بين امتحانين: امتحان الدراسة وامتحان الآخرة

ياسر دحيم
1436/03/09 - 2014/12/31 15:54PM
[align=justify]الحمد لله ملء السموات وملء الأرض, وملء ما شئت من شيءٍ بعد، الحمد لله حمدا يوافي نعمهُ ويدفع نقمهُ ويكافئ مزيده، سبحانك اللَّهم لا نحصي ثناءً عليك، أنت كما أثنيت على نفسك, أحمدهُ سبحانه على نعمه, وأشكره على فضله, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المختار, صلى الله عليه وسلم؛ صلاة تتجدد بركاتها بالليل والنهار, وعلى آله الأطهار وأصحابه الأبرار, ومن تبعهم إلى دار القرار.

أما بعد:

أيها الأخوة المؤمنون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله: (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [البقرة: 282].

عباد الله: عما قريب سينتظم أبناؤنا في مقاعد الفصول الدراسية لأداء الامتحانات, ورغم أنها امتحاناتٌ سنوية, ربما لا تحدد مصيراً, ولا يصعب الفوز فيها, لكن كيف حال الممتحنين؟!.

إنك لتجد القلوب وجلةٌ, والنفوس قلقةٌ, ولا كلام بين الطلاب عند اقترابها إلا عن الامتحانات وكيفية الأسئلة, اعتكافٌ في البيوت من أجل الاستعداد لها, كلٌ يمني نفسه بالنجاح, وكلُّ أبٍ حريصٌ على أن يحقق ابنُه درجاتٍ مرتفعة, وأن يكون من أصحاب المراتب المتقدمة, وكلُّ ذلك حسنٌ وشيءٌ طيب, بل هو واجبٌ على الأب تجاه ابنه.

لكن -أيها الآباء, أيها الطلاب- ونحن نلمس هذا الجد والحرص الشديد على هذه الامتحانات, كلما بدأ موسمها يقترب في كل سنةٍ دراسية؛ يجدر بنا أن نضع سؤالاً: ماذا أعددنا للامتحان الأكبر؟! وكيف استعدادنا للامتحان الأعظم؟! لمَ نرى النفوس غير هيَابةٍ ولا قلقةٍ من أن تخفق وتفشل فيه؟! إنه الامتحان العظيم الذي من فشل فيه لا تنفعه شهاداته ولا منصبه ولا قبيلته ولا أمواله, إنه الامتحان الأكبر؛ حينما تقف بين يدي ربك فيسألك عن الصغير والكبير, والنقير والقطمير (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء: 47].

عبد الله: بين امتحانين: امتحان الدراسة وامتحان الآخرة والذي خُلقت له وإليه تسير, ما حالنا مع هذين الامتحانين ولمن ترجح الكفة منهما, سنعقد مقارنةً ليتضح لك -ياعبدالله- غفلةَ الكثيرين من الناس, وانشغالهم بالدنيا على حساب الآخرة.

اعلم -أيها المؤمن- أن الدنيا كلها امتحان, ومنذ أن وطئت قدمك هذه الحياة وأنت في امتحانٍ وابتلاء, حياتك امتحان, موتك امتحان, النعم امتحان, والمصائب امتحان, (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الكهف: 7], (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2], (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35].

إذا كانت فصول الدراسة مواقع امتحانٍ للطلاب؛ فموقع امتحانك هو هذه الحياة كلها, وإذا كان امتحان الطلاب له زمنٌ محدد معلوم تسحب بعده ورقة الإجابة؛ فامتحانك ليس له وقتٌ محدد, بل تُسجَّل أعمالك إلى أن يأتي أجلُك, وتطوى صحائفُ أعمالك, وإذا كان الطالب يعلم في أي وقتٍ ستُسحب منه ورقةُ الإجابة؛ فأنت لا تعلم ولا أحد يعلم متى تُغلق إجابةُ امتحانك, وذلك بإغلاق صُحُفك عند موتك وانتهاء أجلك.

في امتحانات الدنيا قد يعطي المدرس للطالب فرصةً بزيادة من الوقت, لكن الامتحان الأعظم لا يمدد وقته, (وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف: 34] قال النَّبي -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الله -عز وجل- يَقْبَلُ تَوبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ" [رواه الترمذي].

