(بين يدي العام الدراسي) خطبة مجمعة متعوب عليها

عبدالرحمن اللهيبي
1433/10/13 - 2012/08/31 02:11AM
أمّا بعد، فاتقوا الله عبادَ الله، وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
أيّها المسلمون، لا يشكّ أحدٌ ولا يتمارَى أنَّ مقامَ العلم وأهله مقامٌ لا يجَارى، وميدانَهم مَيدان سَبقٍ لا يُبَارى، وهل بُنِيَت الأمجاد وشيِّدَت الحضاراتُ عبر التأريخِ إلاّ على دعائِمِ العلم وركائزه؟! وهل ثَم أمّةٌ سادت بغيرِ العلمِ؟!
فالعِلمُ يا مسلمون هو أشرف مطلوب وأجلّ مرغوب وأعظَم موهوب. العِلمُ منبَع الفوائِد ومعقِل الفَرائِد , العِلم شرَف الدهر ومجدُ العصر ووِسام الفخر وتاجُ الشرف ..
العِلم كَنز وذخر لا نفادَ له نِعمَ القرينُ إذا ما صاحِبٌ صَحِبا
وأبلَغ من كل ذلك وأعز ,, قول المولى جلّ وعزّ: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ
معاشرَ المسلمين: لعلَّ حديثَ المناسبة يحلو ونحن نَعيش مع أبنائِنا الطلابِ وفتياتِنا الطّالبات إشراقةَ عامٍ دراسيّ جديد وإطلالَةَ موسِمٍ متألِّق في العِلم والمعرفةِ والتحصيل، ترتسِم على محيَّاه بسَمَاتُ الأمل الخلاَّبة وإشراقاتُ الفألِ الجذّابة في هممٍ وثَّابة ؛ لتحقيق مستقبَلٍ أفضلَ وبناء المجتَمع ونهضةِ الأمّة.
إِخوةَ الإيمان، حَجَر الزاوية في العمليّة التعليمية والتربويّة فئةٌ عزيزة على نفوسِنا غالِية في قلوبِنا، فِئة لها مكانتُها السّامِيَة ومنزلتُها السّامِقة ، فِئة جديرَة بالاحترام والتّكريم والتقدير وحفيَّةٌ بالاهتِمام والإجلال والتوقير، حقيقةٌ بالعناية والرّعاية والتبجيل؛ كيف وقد جَاء التنويهُ بذِكر مقامهم في محكم التنزيل؟! إنها فِئة البَذل والعطاء والمكرُمات من المعلِّمين والمعلمات والمربِّين والمربّيات.
إخوةَ الإسلام، المعلّمون هم النّجوم السّاطعة والكواكب اللامعةُ في سماء العلومِ والمعارف النّافعة، هم المصابيح المتلألِئة والشموع الوضّاءة التي تحترِق لتضيء الطريقَ للأجيال الصاعِدة ، هم حمَلة مشكاة النبوّة والمؤتَمَنون على ميراثِ الرسالة , أرأيتَ أعظمَ وأجلَّ منَ الذي يبني وينشِئ أنفسًا وعقولاً؟!
فيا أيّها الإخوة المعلِّمون، يا من شُرُفتم بأعظمِ مَهمّة وأشرف وظيفةٍ، هنيئًا لكم شرَفُ الرّسالة ونُبل المِهنة، فمهما عانَيتم وقاسَيتم ومهما جارَ البعض عليكم وقلَّل هيبتَكم فستظلّون أنتم المنهلَ العَذب الذي تستقِي منه الأجيالُ العلم والمعرفة.
ومهما نطَق اللّسان وسطّر البيان فسيظلّ عاجزًا أن يوفِيَّكم قدرَكم وينصِفكم حقَّكم ويكفيكم ثناءُ ربِّكم جلّ وعلا ومدحُ نبيِّكم ، أخرج الترمذيّ وغيره أنّ رسول الله قال: ((إنَّ الله وملائكته وأهلَ السموات وأهل الأرض حتى النملةَ في جُحرها ليصلّون على معلِّم الناس الخير)) الله أكبر، يا له من فضل عظيم وشرفٍ جسيم، لا ينتَظِر بعدَه المعلِّم من أحدٍ جزاء ولا شُكورًا.
أيها المعلمون: مع عِظَم التشريف يعظُم التّكليف، فاللهَ اللهَ في حَمل الرّسالة وأداءِ الأمانة ، فقد ائتَمَنتكم الأمّةُ على أعزِّ ما تملِك، على فلَذات أكبادِها وثمراتِ فؤادها، أليس يقضي الطالبُ شطرَ يومِه متقلِّبًا في أعطاف قِلاع التعليم وحصون التربية؟!
فيا أيّها المعلم المبارَك، اجعَل نصب عينيك الإخلاص لله في هذه المهمّة العظيمة، ولا يعزُب عن بالِك أن التعليمَ قُربة وعبادَة يُزدَلَف بها إلى الله تعالى ، فإن فقَد المعلّم الإخلاص لله تعالى فقد انتقَل من أفضل الطاعات إلى أسوَأ المخالفات، ومن أعالي الدّرجات إلى أحطِّ الدركات.
