بين الهوان والتكريم

شايع بن محمد الغبيشي
1444/11/20 - 2023/06/09 00:48AM

بين الهوان والتكريم

إنِ الْحَمْدَ لِلَّهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلا مُضِلَّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ وَأَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ:

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وأَنْتمْ مُسْلِمُونَ))

((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا))

((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا، يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)) أما بعد:

عباد الله خلق الله المخلوقات وتكفل برزقها وتدبير أمرها {وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ } فانقسمت المخلوقات حيال نعم الله إلى قسمين: قسم كلهم شاكر لله عباد له مسبح وهو جميع المخلوقات إلا الإنسان فكان منهم الشاكر المُكرَّم ومنهم من حق عليه العذاب ووقع في الهوان { أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ } [الحج: 18]

الله ربي لا أريد سواه                  هل في الوجود حقيقة إلا هو
الشمس والبدر من أنوار حكمته     والبر والبحر فيض من عطاياه
الطير سبحه والوحش مجده              والموج كبره والحوت ناجاه
والنمل تحت الصخور الصمِّ قدسه    والنحل يهتف حمداً في خلاياه
والناس يعصونه جهراً فيسترهم           العبد ينسى وربي ليس ينساه

عباد الله لقد خلق الله الإنسان وكرمه على سائر المخلوقات وسخر له ما في السموات وما في الأرض جميعاً منه وأسبغ عليه نعمه ظاهرة وباطنة، نعم يعجز العبد عن إحصائها {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا} فالواجب أن يقابل ذلك الشكر والحمد والثناء، وأعظم الناس شكراً هم رسل الله عليهم الصلاة والسلام فقد وصف الله نوحاً بقوله جل وعلا: {ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا} ووصف إبراهيم عليه السلام بقوله: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ } وقال تعالى بعد أن عدد نعمه على داود وسليمان عليهما السلام: { اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} وتضرع سليمان عليه السلام إلى ربه جل وعلا بهذا الدعاء: { رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ }  وكان نبينا صلى الله عليه وسلم أعظم الناس شكراً لربه فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: أَنَّ نَبِيَّ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يَقُومُ مِنَ اللَّيْلِ حَتَّى تَتَفَطَّرَ قَدَمَاهُ، فَقَالَتْ عَائِشَةُ: لِمَ تَصْنَعُ هَذَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَقَدْ غَفَرَ اللَّهُ لَكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ؟ قَالَ: «أَفَلاَ أُحِبُّ أَنْ أَكُونَ عَبْدًا شَكُورًا فَلَمَّا كَثُرَ لَحْمُهُ صَلَّى جَالِسًا، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَرْكَعَ قَامَ فَقَرَأَ ثُمَّ رَكَعَ» رواه البخاري.

عباد الله إننا غارقون في نعم لا تعد ولا تحصى فالشاكر لنعم الله ينال الكرام والفلاح والكافر لها ينال الخسران والهوان والله غني عنه: {وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}

عبادة من أعظم ما يتقرب به العبد إلى ربه  أن يستشعر عظيم نعم الله عليه {وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ} فينبغي للعبد أن يقابل هذا الفضل والعطاء بالشكر والثناء فكيف إذا علمنا أنه يضاعف بالشكر المنن والعطايا، وفي المقابل ينزل بأسه وعذاب على من كفر نعمه {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ }

 قال الحسن البصري رحمه الله: إن الله لينعم بالنعمة ما شاء فإذا لم يشكر عليها قلبها عذاباً0

وقال أبو سليمان الداراني: استجلب زيادة النعم بالشكر واستدم النعم بخوف زوالها0

ولذا كان من دعاء النبي ( رَبِّ اجْعَلْنِي لَكَ شَكَّارًا، لَكَ ذَكَّارًا، لَكَ رَهَّابًا، لَكَ مُطِيعًا، إِلَيْكَ مُخْبِتًا، إِلَيْكَ أَوَّاهًا مُنِيبًا ) رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني

 والعبد مهما شكر الله وكرر الثناء عليه فهو عاجز عن شكر نعم الله عليه قال أعظم الشاكرين صلى الله عليه وسلم: ( لَا أُحْصِي ثَنَاءً عَلَيْكَ، أَنْتَ كَمَا أَثْنَيْتَ عَلَى نَفْسِكَ) رواه أبوداود وصححه الألباني

