بين شقحب وعاصفة الحزم

عبدالله يعقوب
1436/06/12 - 2015/04/01 14:51PM
إن الحمدَ لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل الله فلا هادي له..
وأشهد ألَّا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا محمداً عبده ورسوله. (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ).
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا).
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا).


أما بعد... فإن أصدقَ الحديث كتابُ الله... وخيرَ الهدي هديُ محمد r، وشرَّ الأمور محدثاتها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فمن شذَّ عنهم فمات.. فميتته جاهلية والعياذ بالله.


أيها المسلمون... في سنة تسع وتسعين وستمائة (699ه)؛ هاجم المغول بلاد الشام بقيادة الطاغية غازان، وكانوا حينئذ قد تظاهروا بالإسلام، فتسموا بأسماء المسلمين والإسلام منهم براء، وسقطت مدن الشام في أيديهم الواحدة تلو الأخرى، فأشاعوا فيها القتلَ والدمار والاغتصاب، يساعدهم ويشجعهم طائفةٌ من النصارى الموتورين الذين تولوا كِبَرَ هذه الجرائم... ولا عجب فملة الكفر واحدة، ومهما تشتتوا واختلفوا إلا أنهم في عداء هذا الدين متحدين. وعلى الرغم من نهوض المماليك لصد هذا العدوان إلا أنهم هزموا في معركة الخزندار.
وفي شهر رمضان المعظم سنة اثنتين وسبعمائة، هاجم المغولُ بلاد الشام ثانيةً في جيش كثيف، ولكن الأوضاع هذه المرة قد تغيرت، وجهودُ شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله قد أثّرت في الناس، فثبتوا أمامهم ودافعوهم، وخرج السلطانُ المملوكي الناصرُ قلاوون على رأس جيشه من القاهرة، ومعه الخليفة العباسي المستكفي بالله، ووصل إلى الشام، وصمم المسلمون على الجهاد فإما النصر وإما الشهادة.
واجتمع الأمراء.. وتعاهدوا وتحالفوا على لقاء العدوّ، وشجَّعوا رعاياهم، ونوديَ بدمشق أن لا يرحل منها أحد، فسكن الناس، وهدأت نفوسهم، وجلس القضاة بالجامع يحلِّفون جماعة من الفقهاء والعامّة على القتال.
وتوقّدت الحماسة، وارتفعت الروح المعنوية عند العامة والجند.. وكان لشيخ الإسلام ابنِ تيمية أعظمُ التأثير في ذلك الموقف، فقد عمل على تهدئة النفوس، حتَّى كان الاستقرار الداخلي عند الناس والشعور بالأمن ورباطة الجأش.
ثم عَمِل على إلهاب عواطف الأمة وإذكاء حماستها وتهيئتها لخوض معركة الخلاص، ثمّ توجّه بعد ذلك إلى العسكر الواصل من حماة فاجتمع بهم، وأعلمهم بما تحالف عليه الأمراءُ والناس من لقاء العدو، فأجابوا إلى ذلك وحلفوا معهم.
وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يحلف للأمراء والناس: "إنكم في هذه الكرّة منصورون". فيقول له الأمراء: "قل إن شاء الله". فيقول: "إن شاء الله تحقيقًا لا تعليقًا". وكان يتأوَّل في ذلك أشياء من كتاب الله منها قوله تعالى: (ذلك ومَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عوقِبَ بهِ ثمَّ بُغِيَ علَيهِ لَيَنْصُرُّنَّهُ اللهُ).

وقد ظهرت عند بعضهم شبهات تفُتُّ في عضد المحاربين للتتار من نحوِ قولهم: "كيف نقاتل هؤلاء التتار وهم يظهرون الإسلام.. وليسوا بُغاة على الإمام؟.. فإنهم لم يكونوا في طاعته في وقتٍ ثم خالفوه؟".

فردَّ شيخ الإسلام هذه الشُّبهة قائلاً: "هؤلاء من جنس الخوارج الذين خرجوا على عليٍّ ومعاوية، رضي الله عنهما، ورأوا أنهم أحقُّ بالأمر منهما، وهؤلاء يزعمون أنهم أحقّ بإقامة الحقّ من المسلمين وهم متلبِّسون بالمعاصي والظُّلْم"... فانجلى الموقف، وزالت الشبهة، وتفطّن العلماءُ والناس لذلك، ومضى يؤكّد لهم هذا الموقف قائلاً: "إذا رأيتموني في ذلك الجانب -يريد جانب العدوّ- وعلى رأسي مصحف فاقتلوني"، فتشجّع الناس في قتال التتار وقويت قلوبهم.

