بَيْنَ الوَهْمِ والحَقِيقَةِ

يوسف العوض
1439/04/21 - 2018/01/08 14:09PM

الخُطبةُ الأُولى :

الْحَمْدُ لِلّهِ يُعِزُّ وَيُذِلُّ، وَيُكَرِّمُ وَيُهِينُ، وَيَخْفِضُ وَيَرْفَعُ، وَيُضْحك وَيُبْكِي- سُبْحَانهُ وَتَعَالَى- كُلَُ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ، أَحَيَا وأَفْنَا وَأَغْنَى وَأَقْنَى وَأَسْعَدَ وَأَشْقَى أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، أَرَسَّلَهُ اللَّهُ بَيْنَ يَدَيّ السَّاعَةِ بِالْحَقِّ بَشيرًا وَنَذِيرًا، صَلَوَاتُ رِبِّيّ وَسلَامُهُ عَلَيّهِ  وَعَلَى الآل الطِّيبَيْنِ وَالصَّحْبِ الْمَيَامِينَ وَعَلَى مَنْ تَبِعَهُمْ بِإحْسَانٍ إِلَى يَوْم الدِّينِ.

أَمَّا بَعْدَ:( يا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اِتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَمَتْ لِغَدٍ وَاِتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِير بِمَا تَعْمَلُونَ)..

أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ: حَديثِيّ الْيَوْمَ لِأُولَئِكَ الَّذِينَ تَنَكَّرَتْ لَهُمْ نُفُوسُهُمْ الَّتِي بَيْنَ أَضْلَاَعِهِمْ وَعَاشُوا فِي حَيْرَةٍ وَقَلَقٍ، وَاِضْطِرَابٍ وَأَرَقٍ واِسْتَوْطَنَ الهمُّ جنباتِهم!  لِأُولَئِكَ الَّذِينَ ضَاقُوا ذَرْعَا بِالْحَيَاةِ وَخَيَّمَتْ عَلَى سَمَائِهِمْ غُيُومُ الْغَمِّ وَالْكُرَبِ، وَتَمَنَّوا لَوْ غَيَّبَتْهُمْ الْأَرْضُ فِي جَوْفِهَا! لِأُولَئِكَ الَّذِينَ تَرْبُعَ الضَّنْكُ عَلَى أَكْبَادِهِمْ وَعَشَّعشَ الضَّيْقُ فِي أَعْمَاقِهِمْ وَخَالِجَ الشَّقَاءُ قُلُوبَهُمْ! لِأُولَئِكَ الَّذِينَ مَلُّوا الْحَيَاةَ وَفَقَدُوا لَذِيذَ الرُّقَادِ، وَطِيبَ الْعَيْشِ  فَهُمْ فِي تَعاسَةٍ وَكَمَدٍ وَحَيَّاتُهُمْ عَنَاءٌ وَنَكَدٍ! لِلْبَاحِثِينَ عَنِ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ، وعَنِ الْعَيْشِ الْهَنِيءِ ، لِلاهِثِينَ وَراءَ السَّعَادَةِ وَالسَّكِينَةِ ، لِلَذَّيْنِ يَرْجُوَنَ اِنْشِرَاحَ صَدَرُوهُمْ، وَهَدْأَةَ نُفُوسِهِمْ،وَرَاحَةَ بَالِهِمْ .. نَقُولُ لِهُمْ: حَارَ النَّاسُ فِي السَّعَادَةِ واخْتَلفوا فِي مصَادِرِها !! هَلْ هِي فِي الْمَالِ وَعِنْدَ أَصْحَابِهِ ؟ أَمْ هِي فِي الْمَنْصِبِ وَالْجَاهِ وَالْحَسَبِ وَالنَّسَبِ ؟ أَمْ هِي في الصِّحَّةِ وَالسَّلَاَمَةِ ؟ أَمْ هِي فِي الشّهرةِ وَالصِّيتِ مِنْ فَنٍّ وَطَرَبٍ وَلَعِبًّ ؟ فَلَوْ قُلَّنَا أَنّهَا فِي الْمَالِ فَالسّعدَاءُ هُمْ الْأَغْنِيَاءُ إِذَنْ ! وَلَكِنَّ هَيْهَاتَ كَمْ مِنْ غَنِيّ يَشْكُوَ الْحُزْنَ وَالْقَلَقَ وَالْخَوَّفَ عَلَى مَالِهِ ؟! فَأَصْبَحَ الْمَالُ نقمةً !! وَكَمْ هُمْ قَتْلَى الْمَالِ ؟! والواقع يخبرك عن نَكْبَاتِ سُوق الْأَسْهُمِ وَالْخَسَائِرِ التِّجَارِيَّةِ وَالصَّفْقَاتِ الْعَقَارِيَّةَ أنهم كَثِيرٌ !! فَكَمْ قَضَّتْ عَلَى رِجَالٍ كَانَ هَمُّهُمْ جَمْعَ الْمَالِ فَأَصْبَحُوا وَلَمْ يُمْسُّوا وَأَمَسُّوا وَلَمْ يُصْبَحُوا. وَلَوْ قُلَّنَا إِنّهَا فِي الْجَاهِ وَالْمُلَّكِ وَالسُّلْطَانِ فَيَتَبَادَرُ لِلَذَّهِنَّ أَنّهُ لَا يُوجِدُ بَيْنهُمْ حَزِينٌ أوَ كَئِيبٌ أوَ تَعِيسٌ !! وَالْوَاقِع يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ فَهِمَ أَكْثَرُ النَّاس خَوَّفَا وَأَكْثَرُ النَّاس أَعَدَاءً ! يَخَافُونَ عَلَى مِلْكِهم وَيُعَادِيهُمْ كُلُّ طَامِع حالِم فِي الْمُلَّكِ، مُحَاطُونَ بِالْأَعْدَاءِ عَددَ الْأصدقَاءِ وَرُبَّما يَزَيدُ. وَلَوْ قُلَّنَا أَنّهَا فِي الصِّحَّةِ وَالسَّلَاَمَةِ فَالْوَاقِعُ  يُنَافِي ذَلِكَ وَيُكْذِبُهُ !! فَكَمْ مِنْ مَرِيضٍ سَعِيد وَكَمْ مِنْ مُبْتَلَى رَضِيّ بِقَضَاءِ رَبِّهِ يَجِدَ سَعَادَةً عَظِيمَةً تَرَافُقُ مَرَضَهُ ! وَكَمْ مِنْ مُصَابٍ بِفَقْدِ عُضْوِ مِنْ جَسَدِهِ سعيدٌ ! وَكَمْ مِنْ مُعَاَفَى - وَهُمْ كَثُرٌ - تعسَاءُ نَاقِمُونَ قَلِقُونَ لَا يَتَذَوَّقُونَ طَعْمَ السَّعَادَةِ. وَلَوْ قُلَّنَا أَنّهَا فِي الشّهرةِ وَالصِّيتِ وَالْفَنِّ وَالْأَضْوَاءِ وَالْجُمْهُورِ وَالْإعْلَاَمِ فَالْحَقِيقَةُ بِخِلَاَفِهَا !! فَهِمَ أَكْثَرُ النَّاس تَعاسَةً يَتَظَاهَرُونَ بِالسَّعَادَةِ وَهُمْ أَتْعَسُ النَّاسِ وَأَشْقَاهُمْ فالمَشَهُورُ يَخَافُ أَنْ يَأْتِيَ الْيَوْمُ الَّذِي يَتَوَارَى فِيهِ عَنِ الْأَضْوَاءِ فَهُوَ فِي خوَّف وَقَلَقٍ دَائِمٍ كَثِيرُ الْمُشَاحنَاتِ وَالْعَدَاوَاتِ يَخَافُ مِنْ مُجَرَّد مُرُور الزَّمَنِ وَتَقَدُّمِهِ فِي الْعُمَرِ ثُمَّ تُطْوَى صَحِيفَةُ شهرتِهِ فَيَنْتَهِي فَهُوَ يسَيرَ وَراءَ سرَابٍ كَلَمَّا اِقْتِرَب مِنهُ أَزْدَادَ بُعْدَا.

أَيّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِذَنْ أَيْنَ السَّعَادَةُ الَّتِي يَرْكُضُ خَلْفَهَا الْبَشْرُ  ؟؟؟ السَّعَادَةُ هِي كَمَا قَالُ الْمَوْلَى:( مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى  وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاة طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ). السَّعَادَةُ لَا تَكَوُّنُ إلا لِأَصْحَابِ الْإيمَانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ وَهَؤُلَاءِ هُمْ السّعدَاءُ حُقًّا. لَنْ يَشْعُرَ الْقلَّبُ بِطَمَأْنِينَةِ الْاِسْتِقْرَارِ إلا فِي رِحَابِ الطَّاعَةِ، وَلَنْ يَحُسَّ بِبَرْدِ الْعَيْشِ، وَطِيبِ الْحَيَاةِ ؛ إلا فِي ظِلَّ الْأُنْسِ وَالْقُرْبِ مِنَ الرَّبِّ جَلَّ جَلَاَلُهُ وَلَنْ يُخَالِجَ النَّفْسَ شُعُورُ الرِّضَا إلا حِينَ تَصْطَلِحُ مَعَ رَبّ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ. إِنْ السَّعَادَةَ يا عِبَاد اللَّه فِي الصِّلَةِ بِاللَّهِ، فِي مُدَارَسَة كِتَابِهِ، فِي لُزُوم ذِكْرِهِ وَاِسْتِغْفَارِهِ. إِنّهَا الْحَيَاةُ الطَّيِّبَةُ يا أُمَّةَ الْإِسْلَامِ الَّتِي تَتَمَثَّلُ فِي الْاِفْتِقَارِ إِلَى اللَّهِ وَفِي تَعْظِيمِ حُرُمَاتِ اللَّهِ، وَفِي الإمتثال لِأوَامرِ اللَّهِ.

الخُطْبَةُ الثَانِيَةُ :

الحَمْدُ للّهِ وكَفَى والَّصَلاةُ والسَلامُ عَلى عَبْدِهِ المُصْطَفى وعَلى آلِه وصَحْبِهِ ومَنْ اقْتَفَى ..

يُقَوِّلُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:( ذَاقَ طَعْمَ الْإيمَانِ: مِنْ رَضِيِّ بِاللَّهِ رِبَا وَبِالْْإِسْلَامِ دَيْنَا وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ نَبِيَّا وَرَسُولَا) رَوَاهُ مُسْلِمُ

وَإِنّ أَوَّلَ السّعدَاءِ الَّذِينَ يَسْعَدُونَ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ الطَّيِّبَةِ أُولَئِكَ الَّذِينَ جَعَلُوا نَصْبَ أَعَيْنِهِمْ قَوْلَهُ سُبْحَانهُ:( وَمَا هَذِهِ الْحَيَاة الدُّنْيَا إِلَّا لَهْو وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ).

نسَألُ اللَّهَ الْكَرِيمَ رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ بِأَسْمَائِهِ الْحسنَى وصِفاتِه الْعُلَى أَنْ يَكْتُبَ لَنَا جَمِيعَا حَيَاةَ السّعدَاءِ وَأَنْ يُصْلِحَ لَنَا جَمِيعَا دَيْنَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمَرِّنَا وَأَنْ يُصْلِحَ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا وَأَنْ يُصْلِحَ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا وَأَنْ يَجْعَلَ الْحَيَاةً زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرِ وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلّ شَرٍّ  وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ وَعَلَى آله وَصَحْبهُ أَجَمْعَيْنِ.

المشاهدات 2789 | التعليقات 0