وإذا كان الطالب في قاعة الامتحان يهاب من المراقبين -إن كانوا شديدي المراقبة-, أو يستحي أن يروه وهو يغش؛ فإن الله جعل عليك مراقبَين يراقبان أعمالك، بل جعل معك ملكين لا يفارقانك, يسجلان كل ما يصدر منك, حتى تعرض عليك بين يدي الله -عز وجل-, (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) [ق: 16 - 18].

امتحان الدراسة قد تغش فيه وتخدع, وتراوغ وتتلاعب, أما الامتحان الذي خُلقت له فلا غش ولا خداع, إنما هي أعمالك تسجَّل لك أو عليك, ثم تكون النتيجة إما الفوز والسعادة الأبدية, وإما الخسارة والشقاء, (يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ * فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ * خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ * وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ) [هود: 105 - 108].

عباد الله: إذا كان هذا هو الامتحان الحقيقي, وبه يتعلق مصير الإنسان الأبدي, فأقدِّم لكم بعضاً من صور الامتحانات التي تُعرض على الإنسان في حياته إلى أن يصير إلى الامتحان الأعظم يوم الحشر والنشور:

أولاً: إن الحياة كلها دار امتحان كما مر معنى, خيرها وشرها, الفقر والغنى, الصحة والمرض, اليسر والعسر, والفوز لا يكون إلا بالعمل الصالح والطاعة, قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ يَبْتَلِي عَبْدَهُ بِمَا أَعْطَاهُ، فَمَنْ رَضِيَ بِمَا قَسَمَ اللهُ لَهُ بَارَكَ لَهُ فِيهِ وَوَسَّعَهُ، وَمَنْ لَمْ يَرْضَ لَمْ يُبَارِكْ لَهُ فِيهِ". [رواه أحمد والبيهقي].

ثانياً: النعم امتحان والإجابة عليها بالشكر باللسان والطاعة بالجوارح وتعظيم المنعم بالقلب, وسيسأل الإنسان عن كل نعمةٍ أنعمها الله عليه كيف عمل بها؟ والمصائب والبلايا امتحانات عظيمة لأصحابها, والإجابة عليها يكون بالصبر والرضا, وعدم الاعتراض على قدر الله تعالى, كما جاء عن النبي -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ لَيَبْتَلِي عَبْدَهُ الْمُؤْمِنَ بِالسُّقْمِ حَتَّى يُخَفِّفَ عَنْهُ كُلَّ ذَنْبٍ" [رواه الحاكم وصححه الألباني]. وقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِن الرجل ليَكُون لَهُ عِنْدَ اللَّهِ الْمَنْزِلَةُ فَمَا يَبْلُغُهَا بِعَمَلٍ, فَمَا يَزَالُ اللَّهُ يَبْتَلِيهِ بِمَا يَكْرَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ إِيَّاهَا" [رواه ابن حبان].

ثالثاً: من الامتحانات العظيمة امتحانُ العبد في قبره, بسؤال الملكين له عن ربه ودينه ونبيه, قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "فَأُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّكُمْ تُفْتَنونَ فِي قُبُورِكُمْ مِثْلَ أَوْ قَرِيبَ مِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ".

وقد يظن المرء أن الأسئلة سهلة, والإجابة عنها ستكون أسهل, لكن هيهات هيهات!! إنما التثبيت من الله تعالى لمن ثبُت في الدنيا على طاعة الله ورسوله, واستقام على دينه, قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ) [إبراهيم: 27], أما التثبيت في الدنيا فهو بحسن الخاتمة ونطقُ الشهادتين, وأما في الآخرة فهو في القبر عند سؤال الملكين, والتثبيت يكون للمؤمن, أما الظالم الفاجر فياويله يضله الله فلا يهتدي لجواب, ويخذله الله تعالى في موقفٍ عصيبٍ كهذا فلا يهتدي لصواب.

رابعاً: ومن الامتحانات: امتحانُ العبد وسؤالُه يوم الموقف, يوم لا يتزحزح حتى يسأله ربُه عن أربع, ففي الحديث: "لَا تَزُولُ قَدَمُ عَبْدٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ أَرْبَعٍ: عَنْ عُمْرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ، عَنْ شَبَابِهِ فِيمَا أَبْلاَهُ, وَمَالِهِ مِنْ أَيْنَ اكْتَسَبَهُ وَفِيمَا أَنْفَقَهُ، وَعَنْ عِلْمِهِ مَا عَمِلَ فِيهِ" [رواه الترمذي وصححه الألباني].