أيها المعلمون: إن أقبَحُ ما يَرى المتلقِّي من معلِّمه وهو يرمُق سلوكَه أن يخالف فعلُه قولَه، فإن وقع المعلّم في هذا الفعل المشين , فهلاَّ لنفسِه كان ذا التعليم، طبيبٌ يداوي الناسَ وهو سقيم، وأبلَغُ من ذلك قولُ الحق تبارك وتعالى: كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ وهل أبرَزَت تلك التناقضاتُ التربويّة إلا جيلاً يعيش معرّةَ التناقضِ والازدواجيّة وما تخلِّفُه من آثارٍ نفسيّة واجتماعيّة خطيرة. فأعيذك بالله ـ أيّها المعلّم الفاضل أن تكون مسهِمًا في شيءٍ من ذلك بصورةٍ أو بأخرى، فما ذاك إلا طعنةٌ بخنجَرٍ مسمومٍ في خاصِرة الفكر الصّحيح والمنهج السليم.
ومما يجدُر التذكيرَ به في هذا الصدَد ربطُ العِلم بالأدب، فهما صِنوَانِ لا يفترقان، وعلى هذا درَج السلفُ الصالح رحمهم الله، وهو من أعظمِ حِلية المعلِّم الموفَّق، عن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال: "كانوا يتعلَّمون الهديَ كما يتعلَّمون العلم"، وقال ابن المبارَك رحمه الله: "نحن إلى قليلٍ منَ الأدب أحوجُ منّا إلى كثيرٍ من العلم"، وقال ابن وهب: "ما تعلَّمنا من أدَبِ مالك رحمه الله أكثرُ مما تعلَّمنا من عِلمِه"
أيها المعلمون، لا بدّ من ربط العلم والتربيةِ بالمعتَقَد الصحيح والمنهجِ السليم والدين الحنيفِ ، رَبّوا الأجيال على منهَج النبي صلى الله عليه وسلم والصحب الكرام، حذِّروهم من الأفكارِ المنحرِفة والمسالك الضالّة والتيّاراتِ المخالِفة التي تسعى إلى التحلّل من القِيَم والثوابت , والانسِياق وراءَ التغريب والفساد .
أيها الإخوة المعلمون، إن من أهمِّ صفاتِ المعلِّم الناجِح أن يكونَ حسَن الألفاظ، دقيقَ الألحاظ، إيجابيًّا في طرحه، مراعيًا الفروقَ الفرديّة بين طلابه ، متجدِّدًا في أسلوب عرضِه، لا يقف في العِلمِ عند حدِّ الشهادة المؤقَّتة، بل العلم عنده كما قال الإمام أحمد رحمه الله: "من المحبرة إلى المقبرة".
ألا وإن من أهمِّ سمات المعلم الوقوفُ عند حدود علمه وعَدمُ الجرأة على الفتوى والقولِ على الله بغير علم , وسؤال مَن هو أعلَم منه وعَدم الاستنكاف من قول: "لا أدري"، يقول ابن عباس رضي الله عنهما: (إذا نسي العالم كلمة "لا أدري" فقد أصيبَت مقاتِله) ، ويقول عطاء: "لا أدري نِصف العلم".
وليحذر المعلّم الفاضل من أن يكونَ متنمِّرًا في العلم متطفِّلاً على غَير فنِّه، فمن تحدَّث في غير فنِّه أتى بالعجائب. وليَحذر أن يكونَ من أرباب الشبر الأول في العلم فقد قيل: "العِلمُ ثلاثةُ أشبار، من دخل في الشِّبر الأول تكبَّر، ومن دخل في الشّبر الثاني تواضَع، ومَن دخل في الشبر الثالث عَلِمَ أنه لا يعلم".
أيها المعلمون: حسبكم أن تقتدوا بالمعلم الأوّل ، ألا وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد قال الله فيه هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ
اعلموا أيها المعلمون أن آفة حسن القيام بالعمل هي السهر فالسهر سبب كل بلية وشر مالم يكن في خير , وما قصَّر المقصرون من المعلمين في أعمالهم من تأخر في الحضور وتكاسل في العمل إلا بسبب السهر والناجحون من المعلمين هم أصحاب النوم المبكر غالبا , كما أثبتت ذلك كثير من الدراسات والإحصاءات
أيها المعلمون: إنه مما يُكدر الخاطر أن نراكم تتبرمون من الأجيال وتتضجرون من الناشئة، نسمع هنا وهناك بعض صيحاتكم أن الأجيال تغيرت، والملهيات كثيرة، لكن قولوا لي بربكم: ماذا ينفع تضجركم؟! وماذا يجدي تبرمكم؟! ابذلوا ما تستطيعون، وقدموا ما تطيقون، زاحموا الشر الذي ترون، واعلموا أن الله يؤيدكم ويسددكم.
اجتهدوا في تعليم أبنائكم الطلاب، وضعوا رقابة الله دائمًا نصب أعينكم قبل رقابة البشر عليكم، اصبروا وارحموا واعطفوا، فإن من المعلمين من تبقى ذكراه عاطرة في أذهان طلابه، ومنهم من لسان حال طلابه ومقالهم مستريح ومستراح منه.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولجميع المسلمين من كلّ ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنّه هو الغفور الرحيم.




