تأملات في الشمس خطبة مستفادة من الشيخ إبراهيم الحقيل

عبد الرحيم المثيلي
1444/12/05 - 2023/06/23 01:22AM

الخطبة الأولى

عباد الله: إن آيات الله في خلقه عظيمة، وآلاءه على عباده كثيرة.. فله سبحانه في الأرض آياتٌ كثيرة في نباتها وجمادها وحيوانها، في بحارها ومحيطاتها، وأنهارها وجبالها، وصحاريها وسهولها، وما لا يعلمه البشر من خلق الله أكثر وأعظم، فيالله ما أعظم خلقه! وما أدق صنعه!! وما عظمة المخلوق إلا أكبر برهانٍ على عظمة الخالق  (فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الخَالِقِينَ) [المؤمنون:14].

أيها المسلمون: وحديثنا – اليوم - عن آية من الآيات العظيمة، شرّفها الله فأقسم بها، وسخرها لخدمة البشر، فيها من المنافع لهم ما لا يعلمه إلا الله، إنها الشمس.. ذلك المخلوق العظيم التي تدل على عظمة خالقها.

ولضخامتها، وعجيب ضوئها، وما فيها من آيات استعظمها أقوامٌ فعبدوها من دون الله كما قال الهدهدُ لسليمان -عليه السلام-: {أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ} [النمل: 22].

وأخبر الله أنها من جملة آياته الكونية المخلوقة؛ فالحق أن يُعبد خالقُها لا أن تُعبد هي من دون..{وَمِنْ آَيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا للهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} [فصِّلت:37].

عباد الله: إنَّ حركة الشمس وضوءها، وإشعاعها ودفأها، وانتظامها في سيرها، وضخامة حجمها كان -ولا يزال عند البشر- مثار الدهشة، وموضع الانبهار، وكانت ولا تزال حجَّةً قائمة، وآيةً ظاهرة على عظمة خالقها جل وعلا.

أنهى إبراهيم -عليه السلام- بذكرها فصول المناظرة، وقطع حجج المخاصمة؛ { قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ المَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ المَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} [البقرة:258].

والشمس لم تتكبر على خالقها كما تكبر بعض البشر على الرغم من عظمتها وضخامتها؛ فهي تسبح الله. قال تعالى: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا} [الإسراء: 44]، وتسجد له -سبحانه-: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} [الحج:18]، وثبت في الصحيحين أن النبي r قال لأبي ذر t حين غربت الشمس: "أتدري أين تذهب"؟ قال: قلت: "الله ورسوله أعلم". قال: "فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش، فتستأذن فيؤذن لها، ويُوشك أن تسجد فلا يقبل منها، وتستأذن فلا يؤذن لها، فيقال لها: ارجعي من حيث جئت، فتطلعُ من مغربها، فذلك قول الله: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ}.

ومن عجيب شأنها أنها لا تكاد تغرب على جزء من الأرض إلا وتشرق على جزءٍ آخر؛ ففي كل لحظة لها مشرق ومغرب؛ ولذلك أخبر الله أن لها مشارق ومغارب متعددة. قال تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ المَشَارِقِ وَالمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} [المعارج:40-41].

وجعل الله لها مشرقاً في الصيف، ومشرقاً في الشتاء قال الله: {رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ} [الرحمن: 17، 18]

وعلى الرغم من عظمتها، وضخامة حجمها فإن الله تعالى جعلها مسخرة لخدمة الإنسان الضعيف، الذي أولاه الله كل هذا التكريم {وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ * وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ الله لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ} [إبراهيم:33-34].

وهذا التسخير من الله -تعالى- جعل فيها من الفوائد والمنافع ما لا يعد ولا يحصى، فالوقت إنما ضُبِط على ضوء حركتها، {وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا} [الإسراء: 12]. وأوقات الصلوات إنما تعرف بشروقها ودلوكها وغروبها {أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78]

تضيء النهار، وتبددُ الظلام، وتستيقظ على شروقها الأحياء في الأرض، من إنسان وطير وحيوان؛ فتسعى في رزقها، وتكتسبُ قوتها، وتعمُّ الحركةُ أرجاءَ الأرض على ضوئها ونورها. فإذا غربت خيّم الظلام، وعمَّ السبات، وخلدت الأحياء إلى الراحة استعدادًا ليوم جديد.

أرأيتم لو أنها أمسكت عن المغيب فلم تغب؛ كيف يرتاح الأحياء على الأرض؟! وكيف ينامون؟ ولو أمسكت عن الشروق فلم تشرق، كيف يعملون ويكتسبون؟ {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ* قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ * وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص:72- 73].

