بين الإصرار والاستغفار 30ـ 12 ـ 1443هـ

عبدالعزيز بن محمد
1443/12/29 - 2022/07/28 15:41PM

أيها المسلمون: ضَعِيْفٌ مَهْما تَظاهَرَ بالقُوَّةِ، ضَعِيْفٌ مهما تظاهَرَ بالكِبْرِياء، ضَعِيْفٌ.. مهما تَجَبَّرَ، ضَعِيْفٌ مهما تَبَاهَى، ضَعِيْفٌ مهما افْتَخَر {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 

يَنْأَى عَن الحَقِّ مُسْتَكْبِراً، مُتجاسِراً في دَرْبِ الهوى.. مُغْتَرّاً بِصِحَتِهِ أَو جاههِ أَو مُلْكهِ أَو غِناه،  فيَحِلُّ بِه من العَناءِ لِباسَ بُؤسٍ، فَيعودُ إلى الورى مهزوماً.

يَتَقَلَّبُ في السَّراءِ مَزهواً، يُطِيْلُ النَّظَرَ في عِطْفَيْهِ مُعجَباً.. فيَغْشاهُ لَفْحٌ للشدائدِ مُؤلِمٌ، يُبدي الحقيقةَ يَكْشِفُ المسْتُورَ. يُبْدي لَهْ ضَعفاً وَفَقْراً لازماً، يُبدي لَه أَن التظاهُرَ زُوْر.  لَفحةٌ من الشدائدِ.. كافِيةٌ لكشفِ غِطَاءِ الكِبرياء {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنسَانُ كَفُورًا} {وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَىٰ بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ}

هو الإِنسانُ.. فَلا يَنْفَكُّ عَنْ طَبِيعَةٍ أَوْجَدَهُ اللهُ عليها {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} 

لا يَقْوَى علَى كَرْبٍ يُلمُّ بِهِ  *  وَلَيْسَ يَنْهَضُ إِنْ يَغْشَاهُ إِعْياءُ

قالَ ابنُ القَيِّمِ رحمه الله : (وَضَعْفُهُ ــ أَي الإِنسان ــ أَعْظَمُ مِنْ هَذا وأَكْثَرْ.. فَإنهُ ضَعِيْفُ البُنْيَةِ، ضَعِيْفُ القُوَّةِ، ضَعِيْفُ الإرَادَةِ، ضَعِيْفُ العِلْمِ، ضَعِيْفُ الصَّبْرِ. والآفَاتُ إِليهِ مَعَ هَذا الضَّعْفِ أَسْرَعُ مِنَ السَّيْلِ في الحُدُوْر) ا.هـ

ثُمَّ معَ هذا فهو ظَلُوْمٌ جَهُوْل {إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} ظَلُوْمٌ لِنَفْسِهِ بالآثامِ والذنوبِ والعِصْيان.  جَهُولٌ.. بما فيِه صَلاحُهُ ونجاحُهُ وفَلاحُه.

لَهُ نَفسٌ بالسُّوءِ أَمَّارَةٌ، وهوىً عن الصِّراطِ مَيَّالٌ، وشَيطانٌ باللهِ يَغُرُّ،  ودُنيا بِمتاعِها تُغْرِي. أَنَّى للإنسانِ إدراكُ النجاةِ.. إِنْ لَمْ يَكُنْ لَه من اللهُ مؤيدٌ وناصِرٌ وهادٍ ومُعِيْن.

يخوضُ غِمارَ الذنوبِ يَسْبَحُ في لُجَجِها.  يَسِيْحُ في ساحاتِ الآثامِ يَرْتَعُ في مراعِيها. ذُنوبُ القلبِ وذُنُوبُ الجوارِح. مخالَفةُ الأوامِرِ ومجاوزَةُ الحُدُوْد. قُعُوْدٌ عَنِ الواجِباتِ، وارتكابٌ للمحرمات. بخسٌ للحقوقِ وتضييعٌ للأمانات. جُرأةٌ على الآثامِ في الجَهرِ أَو الخَلَوات. 

والذُّنُوبُ هي الهلاكُ وهي الدَّمار، وهيَ الخسارَةُ وهي النَّدَم. هي الجالِبَةُ لكلِ مُصِيبةٍ، وهي الدافِعَةُ لِكُلِّ نعمةٍ،  هي الماحِقَةُ لكلِّ بَرَكةٍ، وهي الموجِبةُ لكلِّ عُقُوْبَةٍ.    الذُّنوبُ مُفسِدَةٌ للحياةِ ومُخزِيَةٌ بعد الممات.

واللهُ لا يَخْفَى عَلَيْهِ مِنَ الخَلائِقِ خَافِيَة، يعْلَمُ أَعْمَالَ العبادِ يَرى أَفعالَهُم، فَما يُخْفُونَ من آثامٍ هو عِندَه مَكشوفُ {وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا}

بالذُّنوبِ يَحِلُّ مِنَ اللهِ الغَضَب {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} فَلَما أَغضَبونا أَنزلنا بِهم نِقمتُنا.  قَالَ عُمَرُ بْنُ ذَرٍّ رحمه الله : يَا أَهْلَ الْمَعَاصِي، لا تَغْتَرُّوا بِطُولِ حِلْمِ اللَّهِ عَنْكُمْ وَاحْذَرُوا أَسَفَهُ, فَإِنَّهُ قد قال: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ}

ورَبُكَ أَكرَمُ الأَكرَمِينَ، وأَرْحَمُ الراحِمينَ، وخيرُ الغافِرِين. فَتَحَ للعبادِ باباً للتوبةِ، وبَسَطَ لَهم أَسبابَ المغفِرَة  عن أبي موسى رضي الله عنه أَن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (إِنَّ اللهَ تَعَالَى يبْسُطُ يدهُ بِاللَّيْلِ ليتُوبَ مُسيءُ النَّهَارِ، وَيبْسُطُ يَدهُ بالنَّهَارِ ليَتُوبَ مُسِيءُ اللَّيْلِ حتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِن مغْرِبِها) رواه مسلم.

