بين الكرم والإسراف

هلال الهاجري
1445/03/12 - 2023/09/27 07:03AM

إِنّ الْحَمْدَ ِللهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِيْنُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوْذُ بِاللهِ مِنْ شُرُوْرِ أَنْفُسِنَا وَسَيّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلاَ مُضِلّ لَهُ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلاَ هَادِيَ لَهُ، وأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاّ اللهُ وَأَشْهَدُ أَنّ مُحَمّدًا عَبْدُهُ وَرَسُوْلُهُ.

(يَا أَيّهَا الّذِيْنَ آمَنُوْا اتّقُوا اللهَ وَقُوْلُوْا قَوْلاً سَدِيْدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْلَكُمْ ذُنُوْبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللهَ وَرَسُوْلَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيْمًا)، أَمّا بَعْدُ:

جاءَ في كِتابِ المُستجادُ مِن فِعلَاتِ الأجوادِ للتَّنوخيِّ: (أنَّ رَجُلاً سَألَ حاتمًا الطَّائي فقالَ: يا حاتمُ هل غلبَكَ أحدٌ في الكَرَمِ؟، قالَ: نعم، غلامٌ يَتيمٌ مِن طيئ، نزلتُ بفنائِه وكانَ له عشرةُ أَرؤسٍ مِن الغنمِ، فعمدَ إلى رأسٍ منها فذبحَه، وأصلحَ مِن لحمِه، وقدَّمَ إليَّ، وكانَ فيما قدَّمَ إليَّ الدِّماغُ، فتناولتُ منه فاستطبتُه، فقلتُ: طيِّبٌ واللهِ .. فخرجَ مِن بينِ يَديَّ، وجعلَ يذبحُ رأسًا رأسًا، ويقدِّمُ إليَّ الدِّماغَ وأنا لا أعلمُ، فلمَّا خرجتُ لأرحلَ نظرتُ حولَ بيتِه دمًا عظيمًا، وإذا هو قد ذَبحَ الغنمَ بِأَسرِه، فَقُلتُ له: لم فعلتَ ذَلكَ؟، فقالَ: يا سُبحانَ اللهِ، تَستطيبُ شيئًا أملكُه فأبخلُ عليكَ به، إنَّ ذلك لسُبَّةٍ على العَربِ قبيحةً.

فقالَ يا حاتمُ: فما الذي عوَّضتَه؟، قال: ثَلاثُمَائةِ نَاقةٍ حَمراءَ، وخَمسُمَائةِ رَأسٍ مِن الغَنمِ، فقيلَ: أنتَ إذًا أَكْرَمُ منه، فقالَ: بل هو أكرمُ، لأنَّه جَادَ بكلِّ ما يملكُه، وإنَّما جُدتُ بقليلٍ مِن كثيرٍ).

ايُّها الأحبَّةُ .. هذه صُورةٌ من صُوَّرِ الكَرمِ، الذي تَبَاهى العَربُ من أَجلِه، وسُطِّرتُ الأشعارُ في أَهلِه، وضُربَ به الأمثالُ، وتَمادحَ فيه الرِّجالُ، وهَل سادَ من سادَ، وملكَ البلادَ والعبادَ، إلا بالكرمِ والشَّجاعةِ.

لَوْلا المَشَقّةُ سَادَ النّاسُ كُلُّهُمُ *** الجُودُ يُفْقِرُ وَالإقدامُ قَتَّالُ

في الجَاهليةِ، كَانَ الكَرمُ للشُّهرةِ والذِّكرِ، والمَدحِ والفَخرِ، كَمَا قالَ الغلامُ لحاتمٍ الطَّائي في سَبَبِ كَرَمِهِ: (إنَّ ذلك لسُبَّةٍ على العربِ قبيحةً)، فهو يُريدُ أن يَدفعَ عن نَفسِهِ مَذَمَّةِ العَربِ، ولذلكَ وقعَ في كَرمِهم الإسرافُ والعطَبُ.

وأما في الإسلامِ فقد قالَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ: (مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ)، فَجَاءَ الكَرمُ عبادةً للهِ جليلةً، فيه الأجرُ والإيمانُ والفَضيلةُ، إذا خَلا من الرِّياءِ والمُباهاةِ والإسراف، واحتَسَبَ الأجرَ في إكرامِ الأضيافِ، ولكنَّ العَجَبَ كلُّ العَجبِ، عِندمَا يَكونُ هذا الخُلُقُ الكريمُ، لا يُرادُ به وجهُ اللهِ العظيمِ.

 يا أهلَ الإيمانِ .. إن اللهَ سُبحانَه كريمٌ يُحبُّ الكُرماءَ، ويُعوِّضُهم في الدُّنيا قبلَ الآخرةِ من واسعِ العَطاءِ، يقولُ ابنُ القَّيمُ رحمَه اللهُ: (ومَن وَافَقَ اللهَ في صِفَةٍ مِن صِفاتِه، قَادتْهُ تلكَ الصِّفَةُ إليه بِزِمَامِه، وأدْخَلَتْهُ على رَبِّـه، وأدْنتْهُ مِنهُ وقَرَّبَتْهُ مِن رَحمتِه، وصَـيَّرَته مَحْبَوبًا له، فإنه سُبحانَه رَحيمٌ يُحِبُّ الرُّحَماءَ، كَريمٌ يُحِبُّ الكُرَماءَ).

