بين حرثين

شايع بن محمد الغبيشي
1444/12/26 - 2023/07/14 01:40AM

بين حرثين

إنّ الحمدَ لله نَحْمَدُهُ ونستعينُهُ ونستغفرُه ونعوذ بالله من شرور أنفسينا وسيئات أعمالنا، من يهدِ اللهُ فلا مضل له ومن يضلل فلا هاديَ له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبدُهُ ورسُولُهُ ــ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسَلَّمَ تسليمًا كثيرًا.

أما بعدُ: فاتقوا الله عبادَ الله حق التقوى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)

عباد الله يقول تعالى {مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ}  ويقول تعالى{ وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا }

إن الله تعالى جعل للدنيا حرثا وزرعا، وجعل للآخرة حرثا وغرسا؛ فمن حرث للدنيا أوتي منها ما كتب له، ولكنه يخسر الآخرة، ومن حرث للآخرة فاز بالآخرة ولم يفته ما قدر له من الدنيا، بل تأتيه دنياه وهي راغمة.

 ومن حسنة حرث الآخرة أنه حرث مضاعف مبارك، ويبقى أثره ونفعه لصاحبه؛ لأنه تعامل مع الله تعالى، بخلاف حرث الدنيا فإنه غير مبارك ولا مضاعف ولا يبقى لصاحبه؛ فهو زائل عنه بالموت، والدنيا بأسرها زائلة بالآخرة (والآخرة خير وأبقى) (وللآخرة خير لك من الأولى)..

 إن زيادة حرث الآخرة ومباركته ومضاعفته ثابت بالقرآن الكريم {من كان يريد حرث الآخرة نزد له في حرثه} وفي آية أخرى {ومن أراد الآخرة وسعى لها سعيها فأولئك كان سعيهم مشكورا}.

 ومن فوائد إرادة حرث الآخرة أن الله تعالى يوفق صاحبه للازدياد منه، والتلذذ به، فكلما عمل عملا صالحا قاده إلى غيره، وهذا معنى من معاني الزيادة في قوله سبحانه (نزد له في حرثه) أي: نفتح له أبوبا أخرى من الخير، وندله على أعمال صالحة ما كان يعملها، ونعينه على عملها. ولا يوفق لذلك إلا أصحاب الإرادة الجازمة أما من يتمنى ولا يعمل فهو غير مريد حقيقة.

 وجاء في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من كانت الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ الله غِنَاهُ في قَلْبِهِ وَجَمَعَ له شَمْلَهُ وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ وَمَنْ كانت الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ الله فَقْرَهُ بين عَيْنَيْهِ وَفَرَّقَ عليه شَمْلَهُ ولم يَأْتِهِ من الدُّنْيَا إلا ما قُدِّرَ له) رواه الترمذي وصححه الألباني

وقال تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ} ([1])   

 قال قتادة: لو كان الله تعالى مُغفلا شيئًا من شأنك يا بن آدم، أغفل ما تعفي الرياح من هذه الآثار، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله، حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله أو من معصيته، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله، فليفعل.

وأوصى ابن الجوزي ابنه فقال: واعلم يا بني أن الأيام تبسط ساعات، والساعات تبسط أنفاساً، وكل نَفَسٍ خِزانة، فاحذر أن يذهب نَفَسٌ بغير شيء، فتَرى في القيامةِ خزانةً فارغة فتندم .

وقال إبراهيمُ الحربي عن أحمد بن حنبل: لقد صحبتُه عشرين سنة، صيفاً وشتاء، حرًّا وبرداً، ليلاً ونهاراً، فما لقيته في يوم إلا وهو زائد عليه بالأمس .

قال أنسُ بن عياض: رأيت صفوان بن سُلَيْم، ولو قيل له: غداً القيامة ما كان عنده مزيد على ما هو عليه من العبادة .وقال عبد الرحمن بن مهدي: لو قيل لحماد بن سلمة: إنك تموت غداً . ما قدر أن يزيد في العمل شيئاً  وكثير من السلف عمروا أوقاتهم بطاعة الله حتى لو قيل لأحدهم: إنك ميت غداً ما استطاع أن يزيد في الطاعة، فلنتأسى بهم عباد الله ونعلم أن الله دعانا إلى المسارعة والمسابقة في الخيرات {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا} ([2])  {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } ([3])  وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لِرَجلٍ وهو يَعِظُه:"اغْتَنِمْ خَمْساً قبلَ خَمْسٍ: ‌شبابَكَ ‌قبلَ هَرمِكَ، وصِحَّتَك قبل سَقْمِكَ، وغِناكَ قبْلَ فقْرِكَ، وفَراغَك قَبْلَ شُغْلِكَ، وحياتَك قَبْلَ مَوْتِكَ". رواه الحاكم وصححه الألباني

الخطبة الثانية:

الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَلاَّ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوانِهِ، صَلَّى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَعْوَانِهِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا. أما بعد:

عبد الله شمر عن ساعد الجد وابذل كل ما تستطيع من جهد لتكن من حراث الآخرة والله لا يضيع أجر من أحسن عملاً بادر ما دام في العمر بقية بادر ما دمت في زمن الإمكان .

فبادر إذاً ما دام في العمر فسحة            وعدلك مقبول وصرفك قيم

وجد وسارع واغتنم زمن الصبا       ففي زمن الإمكان تسعى وتغنم

وسر مسرعاً فالسير خلفك مسرعٌ       وهيهات ما منه مفر ومهزم

فهن المنايا أي واد نزلته                   عليها القدوم أم عليك ستقدم

عبد الله ما اسرع تقضي الأيام والليالي فتدارك الفرصة قبل أن تندم على فواتها وإياك ثم إياك من التسويف قال الماوردي رحمه الله: فينبغي لمن قدر على ابتداء المعروف أن يعجله حذرا من قوته ويبادر به خيفة عجزه ويعتقد أنه من فرص زمانه وغنائم إمكانه ولا يمهله ثقة بالقدرة عليه فكم من واثق بقدرة فاتت فأعقبت ندماً ومعول على مكنة زالت فأورثت خجلاً ولو فطن لنوائب دهره وتحفظ من عواقب فكره لكانت مغارمه مدحورة ومغانمه محبورة وقيل : من أضاع الفرصة عن وقتها فليكن على ثقة من فوتها" . ([4])  

قال ابن القيم رحمه الله : [ والله سبحانه يعاقب من فتح له باباً من الخير فلم ينتهزه بأن يحول بين قلبه وإرادته فلا يمكنه بعدُ من إرادته عقوبةً له ] ([5])  

إذا هبت رياحك فاغتنمها    * * *       فإن لكل خافقة سكون

ولا تغفل عن الإحسان فيها * * * فلا تدري السكون متى يكون



([1]) ـ [يّـس:12]
([2]) ـ [المائدة: 48]
([3]) ـ [آل عمران: 133]
([4]) ـ فيض القدير (4 /282)
([5]) ـ زاد المعاد (3 /501)

 

المرفقات

1689288003_بين حرثين.pdf

المشاهدات 643 | التعليقات 0