عباد الله: وإذا كان الطالب في امتحان الدراسة يدخل إلى قاعة الامتحان وهو لا يدري عن الأسئلة التي ستأتيه, فما أوضح الأسئلة التي ستُسأل عنها في قبرك بعد موتك, وفي عرصات القيامة!!. ولكن من منا استعد لهذه الأسئلة الواضحة, ما لنا نرى الاستعداد للدنيا والقلق والخوف على مستقبلٍ فانٍ, قد يأتيك أجلك قبل استلام شهادتك, أو الاستفادة منها في عملٍ أو وظيفة, وفي مقابل ذلك الاهتمام الشديد بامتحانات الدنيا وشهاداتها؛ نرى التفريط والتقصير في الاستعداد لامتحانات الآخرة, وحال الكثيرين منا أنه يبني دنياه ويهدم آخرته.

أيها المؤمنون: ما طموحُ الواحد منا؟! شهادةٌ يستلمها, أو منصبٌ يصل إليه, أو مكانةٌ مرموقةٌ يرتقي إليها, أو أموالٌ يجمعها, كلُّ الأماني دنيوية, نربي أجساد أبنائنا وننسى عقولهم وأرواحهم, نهتم بدنياهم ونهمل الاهتمام بآخرتهم, تحزن -أيها الأب- وتصاب بالغم إذا فشل ابنُك في امتحان الدراسة, أفلا تقلقْ عليه كذلك من امتحانٍ لو فشل فيه؛ خسر دنياه وآخرته.

تحبس ابنك عن اللهو واللعب ليستعدَّ لامتحان الدراسة, أفلا تحبسْه عن مشاهدة وسماع الحرام!!, أفلا تحبسه كذلك لحفظ كتاب الله تعالى فيكرمك الله به, بل أكثر الآباء لا يهتم كم حفظ ابنُه من القرآن, بل ربما لا يهتم به أهو يدرس في حلقات القرآن, أم يلهو ويلعب مع أصدقاء السوء فيما يهواه الشيطان؟!! استمعوا إلى هذا الحديث لتعلموا تبِعَةَ نعمةِ الأولاد والزوجة, قال رَسُول الله -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِن الله سَائلٌ كلَّ رَاع عَمَّا استرعاه حفظ أَمْ ضَيَّعَ حَتَّى يَسْأَلَ الرَّجُلَ عَنْ أَهْلِ بَيته" [رواه ابن حبان وصححه الألباني].

انظروا إلى واقعنا؛ كيف لو تأخر الابنُ ونام عن وقت الامتحان, كيف يكون شعورُ الأب, ألا يزجره, ألا يقسو عليه, ألا يعاقبه, ثم انظروا؛ كيف شعور ذلك الأب وهو يرى أولاده لا يصلون الصلاة التي فرضها الله عليهم, قد تكون صالحاً في نفسك طائعاً لربك, لكنك لم تؤدِ حق الله فيما ولاك عليهم، مفرِّطٌ مقصَّر, فيكون فشلُك في الآخرة بسبب هذا التفريط والتقصير. فاحذر -عبد الله- أن يكون ابنُك خصمَك يوم القيامة.

كم مَنْ فتى قد ضاع والجاني أبٌ ** لم يرعَ حقَّ اللهِ في الولدانِ
قد أحضروا زادَ البطونِ وملبساً ** والروحُ خاويةٌ بلا عُمْران
والهمُّ كلُّ الهمِ علمُ مدارسٍ ** ليفوزَ في الدنيا على الأقرانِ
ليكونَ دكتوراً وطياراً وقل ** ليصيرَ في الدنيا عظيمَ الشانِ
كلُّ الأماني أن يحققَ رتبةً ** عُليا ويجمعُ ذا الحطامَ الفاني
وسيبذلون المالَ في تعليمه ** أمَّا علومُ الشرع في نسيانِ
من ذاك من يرجو بنيه مجاهداً ** أو حافظاً أو عالماً رباني
لا يسألون عن الصلاة وقصَّروا ** بشرائع الإسلام والإيمانِ
والكفرُ في ترك الصلاة لجاحدٍ ** بوجوبها ولعاجزٍ كسلانِ
مُرْهُ بها يعتادها في سبعهِ ** واضربْه عند العشر بالعيدانِ
وردت بذا الآثار في السنن التي ** صحَّت عن المعصوم بالبرهانِ
فارعوا بنيكم إن أردتم فوزهم ** وفلاحَهم أُخرى من النيرانِ
مَن يصنع المعروفَ في أولادهِ ** يجدِ الجزا في جنة الحيوانِ