وخرج أهلُ دمشق، يقودهم عالمهم الفذ ابن تيمية، لابسًا سلاحه، مع جماعة من العلماء، والتقى جيشَ المماليك القادم من مصر، واتحد معه في "شقحب" إحدى نواحي دمشق، ووصل المغول إلى هذا المكان، واصطف الجيشان، وسار السلطان والخليفة بين الصفوف، يشجعون الناس، ومعهم القراء يقرؤون القرآن، وكان الخليفة ينادي المجاهدين قائلاً: "لا تنظروا لسلطانكم، قاتلوا عن حريمكم وعلى دين نبيكم صلى الله عليه وسلم"، فبكى الجند وتواصوا على الثبات، وثبت السلطان ثباتا عظيما، وأمر بجواده فقيد حتى لا يهرب، وبايع اللهَ تعالى في ذلك الموقف، وجرت خطوب عظيمة، وقُتل جماعة من سادات الأمراء يومئذ، ثم نزل النصر على المسلمين قريب العصر يومئذ، واستظهر المسلمون عليهم ولله الحمد والمنة.

ولما جاء الليل.. لجأ التتار إلى اقتحام التلول والجبال والآكام، فأحاط بهم المسلمون يحرسونهم من الهرب، ويرمونهم عن قوس واحد إلى وقت الفجر، فقَتلوا منهم ما لا يعلم عدده إلا الله عز وجل، وجعلوا يجيئون بهم في الحبال فتضرب أعناقهم، ثم اقتحم منهم جماعة الهزيمة فنجا منهم قليل، ثم كانوا يتساقطون في الأودية والمهالك، ثم بعد ذلك غرق منهم جماعة في الفرات بسبب الظلام، وكشف الله بذلك عن المسلمين غمة عظيمة شديدة، ولله الحمد والمنة.

وفي يوم الاثنين الرابع من رمضان؛ رجع الناس إلى دمشق، فبشروا الناس بالنصر، وفيه دخل شيخُ الإسلام ابن تيمية البلد ومعه أصحابه من المجاهدين، ففرح الناس به، ودعوا له، وهنؤوه بما يسر الله على يديه من الخير.

وفي يوم الثلاثاء الخامس من رمضان؛ دخل السلطان إلى دمشق، وبين يديه الخليفة، وزُيّنت البلد، وبقيا في دمشق إلى ثالث شوال إذ عادوا بعدها إلى الديار المصرية.

وهكذا كان النصرُ ثمرةَ الجهاد.. بعد أن أعد له المسلمون، واستعدوا معنويًا وماديًا، وحقق الله عز وجل وعده لعباده المؤمنين إن هم صدقوا.
أيها الكرام.. معركة شقحب.. من أقل فتوحات المسلمين شهرةً وأقلها تناولاً من أقلام الكتاب والمؤرخين، ومع ذلك فهي تحوي دروسا كبيرة وعظيمة، نحاول أن نستفيد منها في واقعنا المعاصر وهي كالتالي:

- إن دور العلماء واضح وكبير في أوقات الأزمات التي تتعرض لها الأمة: ومعركة شقحب خير دليلٍ على ذلك، حيث الدور الكبير للإمام ابن تيمية في حشد الجنود وشحذ الهمم واستلهام القدرات القتالية، وثقته الكبيرة والقوية بالله في مسألة النصر، وبث تلك الثقة في كل من حوله.

كما عمل شيخ الإسلام على تحري أسباب النصر، فقد ضرب على أيدي المفسدين في دمشق، ومنع المعاصي من أن تنتشر في المجتمع، ثم بعد ذلك كله انطلق إلى طاغية المغول يجادله ويمنعه من دخول دمشق، لكي لا يصيبها ما أصاب أخواتها من مدن الشام، ومن ذا الذي يستطيع أن يجابه الطغاة غير العلماء.... ويصفُ المؤرخون ذلك اللقاءَ والحديثَ المفعمَ بالإيمان بين شيخ الإسلام وغازان، الذي جعل بطشَ الطاغيةِ ينقلب احترامًا وتبجيلاً لهذا العالم، ويطلبُ غازانُ من ابن تيمية أن يدعو له.. فيتوجه بيديه إلى السماء مناجيًا ربه بأن ينصره إن نصر الإسلام.. ويخذله إن خذل الإسلام.

إن من أسباب يقظة الأمة أيها الكرام.. العلم والوعي والمعرفة، ولا يقوم بهذا الدور مكتملاً إلا العلماء والمفكرون الذين هم روحُ الأمة وشريانُها النابض بالحياة، ولو تأملنا مراحل التغيير وحركات الإصلاح في العالم الإسلامي لرأينا أن العلماء الربانيين المخلصين كانوا في مقدمتها، خصوصًا في الدول الإسلامية التي وقعت في فترة من فتراتها تحت ظل الاستعمار الغربي، ونجد أن الذي قاوم الاستعمار، وأن الذي أيقظ وألهب روح الجهاد وتحرير البلاد هم العلماء العاملون.

- ومن دروس معركة شقحب: تربص النصارى والمشركين بالإسلام والمسلمين: حيث إن صراع الإسلام والنصرانية سيستمر إلى قيام الساعة، وهو فتنة، ابتلى الله بها المسلمين، وهذا قَدَرُهم وما عليهم إلا الصبر والمواجهة.

وقد علَّمَنَا القرآن، وبينت لنا السنة النبوية، أن هذا الصراع مستمرٌ دُوَلةً حتى تسقط فيالنهاية إحدى الجبهتين، وقد أخبرنا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نهاية هذا الصراع ستكون بانتصار المسلمين وظهور الإسلام على الدين كله، والقضاء على اليهود، وكسر الصليب.