الحمد لله خالق اللَّوح والقلم، أحمده تعالى وأشكُره على ما أسدَى وأنعم، وأشهد أنّ نبيَّنا محمدًا عبد الله ورسوله الهادي إلى السبيل الأقوم، صلى الله عليه وعلى آلِه وصحبه وسلّم.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله، فإن تقوى الله هي الزاد والعُدّة , ومعراجُ السموِّ ومبعَثُ القوّة , والمعينُ على العِلم والعملِ والسلامةِ من الفتَن.
أيها المسلمون: العلم هو حياة القلوب ونور البصائر وشفاء الصدور ورياض العقول ولذة الأرواح وأنس المستوحشين ودليل المتحيرين، به يعرف اللهُ ويُعبد ويُذكر ويوحّد ويحمد ويمجّد، به اهتدى إليه السالكون، ومن طريقه وصل إليه الواصلون، ومنه دخل عليه القاصدون، به تُعرفُ الشرائع والأحكام وتَمييز الحلال والحرام، وبه توصل الأرحام، هو الصاحب في الغربة والمحدث في الخلوة والأنيس في الوحشة والكاشف عن الشبهة، مذاكرته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وطلبه قربة، وبذْله صدقة، ومدارسته تعدل الصيام والقيام، والحاجة إليه أعظم منها إلى الشراب والطعام"
فالله الله، أيها الطالب: اطلب العلم بإخلاصٍ وتجرّد، والله يسدّدك ويؤيدك، وكن صبورًا، ذا خلق رفيع، فلن ينال العلمَ مستكبر ولا أحمق.
اجعل أمام ناظريك قول حبيبك : ((من سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا سهل الله له طريقًا إلى الجنة))، واجعل في سويداء قلبك قولَ ربك : وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ ، جدّ واجتهد، ولا يغرنك كثرة البطالين؛ فإن من لم تكن له بداية محرقة لم تكن له نهاية مشرقة.
معاشر الآباء والأولياء، أنتم شركاء للمدرسة في مسؤوليتها، فهل تابعت أيها الأب أبناءك في دراستهم؟ هل زرت مدارسهم وسألت عن حالهم؟ إن من الآباء من آخر عهده بالمدرسة وقت تسجيل أبنائه فيها! أيها الأب هل تعرف جلساء ابنك؟ هل عرفت ذهابه وإيابه؟ هل اصطحبته للمسجد ومجامع الخير ومجالس الرجال، هل علمته مكارم الأخلاق، هل صوِّبت خطأه وشكرت صوابه، اعلم أيها الأب أن تربيت أبنائك جهاد، وأعظم به من جهاد ، فلعلَّك إذا كنت في قبرك وحيدًا فريدًا تأتيك أنوار دعواتهم فتنير لك قبرك، وتسعدك عند ربك.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ [البقرة:281].
ثم صلّوا وسلّموا ـ رحمكم الله ـ على معلِّم البشرية كما أمركم بذلك ربّكم ربّ البريّة، فقال تعالى قولاً كريمًا: إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [الأحزاب:56].
اللهم صلّ وسلّم وبارك على سيّد الأوّلين والآخرين ورحمة الله للعالمين نبيِّنا محمّد بن عبد الله، على آله الطيّبين الطاهرين وصحابته الغرِّ الميامين والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين...
المرفقات

244.doc

246.doc

247.doc

248.doc

249.doc

250.doc

251.doc

252.doc

المشاهدات 2645 | التعليقات 0