أيها المؤمنون: امتحانُ الدنيا مَنْ فشل فيه؛ فله الفرصةُ أن يعوِّض سنةً قادمة, أو يسلك طريقاً آخر غير الدراسة كعمل أو مهنة ينجح فيها ويبدع, أما امتحانُ الآخرة فلا تعويض فيه, ولا فرص أخرى تعطى للخاسرين, فقد أعطاهم الله في هذه الدنيا أكبر الفرص, لكنهم آثروا ما يفنى على ما يبقى.

(حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ * فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ) [المؤمنون: 99 - 103].

أقول ما سمعتم واستغفر الله لي ولكم ولوالدي ولوالديكم ولجميع المؤمنين والمؤمنات.


الخطبة الثانية:

الحمد لله الذي تقدست عن الأشباه ذاته، ودلَّت على وجوده آياتُه ومخلوقاتُه, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له خالق الخلق بما فيه, وجامع الناس ليوم لا ريب فيه, وأشهد أن سيدنا ونبينا محمداً عبده ورسوله, نبي شرح الله له صدره, ورفع الله له ذكره, ووضع الله عنه وزره, وجعل الذلة والصغار على من خالف أمره, صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وعلى سائر من اقتفى أثره, واتبع منهجه بإحسان إلى يوم الدين.

عباد الله: وهذه وقفاتٌ سريعة, وهمساتٌ عاجلة, أرسلها إلى الطلاب والمعلمين:

فأما الطلابُ فعليهم بالجدِّ والاجتهاد, واستغلالِ أوقاتهم فيما ينفعهم في الدنيا والآخرة, فعلى الطالب أن يصحح النية ويحسن القصد وهو جالس في الصف الدراسي, فإذا صلحت نيتُه كانت دراستُه عبادةً وطاعة, إن هو يتعلم ليبرَّ والديه اللذين يتعبان في سبيل دراسته, ونجاحه وتفوقه, إن الأب يكد ويتعب ليرى أبناءه في منزلة مرموقة في المجتمع, ولا يكون هذا إلا بالعلم سواءً كان العلمَ الشرعي أو العلمَ الدنيوي.

وأما إذا اجتهد الأبُ في ابنه, ووفَّر له كلَّ السبل الذي تعينه على النجاح, ولكن الابن يتكاسل ويخفق دون سببٍ, وإنما للعب واللهو وضياع الأوقات, فيُخشى أن يدخل هذا التكاسلُ في الدراسة في باب عقوق الوالدين, كيف وهو يدخل على والديه الحزنَ والهمَّ والغمَّ بتفريطه وتقصيره وفشله؟ وقد قال النبي -صَلَّى اللهُ عليه وسلم- لذلك الشاب الذي جاء إليه يبايعه على الهجرة, وقد ترك أبويه يبكيان, قال له النبي -صَلَّى اللهُ عليه وسلم-: "فَارْجِعْ إِلَيْهِمَا فَأَضْحِكْهُمَا كَمَا أَبْكَيْتَهُمَا" [رواه أحمد ، وأبو داود ، والنسائي ، وابن ماجه].

إن الأمة اليوم بحاجةٍ إلى أبنائها, يتعلمون ويتفوقون ليرفعوا عنها هذه التبعية للغرب في كل شيء, ويعيدوا لها أمجادها, فلا غنى للمسلمين اليوم عن علوم الدنيا, وما تطور الغرب وتفوق على المسلمين إلا في علوم الدنيا بينما المسلمون تخلفوا عنها, وقد كانت لهم الريادةُ في ذلك, بل إن كثيراً من العلوم المتطورة اليوم وضع بذرتَها وأساسَها علماءُ مسلمين في الطب والفلك والبصريات وغيرها, فإذا حسنت نيتُك -أيها الطالب- كُتب لك الأجر وأنت في صفك تدرس, وأنت في بيتك تراجع دروسك, فما أعظم ذلك؛ لكن أين الذين يُوفَّقون إليه؟!.

