقول عالم وبين الجرح فيه واستباحة عرضه.
خامساً: أن ننشغل بعيوبنا وأخطائنا عن عيوب الناس وأخطائهم وخصوصًا العلماء.
وما مثَل من يقع في أعراض العلماء وينسى نفسه إلا كما قال الشاعر:
كناطحٍ صــخرة يومـا ليوهنها
فلم يضرها، وأوهى قرنه الوعل
أو كما قال الآخر:
يا ناطح الجبـل العالـي ليُثلمـه
أشفق على الرأس لا تشفق على الجبل
قد يُقصّر العالم، ولكن هل يعني تقصيره أن نترك علمه وعمله؟!
اعمل بعلمي وإن قصرت في عملي
ينفعك علمي، ولا يضررك تقصيري
عباد الله: اعرفوا لأهل العلم قدرَهم وشأنهم، وأنزلوهم منزلتهم التي أنزلهم الله.
اللّهمّ احفظ علماءنا، وأحفظ الأمة بحفظهم. اللهم اعصمنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن برحمتك يا أرحم الراحمين.
هذا وصلوا - عباد الله: - على رسول الهدى فقد أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ) [الأحزاب: 56].
اللهم صلِّ وسلّم على عبدك ورسولك محمد، وارض اللهم عن الخلفاء الأربعة الراشدين.
المرفقات
تأملات في سورة الحجرات-الجزء الثاني.doc
تأملات في سورة الحجرات-الجزء الثاني.doc