بين التقويم الهجري والميلادي

عمر الدهيشي
1433/02/04 - 2011/12/29 08:57AM
بين التقويم الهجري والميلادي 4/2/1433هـ
فأوصيكم بتقوى الله تعالى فإنها جالبة لمعية الرحمن،طاردة لتخبط الشيطان(إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون).
عباد الله..فمنذ أيام مضت ولد عام هجري جديد،وأشرقت شمسه مؤذنة بانتهاء عام كامل مضت أيامه،وانقضت لياليه،وطويت صحائف أعمال العباد فيه ليربح من ربح وليخسر من خسر.
عباد الله..إن كل أمة من الأمم السابقة اعتمدت تاريخاً لها مستمداً من دينها،وثقافتها،والأحداث الجارية فيها،فاختلفت التواريخ،وتنوعت الحسابات،من أمة لأخرى،وصارت كلُّ أمة تعتد بتأريخها،ولا تقبل عنه محيداً،لما في ذلك من تخليد لذكراها،واعتدادٍ بدينها،وإحياءٍ لثقافتها،فصار جزءً من حياتها وتكوينها.
وقد كانت العرب في جاهليتها تؤرخ بأيامها المشهودة،وأحداثها البطولية المعروفة،ووقائعها العظام،واستمر ذلك في حياة النبي ﷺ وخلافة أبي بكر رضي الله عنه،وصدراً من خلافة الفاروق عمر رضي الله عنه،ثم إنه مع اتساع الخلافة،وانتشار المسلمين في أصقاع الأرض،توافرت أسباب البحث عن تأريخ يعمل به المسلمون،يجتمعون عليه،ويرجعون إليه،فجمع عمر رضي الله عنه الناس سنة ست عشـرة أو سبع عشـرة من الهجرة،فشاورهم من أين يبدأ التاريخ؟فقال بعضهم:من بعثة النبي ﷺ،وقال آخرون:من موته عليه الصلاة والسلام،وقال عمر رضي الله عنه:من خروجه من مكة إلى المدينة،ولعله استنبطه من قول الباري سبحانه(لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه)وهو الملهم المحدَّث،فنال إحسانهم،واتفقوا عليه،قال الإمام السهيلي:وفي قوله تعالى(من أول يوم)وقد علم أنه ليس أول الأيام كلِّها،ولا أضافه إلى شيء في اللفظ ظاهر،فتعين أنه أضيف إلى شيء مضمر،ففيه من الفقه صحةُ ما اتفق عليه الصحابة مع عمر حين شاورهم في التاريخ،فاتفق رأيهم أن يكون التاريخ من عام الهجرة لأنه الوقتُ الذي عز فيه الإسلام...فوافق رأيهُم هذا ظاهرَ التنزيل،وفهمنا بفعلهم أن قوله سبحانه(من أول يوم)أن ذلك اليومَ هو أولُ أيام التاريخ الذي يؤرخ به الآن.)ا.هـ
فهذه الهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأزكى التسليم، حدث زمني متكـرر،له ارتباط وثيق بتاريخنا الإسلامي الخالد،وعلاقةٌ مباشرة بهويتنا الإسلامية المميزة،ومسيرتِنا المباركةِ الموفقة،وذلك بنشـر قيم الإسلام العادلة،وإحياءِ العدل،وقمع الظلم،وبثِ النور والدينِ الحق،وكشفِ الظلمة وإزالةِ الغمة عن البشرية كلِّها،فكل أمة لها تأريخ وحضارة وثقافة فإنها تتمسكُ بها،وتحافظُ عليها،وتتعاملُ بها،ولا يمكن أن تساوم عليها،أو تتهاون بها.