وهنا أحذر طلابنا من ظاهرةٍ متفشيةٍ هي ظاهرة الغش في الامتحانات, هذه الظاهرة أصبحت تتخذ أشكالاً وصوراً متنوعة, ويساعد فيها مدرسون, وإدارات مدرسية, بل ومسؤولو مراكز امتحانات, ائتمنهم المجتمع على قاعات الاختبارات, لكنهم خانوا الأمانة وضيعوها, فاحذر -أيها الطالب- أن تأخذ شهادةً لا تستحقها, وتصل بها إلى منزلةٍ لست من أهلها, ومن ترك شيئاً لله عوضه الله خيرا منه.

أما المدرسون فأمانتهم عظيمة, ودورهم خطير, والأمانة حملٌ ثقيل, فكيف إذا كان على رعية استرعاك الله عليهم؛ تزداد التبعة حينذاك, فاحذر -أيها المعلم- أن يكون خصماؤك يوم القيامة طلاباً مجتهدين ضاع مستقبلهم بسببك, بسبب تفريطك وتقصيرك, حيث جعلت الطلاب يغشون في قاعتك؛ كي تحظى عندهم بالمنزلة والثناء, لكنك ظلمت غيرهم حين شدَّد عليهم مراقِبٌ آخر في قاعةٍ أخرى؛ فتحصلوا على درجاتٍ منخفضة, فحُرِم المجتهدون من التكريم, وحُرموا من كليات يريدون دخلوها, فيما دخلها غيرهم من أهل النسب العالية بسبب الغش, أليس هذا ظلمٌ كبير, بسبب خيانة هذا المعلم, الذي لا يستحق هذا اللقب, بل هو عضو فاسد في المجتمع, يساعد على فساد المجتمع وخرابه بفساد التعليم الذي ترقى به الأمم.

أيها المعلم: وأنت في قاعة الاختبار تذكر قول الله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء: 58] فهل أديت الأمانة حقاً؟ وهل سماحُك للطلاب بالغش بهذه الصورة المزرية التي نراها اليوم في مدارسنا هو حكمٌ بالعدل بين الطلاب؟ للأسف رأينا طلاباً فاشلين يحققون نسباً عالية مرتفعة بسبب تساهل المراقبين, ورضى أولياء الأمور عن هذه الظاهرة القبيحة, ولكن المجتمع سيعاني مستقبلاً من جيل كبير من الخريجين, يحملون أعلى الشهادات في تخصصاتٍ مختلفة, لكنهم تحصلوا عليها بالغش, عقولٌ فارغةٌ بشهادات متخصصة!!.

إن على المعلم أن يكون ذا شخصية قوية, يخاف الله قبل أن يخاف غيره, ويطيع مولاه قبل أن يطيع أحداً سواه, لا تأخذه في الله لومةُ لائم, يعدل بين الجميع, ولا يهمه فسادَ غيره من المعلمين وسماحهم بالغش للطلاب, فكلُّ واحدٍ مسؤول عن نفسه وعن أمانته, إياك أن تسمح لطالبٍ بالغش لقرابته أو صحبة والده أو مكانة أبيه ومنزلته؛ فكل ذلك من خيانة الأمانة, ويالعِظَم الأمانة التي يتحملها المدرسون, عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "مَنِ الْتَمَسَ رِضَى اللَّهِ بِسَخَطِ النَّاسِ رَضِيَ الله تعالى عَنْهُ وَأَرْضَى النَّاسَ عَنْهُ وَمَنِ الْتَمَسَ رِضَا النَّاسِ بِسَخَطِ اللَّهِ سَخَطَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَسْخَطَ عليه الناس". فأنت بين أمرين, اختر ما شئت منهما, إما أن ترضي ربك ولو غضب عليك مَنْ غضب, أو ترضي الناس وتجاريهم في أهوائهم وما يتمنون؛ فيغضب الله عليك.

ألا صلوا وسلموا وأكثروا من الصلاة والسلام على هذا النبي العظيم والقائد الكريم, الذي أمركم ربكم -جل جلاله- بالصلاة والسلام عليه، فقال -عز من قائل كريم-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) [الأحزاب : 56].

اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
[/align]
المشاهدات 2555 | التعليقات 0