ولذلك كانَ أكثرُ النَّاسِ كَرَماً هم أكثرُهم إيماناً، ولِذلكَ كَانَ عَطاؤه عليه الصَّلاةٌ والسَّلامُ للهِ تعالى، وترغيباً في دينِه، وتأليفاً لقلوبِ النَّاسِ إليه، فَقَد أَعْطَى صَفْوَانَ بْنَ أُمَيَّةَ مِائَةً مِنْ النَّعَمِ، ثُمَّ مِائَةً، ثُمَّ مِائَةً، قَالَ صَفْوَانُ: وَاللَّهِ لَقَدْ أَعْطَانِي رَسُولُ اللَّهِ صلى اللهُ عليه وسلمَ مَا أَعْطَانِي وَإِنَّهُ لَأَبْغَضُ النَّاسِ إِلَيَّ، فَمَا بَرِحَ يُعْطِينِي حَتَّى إِنَّهُ لَأَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ، فَأَسلَمَ صَفوانُ وحَسُنَ إسلامُهُ، وهذه نتيجةُ الكرمِ إذا كانَ خَالِصَاً لوجهِ اللهِ تعالى.

تعوَّدَ بَسْطَ الكَفِّ حتَّى لو انـَّهُ * * * ثناها لِقَبْضٍ لم تجِبْهُ أَناملُهْ
تـراه إذا مـَا جِـئتَهُ مُتـهلِّلاً * * * كأنَّك تُعطيهِ الذي أَنتَ سَائلُهْ
ولو لم يَكنْ في كَفِّهِ غَيرُ رُوحِهِ * * * لجَادَ بها فليتقِ اللهَ سَائلُهْ
هُو البَحْرُ من أيِّ النًّواحي أَتَيتَهُ * * * فلُجَّتُهُ المعروفُ والجُودُ سَاحِلُهْ

أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم ولجميعِ المسلمينَ من كلِّ ذَنبٍ فاستغفروه إنَّه هو الغفورُ الرَّحيمُ.

الخطبة الثانية:

الحمدُ للهِ على فضلِه وإحسانِه وأشكرُه على توفيقِه وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شَريكَ له، وأشهدُ أن محمداً عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلمَ تسليماً كثيراً، أما بعدُ:

أَيُّها الأحبَّةُ .. عِندَما نَقرأُ الأرقَامَ في دِراسةِ المَسحِ المَيداني التي أجرتهَا الهيئةُ العَامةُ للأمنِ الغِذائيِّ، والتي تَقولُ أنَّ نِسبةَ الفَقدِ والهَدر في الغِذاءِ بَلَغتْ 33.1 % بتَكلُفةٍ سَنويَّةٍ تُقدَرُ بِنحو 40 مليار ريالٍ، نَجِدُ أننا أَمامَ طَعامٍ يُهدَرُ، ونِعَمٍ لا تُشكَرُ، فَالمُبَاهاةُ بِصَرفِ الأموالِ الطَّائلةِ في المَطَاعمِ وفي البيوتِ وفي الولائمِ، وتَصويرِها للرِّياءِ والسُّمعةِ والفخرِ، لَيستْ للهِ ولا باللهِ ولا في اللهِ، لأنَّ اللهَ هو القائلُ سبحانَه: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)، فما ظَنُّكم بشعورِ إخوانٍ لنا يموتُونَ من الجُوعِ والحِصارِ، وإحساسِ آلافٍ من المسلمينَ دونَ مَأوى ولا دَارٍ، ومَاذا يقولُ الملايينُ الذينَ لا يَجدونَ قِيمةَ الإيجارِ.

فَيَا مَنْ أَنعمَ اللهُ عَليهِ، كُلْ أَنتَ وَأَهلكَ مَا يَكفيكُم دُونَ إسرافٍ، وأَكرمْ بِالمَعروفِ مَنْ جَاءَكَ من الأضيافِ، ثُمَّ اصرفْ ما فَاضَ على الفُقراءِ والمساكينِ، والأيتامِ والأراملِ والمُحتاجينَ، شاكراً لنعمةِ ربِّ العالمينَ، وإياكَ أن تكونَ أنتَ وغيرُك سَبباً لِتَبديلِ أمنِنا خوفاً، ورِزقِنا جوعاً، كما أخبرَ سُبحانَه: (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آَمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ)، فنحنُ سمعنا من أجدادِنا قِصصَ الجوعِ والخوفِ التي عاشوها في البِلادِ، ولكن، لا نريدُ أن نحكيَ لأبنائنا قِصصَ الأمنِ والنِّعمةِ التي عِشناها في هذه البِلادِ.

اللهمَّ ارزقنا شُكرَ نَعمائِك، وزِدنا من فضلِك وكرمِك وإحسانِك، وارزقنا الفوزَ برضوانِك، واعتقنا بفضلِك من نيرانِك، واحشرنا يومَ القيامةِ مع أنبيائِك وأوليائِك وأصفيائِك، برحمتِك يا أرحمِ الرَّاحمينَ، اللهم إنا نسألُك أن تردَّنا إلى الحقِّ ردًا جميلاً، اللهمَّ إنا نسألُك الهُدى والتُّقى والعَفافَ والغِنى، اللهم نَسألُك الأمنَ والإيمانَ في بلادِنا وبلادِ المسلمينَ، اللهمَّ من أراد بلدَنا هذا وبلادَ المسلمينَ بسوءٍ فأشغله في نفسِه، وردَّ كيدِه في نحرهِ، اللهم إنا نسألكُ الأمنَ والإيمانَ والسَّلامةَ والثَّباتَ على الإسلامِ يا رحيمُ يا رحمنُ.

المرفقات

1695787365_بين الكرم والإسراف.docx

1695787378_بين الكرم والإسراف.pdf

المشاهدات 2006 | التعليقات 0