بين الصفا ولبيك

سامي بن محمد العمر
1443/12/01 - 2022/06/30 15:31PM

بين الصفا ولبيك  

أما بعد:

بين الصفا ولبيك ... نشأت ملحمة الإيمان والتوحيد.

بين الصفا ولبيك ... تحطمت أصنام الشرك والتنديد.

بين الصفا ولبيك ... بزغ للبشرية فجر العزة والكرامة من جديد.

أمّا الصفا فمكان مرتفع من جبل أبي قبيس، وهو أحد شعائر الله في الحج والعمرة (إن الصفا والمروة من شعائر الله، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما) ولقد شهد هذا الجبلُ مشاهدَ عظيمةً في تاريخ الإسلام؛ الذي هو دين كل الأنبياء عليهم الصلاة والسلام..

فهذا عبد الله ورسولُه وصفيُه وخليلُه، إمامُ الحنفاء، ووالدُ الأنبياء عليه أفضل صلاة وتسليم، أمره ربه ببناء البيت العتيق؛ الذي هو أول مسجد وضع للناس يعبدون الله فيه، وبوأه الله مكانه؛ أي أرشده إليه ودلَّهُ عليه، 

    أتدرون لماذا؟؟ لترتفع راية التوحيد.. وليُسمِعَ إبراهيمُ العبيدَ نداءَ ربِّ العبيد.. {وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئا وطهر بيتي للطائفين والقائمين والركع السجود، وأذن في الناس بالحج}

أي: نادِ في الناس داعيا لهم إلى الحج إلى هذا البيت الذي أمرناك ببنائه. فذكر أنه قال: يا رب، وكيف أُبَلِّغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقيل: ناد وعلينا البلاغ. فقام على الصفا وقال: يا أيها الناس، إن ربكم قد اتخذ بيتا فحجوه، فيقال: إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض، وأسمع من في الأرحام والأصلاب، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة. أجابوه: "لبيك اللهم لبيك".  

وبين الصفا ولبيك ... قصة الإسلام المجيد. لقد قام إبراهيم عليه السلام يؤذّن بالحج، ويدعو الناس إليه فلبّى منهم من شاء الله، وبعد عشرات القرون يقوم محمد صلى الله عليه وآله وسلم يجدد دعوة أبيه إبراهيم على الجبل نفسه؛ فلباه من وفقه الله لحسن الاختيار، ومن كتب له عقبى الدار، وواجهه بالاستهزاء والاحتقار؛ من غلبت عليه الشقوة والصغار.

عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء، فصعد الصفا فنادى: ((يا صباحاه)). فاجتمعت إليه قريش، فقال: ((أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم، أكنتم تصدقوني؟ )). قالوا: نعم. قال: ((فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد)). فقال أبو لهب: تبا لك سائر اليوم. ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله: {تبت يدا أبي لهب وتب}([1]).

لقد أراد هذا المأفون أن يحبس ذاك النداء بين جنبات جبل الصفا فلا يتجاوزه؛ ولكن.. أبى الله ذلك.  فأين أبو لهبٍ اليوم.. ليسمع هذه الملايينَ تنادي كلها وتهتف «لبّيك اللهم لبّيك»، يلبّون دعوة الله التي بلَغَتْهم على لسان محمد عليه الصلاة والسلام؟  

وبين الصفا ولبيك ... قصة انتصار الرسول الطريد.

فإن الذي خرج من مكة طريدًا مهددا بالقتل.. ليس معه إلا أبو بكر، قد اجتمعت عليه أحزاب الكفر؛ فصَمَدَ، لأنه موعود بنصر الله. يعود إليها بعشرات الألوف من المؤمنين ... كما قال جابر رضي الله عنه في صفة حجة الوداع: (حَتَّى إِذَا اسْتَوَتْ بِهِ نَاقَتُهُ عَلَى الْبَيْدَاءِ نَظَرْتُ إِلَى مَدِّ بَصَرِي بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ رَاكِبٍ وَمَاشٍ، وَعَنْ يَمِينِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَعَنْ يَسَارِهِ مِثْلَ ذَلِكَ ، وَمِنْ خَلْفِهِ مِثْلَ ذَلِكَ) رواه مسلم (1218) .