إذا كان شكري نعمة الله نعمة         علي له في مثلها يجب الشكر

فكيف وقوع الشكر إلا بفضله       وإن طالت الأيام واتصل العمر

إذا مس بالسراء عم سرورها       وإن مس بالضراء أعقبها الأجر

وما منهما إلا له فيه منة          تضيق بها الأوهام والبر والبحر


 

الخطبة الثانية:

الحمد لله عَدَدَ خَلْقِهِ، وَرِضَا نَفْسِهِ وَزِنَةَ عَرْشِهِ، وَمِدَادَ كَلِمَاتِهِ واشهد الا إله إلا الله وحده لا شريك له واشهد ان حمد عبده ورسوله أما بعد:
عباد الله بشكر نعم الله ننال التكريم الزيادة وبكفران النعم ننال الذل والهوان والحرمان، فلنكن من الشاكرين، وهنا يأتي السؤال من هو الشاكر لله عز وجل؟

الشاكر الحقيقي: من كان لسانه مشتغلا بالثناء على ربه معترفا له بنعمه وكان قلبه مملوءا بحبه وكانت جوارحه مشتغلة بطاعته استسلاماً له وانقياداً إليه، فليس الشكر كلمة تقال باللسان فحسب بل هي واقع عملي يعيشه العبد، يستغرق ليله ونهاره فكل ثانية من حياة العبد فيها من عظيم النعم ما يستوجب دوام الشكر.

وشكر العبد توفيق من الله يحتاج إلى طلب العون عليه من الله، ولذا أوصى النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه فقال: "يا معاذُ والله إني لأحِبُّك" فقال: "أُوصيكَ يا معاذ لا تَدَعن في دُبُر كُل صلاةٍ تقول: اللهُمَّ أعني على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسْنِ عِبادَتك" رواه أحمد وأبوداود وصححه الألباني

ومن أعظم صور الشكر دوام الذكر قال تعالى: { فاذكروني أذكركم واشكروا لي ولا تكفرون } قال ابن القيم رحمه الله: فالذكر والشكر جماع السعادة والفلاح.

عباد الله إن الغفلة عن شكر النعم وكفرانها يعرضها للزوال فهلاك الأمم وزوالها إنما كان بكفرانها لنعم الله قال تعالى {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ }، يا الله ما أوجع العقوبة، تأملوا عباد الله كيف قال أذاقها فكأنما تتجرع الخوف والجوع، ثم قال: لباس الجوع والخوف فهما ملازمان للعبد ملازمة اللباس له ولا حول ولا قوة إلا بالله.

قال ابن القيم رحمه الله: " أَجَاعَهَا بَعْدَ شِبَعِهَا، وَأَخَافَهَا بَعْدَ أَمْنِهَا، وَأَلْبَسَ بَوَاطِنَهَا ذُلَّ الْجُوعِ وَذُلَّ الْخَوْفِ، فَصَارَ ذَلِكَ لِبَاسًا لِبَوَاطِنِهِمْ تَذُوقُهُ وَتُبَاشِرُهُ"

يا عباد الله إننا نتقلب في نعم عظيمة فلنتق الله عز وجل ولنحذر من قوارع الزمان ولنعتبر بما حولنا من الديار، «اللهُمَّ نعوذ بِكَ مِنْ زَوَالِ نِعْمَتِكَ، وَتَحَوُّلِ عَافِيَتِكَ، وَفُجَاءَةِ نِقْمَتِكَ، وَجَمِيعِ سَخَطِكَ» هكذا كان يدعو حبيبنا صلى الله عليه وسلم.

ومن أعظم النعم وأحقها بالشكر عباد الله نعم الأمن التي ننعم بها في هذه البلاد وهي نعمة لا تقوم لها الدنيا بأسرها فقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ مُعَافًى فِي جَسَدِهِ عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا» رواه الترمذي وحسنه الألباني. وأعظم سبب لاستدامة هذه النعمة وسائر النعم الإيمان بالله وتوحيده وعمل الصالحات والحذر من المعاصي والسيئات قال تعالى: {الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ } وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} اللهم أوزعنا شكر نعمك يا حي يا قيوم. رَبِّ اجْعَلْنِا لَكَ شَاكرين، لَكَ ذاكرين، لَكَ راهبين لَكَ مُطِيعين، إِلَيْكَ مخبتين، إِلَيْكَ أَوَّاهين مُنِيبين يا رب العالمين.

المرفقات

1686260914_بين الهوان والتكريم.pdf

المشاهدات 566 | التعليقات 0