عباد الله..جعل الله تعالى النظام القمري الذي يعتمده المسلمون في تأريخهم،أساساً لحساب الزمن،ومعرفةَ أوائل الشهور،فربط به عبادةَ الصيام،والحج،والأشهرِ الحرم،وغيرِها،قال تعالى:(يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج)(إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السماوات الأرض منها أربعة حرم)، وقد علق سبحانه معرفة السنينَ والحسابِ على تقدير القمرِ منازلَ دون الشمس،وذلك في قوله تعالى(هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا وقدره منازل لعلموا عدد السنين والحساب)كما ذكره ابن جرير وغيره.قال شيخ الإسلام ابن تيمية:إن الأنبياء ما وقتوا العبادات إلا بالهلال،وإنما اليهود والنصارى حرفوا الشرائع)ا.هـ وهذا كله من رحمة الله تعالى بعباده،ولطفه بهم،إذ إن ظهور هذه العلامة في السماء مشاهدٌ ومحسوس،لا يحتاج إلى حساب ولا كتاب،بل يميزه العالمُ والجاهل،والصغيرُ والكبير،والحاضرُ والباد، فعن ابن عُمَرَ رضي الله عنهما يحدث عن النبي ﷺ أنه قال: «إِنَّا أُمَّةٌ أُمِّيَّةٌ لَا نَكْتُبُ ولا نَحْسُبُ الشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا وَعَقَدَ الْإِبْهَامَ في الثَّالِثَةِ يعني تسعاً وعشرين،وَالشَّهْرُ هَكَذَا وَهَكَذَا وَهَكَذَا يَعْنِي تَمَامَ ثَلَاثِينَ»متفق عليه. بخلاف سير الشمس فإنها تحتاج إلى حساب دقيق وعلم واطلاع،ولا يدرك ذلك إلا الأقلون من الناس. كذلك من المعلوم أن دورة أيام السنة تمر بأربعة فصول من شتاء وربيع،وصيف وخريف،فكون العباداتِ كالصيام والحج وغيرِها تتراوح بين تلك الفصول،من سنة إلى أخرى فيه رفق بالمتعبدين،وعون للمتبتلين،وثبات للمطيعين...
عباد الله..إذا كان اليهود في دولتهم المصطنعة،لا مجد لهم ولا تليدَ يعتزون ويفتخرون به،بل كانوا في ذيل الأمم،ومع ذلك هاهم يتعلقون بخيوط العنكبوت،حتى أحيوا لأنفسهم تأريخاً غابراً عفا عليه الزمن وشرب،وهاهم اليومَ يفرضونه واقعاً على أنفسهم،فكيف يصح لأمة الإسلام ذات المجدِ التليد،والتاريخِ الحافل،الذي عانق الآفاق،وامتد أثرُه،ولا يزال في عروق أبنائه الذين ضخوه في عروق غيرهم نوراً وهدى ورشادا،أن تغض الطرف عن تأريخها،ومنطلقِ نشأةِ دولتها الأولى،وتتخلى عما سار عليه أسلافُها واعتمدوه،لتصبح في تبعية بغيضة ذليلة للنصارى في تأريخهم منذ عصـر الاستعمار في القرن المنصـرم إلى يومنا هذا.. فلنحافظ على هويتنا الإسلامية،وخصوصيتنا الحضارية من خلال احترامنا لتاريخنا الهجري،وحرصِنا على التعامل به دون ما سواه في مختلف شؤون حياتنا،لا سيما وأنه مرتبط بأحد أكبر الأحداث في تاريخ أمتنا الإسلامية التي شاء الله أن تكون آخر الأمم وأكرمَها.
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى،والصلاة والسلام على من بعثه الله بالنبوة والبشرى أما بعد: فا تقوا الله حق التقوى
عباد الله..احتفل العالم النصراني قبل أيام بعيد ميلاد المسيح زعموا،معلنين مرور ألفين وأحدى عشر عاماً على ولادته عليه السلام،معتزين بديانتهم،مفتخرين بتأريخهم،وقد سبق عيدهم هذا أعيادٌ أخرى خلال السنة الميلادية..وإن مما يؤسف له تبعيةَ بعض المسلمين لهم،ومشاركتَهم في احتفالاتهم،التي نهى عنها النبي ﷺ بقوله: من تشبه بقوم فهو منهم.