يعود إليها وهو يقول: لبيك اللهم لبيك، ليقف مرة أخرى على الصفا ويقول: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير، لا إله إلا الله وحده، أنجز وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده»([2])  

عباد الله:

إن التلبية ليست جُمَلاً جوفاء.

التلبية.. كلمات جليلةُ المباني عظيمةُ المعاني..

هي: شعارُ عباد الله المخلصين.. المؤمنين الموحدين.. الشاكرين المستغفرين لبيك ...

شعار المساواة والإخاء، والود والصفا..

في ذاك الجمع الهائل الذي يرتدي غنيُّه وفقيرُه، رفيعُه ووَضيعُه، ثوباً واحداً، ويقف في مكان واحد وينادي بصوت واحد، «لبَّيكَ اللهمّ لبيك»، فتهتز من صياحه بطحاءُ مكة ويرُنّ صداه في جوانبِ العالم. هنالك تخشع القلوب، وتموت المطامع، وتَخْنَسُ الشياطين، ولا يبقى إلا الفضيلة ترفرف على رؤوس الناس([3])

.... بارك الله لي ولكم..  

الخطبة الثانية:

أما بعد:

عباد الله: أمة الإسلام اليوم على مقربة من يوم عرفة... عرفة التي هي بالأمس بسيط من الأرض لا دار فيها ولا ديار ... تصير في يوم واحد مدينة عظيمة فيها ألوف البشر بين غاد وسيار .. يلهجون بالتلبية نهارا جهار، ويرجون رحمة الكريم الغفار.

عرفة.. الخالية من كل مُشغِلٍ للقلب والعقل والبصر.. فلا جمالَ للمناظر.. ولا أدواتٍ للهو والتسلية.. ولا أناقةَ في اللباس ولا زينةَ ولا تفاخرَ ولا تفاوت.. وكل ذلك ... كيلا يشتغل الحجاج بها عن الخلوة بالله ودعائه ولذة مناجاته.

وكل ذلك... حتى لا يتكبر متكبر ولا يستعلي مستعلٍ فالكل من التراب وإلى التراب، والموفق منهم من يستعد ليوم الحساب.

والشيطان في ذاك اليوم أحقرُ ما يكون.. إذ تدمغه بالتوحيد أصواتُ المُلَبِّين في عرفات.. والمكبرين في المساجد بعد الصلوات..

فلا عجب ... أن يباهي الله بأهل عرفة ملائكته، وأن يكون أكثر أيام الله عتقاً من النار([4])، وأن يجعل الله جزاء صيامه تكفير سنتين: السنةِ الماضية والباقية.

فيا فوز الصائمين.. الذاكرين الداعين التالين المتعبدين.

عباد الله:

(لبيك اللهم لبيك) لا تنتهي بانتهاء الحج، فلله نداءاتٌ أخرى لكم: يأمر فيها بالتوحيد والإخلاص، واتّباع سبل الخير والتواصي بالحق والتواصي بالصبر،

فأصغوا لها وتسمَّعُوها في آيات كتابه وأقوال نبيه، فإذا تمثّلت لأذهانكم فلبوا بألسنتكم وقلوبكم، وأظهروا أثرها في السلوك والأعمال وفي كل مظاهر الحياة..

وقولوا على جبالٍ من الصفا ...

 لَبّيْكَ اللهُمَّ لبّيكَ، لبّيكَ لا شريك لك لبيك، إن الحمدَ والنعمةَ لك والمُلْكَ، لا شريك لك.

 

 

([1]) تفسير ابن كثير  (8/ 514)

([2])صحيح مسلم (2/ 888)

([3])ذكريات - علي الطنطاوي (3/ 207)

([4]) رواه مسلم في الصحيح.

المرفقات

1656603352_بين الصفا ولبيك.docx

1656603353_بين الصفا ولبيك.pdf

المشاهدات 489 | التعليقات 0