- ومن دروس معركة شقحب: أنه لا يمكن للأمة أن تنتصر وهي غارقة في أوحال المعصية، فالمعاصي سببُ كل عناء، وطريق كل تعاسة وشقاء، ما حلت في ديار إلا أهلكتها، ولا فشت في مجتمعات إلا دمرتها وأزالتها، وما أهلك الله تعالى أمة إلا بذنب، وما نجا من نجا وفاز من فاز إلا بتوبة وطاعة، قال الله تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).
ولقد فشتْ كثير من المعاصي في مجتمعات المسلمين، فإلى متى الغفلة عن سنن الله؟
نريد النصر ونحن نعصيه!
نعوذ بالله من الأمن من مكر الله.

اللهم ثبت أقدام جنود السنة.. وانصرهم على المشركين الرافضة.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم.. ونفعنا بهدي سيد المرسلين.

أقول ما تسمعون.. وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين..

فتوبوا إليه واستغفروه إنه كان غفاراً.





الخطبة الثانية: الحمد لله حمدا حمدا.. والشكر لله شكرا شكرا..

أيها الكرام: يقول الحق سبحانه: (قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا)، وفي كل مناسبة يصطرع فيها الحق والباطل.. يقوم الذين في قلوبهم مرض بالتخذيل والإرجاف.. وهؤلاء هم العدو فاحذروهم، والواجب تثبيت المؤمنين كما أمر الله بها ملائكته الكرام: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا) فشارك مهمة التثبيت الكبرى، بكلمة صادقة أو دعوة، ولا تكن من المخذلين المرجفين الذين ينقلون الأكاذيب والأراجيف والشائعات.

أيها الناس: يتحدث البعض عن هذه الحرب وأنها حرب لأغراض سياسية وليست شرعية، وجوابا عن ذلك نقول: إن قتال المشركين الذين يهددون الحرمين الشريفين، ويجاهرون بإرادة احتلالها، من أوجب الواجبات الشرعية في حماية الحرمين... وما رأينا حرباً أجمع الناس على تأييدها والفرح بها كهذه الحرب، بل رأينا إجماعا من أهل العلم على صحة هذه الراية المرفوعة في قتال هؤلاء المشركين
الحوثيين الذين أفسدوا اليمن، وأوشكوا أن يدمروه، واحتلوا المدن، وقتلوا الأنفس، واستباحوا الأموال، وما دخلوا مدينةً أو بلداً إلا بدأوا بتفجير المساجد ودور تحفيظ القرآن الكريم فيه، حتى فجّروا أكثر من مائتي مسجدٍ ودارٍ، عدا الاستطالة على أعظم ثوابت الأمة (التوحيد)، فهم فاسدو المعتقد، يشركون بالله ليل نهار، يستغيثون بالبشر، وينادونهم من دون الله، ويشتمون أصحاب رسول الله، ويقذفون العرِض الشريف، ومع ذلك.. رفضوا دعوات الحوارِ والجلوسِ على طاولة المفاوضات، واللغةُ الوحيدة التي يفهمها الحوثي وحليفه المخلوع، وسيدهم في قم.. هي (عاصفة الحزم)... فاللهم أتم النصر.. ومُنَّ بالظفر.

أيها المؤمنون: مع بذل الأسباب، وأخذ الحيطةِ والحذر في مواجهة الخطر، ما أحوجنا في المعارك إلى الدعاء وصدق الافتقار إلى الله، (وما النصر إلا من عند الله)، (فلم تقتلوهم ولكن الله قتلهم)، ولذا لا بد من اللجوء إلى الله، وعدم الركون إلى القوة البشرية، وإنما الاعتماد على الله عز وجل، وقد كان من دعاء المصطفى صلى الله عليه وسلم عند القتال: (اللَّهُمَّ أَنْتَ عَضُدِي وَنَصِيرِي، بِكَ أَحُولُ، وبِكَ أُصُولُ، وَبِكَ أَجُولُ، وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللهِ)، فالله الله في الدعاء لولاة أمرنا بالتسديد والتوفيق، ولجنودنا الذين يدافعون عن بلاد الحرمين، ويناصرون المستضعفين في
اليمن، بالنصر والتأييد، مع تفويض التدبير لله، وكمال التوكل عليه، فهو من أعظم أسباب النصر والفلاح..

ربنا نبرأ إليك من حولنا وقوتنا.. إلى حولك وقوتك..
أنت القوي العزيز الغالب..
اللهم نصرك على أهل الأوثان وعبّاد القبور حوثية اليمن، ونصيرية الشام، واثني عشرية العراق، اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق وأيدهم بتأييدك.
اللهم انصر جنوداً أحبّوا صحابة نبيك ﷺ وترضّوا عنهم أجمعين، على الروافض الذين شتموا الصحابة ولعنوهم واتهموا العرض الشريف.
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا عدوا ولا حاسدين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان...
المشاهدات 2084 | التعليقات 0