ونتسائل هنا هل ميلاد المسيح عليه السلام صحيح كان في هذا الشهر الشتوي؟؟هذا ما يرده القرآن الكريم،بل والأناجيل على كثرتها والتحريفَ فيها لم يرد نصٌ يفيد بولادة عيسى عليه السلام شتاء،وأيضاً بشهادات علماء مسلمين وكذلك نصارى،ومن ذلك قول الله تعالى في قصة ولادة مريم للمسيح عليهما السلام:(فأجاءها المخاض إلى جذع النخلة)إذ لو كان الجو شتاء للجأت إلى كهف أو مكان آخر يحميها من البرد الشديد،خاصة في مثل حالها الضعيف،وضعفِ قواها من شدة آلام المخاض (قالت ياليتني مت قبل هذا وكنت نسيا منسيا فنادها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا)والسَّرِيُّ:هو جدول الماء الجاري الساري،وهو فرع من النهر،فلو كان الجو شتاء لم يجر هذا النهرُ الصغير،بل سيجمد،خاصة إذا علمنا أن عيسى عليه السلام ولد في بلاد الشام،(وهزي إليك بجذع النخلة تساقط عليك رطبا جنيا)ومن المعروف أن الرطب هو آخرُ مراحل نضج التمر؛إذ إنه يكون أول أمره طلعاً ثم بَلَحَاً،ثم بُسراً،ثم رُطبا،ولا يصل إلى هذه المرحلة إلا مع شدة الحرارة التي تكون في الشهرين الثامنَ والتاسعَ من الأشهر الميلادية،ووصف الرطب بأنه جنياً أي حان وقت جنيه،وحلِّه المعتاد( فكلي واشربي وقري عينا)،وقال سبحانه في موضع آخر(وجعلنا ابن مريم وأمه آية وأويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين)أي:أنها أرض منبسطةٌ مستويةٌ مثمرةٌ،ماؤها جارٍ كثير،قد استوى فيها،وهو ظاهر للعين،وليس في أغوار الأرض،فالثمر موجود في الربوة مسبقاً،وكذا الماء،مما يدل على أن الوقت لم يكن شتاء قارساً،لا يَنْبُتُ فيه الثمر،أو لا يجري فيه الماء لتجمده.
وقد توصل الباحث عالم الفلك والمتخصص في التقويم الشمسـي والقمري محمد كاظم حبيب الحائزُ على براءة اختراع التقويم الأبدي من الولايات المتحدة الأمريكية،إلى أن الدراساتِ العلميةَ التأريخيةَ تشير إلى أن سنة ميلادِ المسيح عليه السلام الصحيحةَ تسبق الفعليةَ بأربع سنوات تقريباً،وأن التقويم الميلادي أبعدُ ما يكون عن ميلاد المسيح عليه السلام شكلاً ومضموناً،وحري به أن يسمى بالتقويم الرُّوماني،فليست بدايته غيرَ متطابقة مع تأريخ ولادة المسيح فحسب،ولكنها مخالفة أيضاً للبحث العلمي التأريخي،ولمعطيات القرآن والإنجيل..وقال المؤرخ آندي فواسي:ولكن لتصدقوا أو لا تصدقوا،فإن كل العاداتِ التي تحيط بأعياد الميلاد،والكثيرُ غيرَها من الأعياد المسيحية،لا علاقة لها بالمسيح،بل إن الأمر أسوأ من ذلك،فهي تعود في أصولها إلى ممارسات دينية وثنية.
من الممكن لهذا أن يصدم بعضَ الأشخاص،ولكنها الحقيقة،وما أسهل التدليلَ عليها،وهناك عشراتُ الآلاف من الكتب تبين ذلك..الخ.
عباد الله..كل ما سبق ليس مجرد تحرير تأريخ،أو تصويبَ خطأ رقمي،بل هو أعمق من ذلك،فهو يبرز صورة من الصور الكثيرة للتحريف الشديد الذي طال الدين والعقيدة والشريعة التي جاء بها المسيح عيسى عليه السلام..
وإذا كان ذلك كذلك فإنه لا يمنع من الاستفادة من التقويم الميلادي في تحديد الفصول وما يتعلق بها..إذ الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها،ولكن لا يتخذ أصلاً ويلغى التأريخ القمري الهجري الإسلامي الصحيح.
هذا وصلوا وسلموا..
المشاهدات 2587 | التعليقات 1

جزاك الله خير