ولولا خلقُ الله الشمسَ، وتسخيرُها لنفع الأرض لما انتظمت الحياة فيها على هذا النظام البديع، فمن جرَّاء الشمس تحدثُ ظواهرُ في الأرض من تبخير المياه، وتحريك الرياح؛ مما يسبب هطول الأمطار، وانتفاع الأرض، وبث الحياة فيها.. والحبوبُ والثمار والنبات تنضج بتأثيرها، وتستمد طاقتَها من حرارتها، وتنتقل هذه الطاقة إلى الحيوان، ثم إلى الإنسان عبر سلسلة غذائية منتظمة.. وتحرق الشمس بحرارتها ما لا يعلمه إلا الله من الفطريات والجراثيم والبكتيريا، التي لولاها لانتشرت الأمراض والأوبئة؛ فلا يبقى على الأرض حياة.

خلقها الله وقدرها؛ فجعل مسافتها إلى الأرض تناسب إقامة الحياة على الأرض وعمارتها، فلو كانت أقرب مما هي عليه لأحرقت الأرض ومن عليها، ولو كانت أبعد لتجمدت الأرض، ومن عليها.

ويظهر ذلك جليًّا للإنسان في شدة البرد، وشدة الحر مع عدم خروج الشمس من فلكها، أو تخلخلها عن مدارها، فالله خلقها، وقدر بعدها وقربها بما يجعلها مسخرة لخدمة أهل الأرض {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ * وَالقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالعُرْجُونِ القَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ القَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس:38- 40].

 نعم: والله إنه تقدير العزيز العليم الذي خلق كل شيء فقدره تقديرًا.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالحَقِّ يُفَصِّلُ الآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) [يونس:5]. بارك الله لكم في القرآن العظيم.

الخطبة الثانية

عباد الله: للشمس وما يحدث منها من ظواهر ارتباط وثيق بيوم القيامة، فلأنها علامةٌ في الكون ظاهرة يراها كل البشر، كان اختلافُها واختلالُها عن نظامها علامةً على إيصاد باب التوبة، وآيةً على قيام الساعة، وذلك بطلوع الشمس من مغربها، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: "لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها". أخرجه أبو داود.

وفي عرصات القيامة للشمس دور كبير في ذلك اليوم؛ إذ تدنو من رؤوس الخلائق فيتأذون ويطلبون سرعة القضاء، قال النبي r: "تدنو الشمس يوم القيامة من الخلق حتى تكون منهم كمقدار ميل؛ فيكون الناس على قدر أعمالهم في العرق؛ فمنهم من يكون إلى كعبيه، ومنهم من يكون إلى ركبتيه، ومنهم من يكون إلى حِقْوَيه، ومنهم من يلجمه العرق إلجامًا"، "وأشار النبي r بيده إلى فيه". رواهُ الإمامُ مسلم.

وأما مصير الشمس بعد انتهاء العالم، وانقضاء الدنيا، فإنها تُكَوَّر ثم تُلقى في نار جهنم كما أخبر الله عن ذلك في القرآن.

أيها المسلمون: هذه قطوفٌ من أخبار الشمس ومنافعها ومصيرها، تلك الشمس التي يهرب الناسُ من شدَّة حرها في الصيف، فهلّا تذكَّرُوا حرارتها في الموقف حين تستخرج العرق من أجساد العباد، فتسيله في الأرض حتى يبلغ الآذان والأفواه! وهلا تذكَّروا ما هو أعظم من ذلك: حرارة جهنم التي لا تقضي عليهم فيموتوا، ولا يخفف عنهم من عذابها (كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا العَذَابَ) [النساء:56].

إن حرَّ الدنيا يذكِّرُ بحرِّ الآخرة، وإن لهب الشمس اللافح يذكر بلهبها في عرصات القيامة، ولن ينُجيَ من حرِّ ذلك اليوم إلا الإيمان والعملُ الصالح، والأخذ بالأسباب التي تجعلُ العبد في ظل الرحمن يوم لا ظل إلا ظلُه. وويل لمن كان في الدنيا منَعَّمًا، وفي الآخرة معذبًا.

ألا فاتقوا الله  عباد الله، واحذروا أسباب سخطه، وموجبات غضبه ...

ثم صلوا وسلموا على من أمركم الله بالصلاة ...

المرفقات

1687472547_تأملات في الشمس.doc

1687472548_تأملات في الشمس.pdf

المشاهدات 720 | التعليقات 0