بابٌ للتوبةِ مفتوحٌ.. ليسَ على البابِ خازِنٌ، وليسِ للولوجِ شُرُوط.  أَقبِلْ إلى البابِ تَلْقى حُسْنَ مغْفِرَةٍ.. تَلْقى من اللهِ عفواً ثم إحسانا {وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى} {إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا}

غَنيٌ عنكَ وأَنتَ إليه مُفتَقِرُ.. رحيمٌ دعاكَ ليرْحَمَك، كريمٌ دعاكَ ليَمْنَحَك، غَفَّارٌ دعاكَ لِيَغْفِرَ لك. {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}

أجِبْ دعوةَ اللهِ، أَقْبِل تائباً.. فلَيوشِكَن أَنْ تَنْتَهِي المهلَةُ، وَيَنْقَضِي العُمرُ، ويوصَدَ الباب.   لئن يَسَّرَ لك الشيطان اقترافَ الذنبِ فاغْتَرَرْت..  فلقد يَسَّرَ اللهُ لكَ سَبِيْلَ التوبَة فلا تَيْأَس {وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا}

لئن دعاك الشيطانُ إلى دروبِ الغوايةِ والحرام.. فلقد دعاكَ رَبُكَ إلى دَارِ السَّلامْ {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ}   أَكرَمُ الناسِ خُلُقاً.. مَن إذا أَساءَ إلى الناسِ اعتَذَرْ. وأَكَمَلُ العبادِ عبودِيةً.. مَن إِذا أَذنَبَ تاب.   يُحِبُّ الناسُ يَعتَرِفُ لهم بالخطأَ ويُحِبُّ اللهُ مَنْ يَقْصِدُهُ بالتوبَة {والله يُحِبُّ التوابينَ ويحُب المتطهرين}

يا مَنْ عَدى ثُمَّ اعتَدَى ثُمَّ اقْتَرَف **  ثُمَّ ارْعَوَى ثُمَّ انْتَهى ثُمَّ اعْتَرَفْ

أَبْشِرْ بِقَوْلِ اللهِ في تَنْزِيْلِهِ  ** إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَف

في الحديثِ القُدْسِيِّ قال اللهُ: (يَا عِبَادي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيلِ وَالنَّهارِ وَأَنَا أغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا فَاسْتَغْفِرُوني أغْفِرْ لَكُمْ.) رواه مسلم  {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ}    بارك الله لي ولكم..

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وأشهد أن محمدَ بنَ عبدالله رسولُ رب العالمين صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين.  

* أما بعد فاتقوا الله أيها المسلمون.. فإن التقوى للمرء خيرُ زاد.   

عباد الله: ولا يزالُ المرءُ مِنَ اللهِ في أَمْنٍ وخَيْرٍ وعَافِيَةٍ،  ما لَزِمَ التوبةَ وأَدَامَ الاستغفار.. {وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ}  

اسْتِغْفارٌ يَتَوَسَّلُ بِه العبدُ إلى رَبِه.. طَالِباً مَغْفِرَةَ الذُّنوبِ ومَحوِها، والتجاوزُ عنْ السيئاتِ وسَتْرِها. والوقايةِ مِنْها ومِنْ آثارِها {وَقِهِمْ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِي السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}  

اسْتِغْفارٌ.. مِنْ قَلْبٍ مُعْتَرِفٍ بالذنبِ يَرْجُو مَحْوَهُ.. وأَقرَبُ الرحماتِ مِنْ قَلْبٍ يَعْتَرِف {وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}   

وفي الحديثِ:  (أَذْنَبَ عَبْدٌ ذَنْبًا، فَقالَ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فأذْنَبَ، فَقالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: عَبْدِي أَذْنَبَ ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، ثُمَّ عَادَ فأذْنَبَ فَقالَ: أَيْ رَبِّ اغْفِرْ لي ذَنْبِي، فَقالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: أَذْنَبَ عَبْدِي ذَنْبًا، فَعَلِمَ أنَّ له رَبًّا يَغْفِرُ الذَّنْبَ، وَيَأْخُذُ بالذَّنْبِ، اعْمَلْ ما شِئْتَ فقَدْ غَفَرْتُ لَكَ) رواه مسلم

قَالَ العُلَمَاءُ: مَعْناهُ: أَنْ العَبْدَ يُغفَرُ لَهُ ما دامَتْ هذه حالُه.. كُلَّما أَذْنَبَ تابْ، وكُلما أَساءَ اسْتَغْفَرْ.   وأَنى لعبدٍ يَرْتَكِبُ الذُّنُوبَ ويَسْتَحِلًّ بِساطَها أَن يَنثَني مُسْتعتِباً مُسْتغفراً.  فَكُلُّ معصيةٍ.. لها لديه تأَويلٌ، وكُلُّ ذَنبٍ لَه لديهِ مَخْرَج. يَلْقَى اللهَ غداً بالآثامِ موفوراً. 

اسْتِغْفارٌ.. بِهِ تُحَلُّ عُقَدُ الإِصْرار. وتُنَقَّى بِهِ النفوسُ مِن دَنَسِ الأَوزار {وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ}     وكَمْ مِنْ غافِلٍ أَقامَ على معصيةٍ زَمَناً حتى أَلِفَها.  فَزَالَت ْ وحشةُ الذنبِ من قلبِهِ، فَلَمْ يُحدِثِ لذاك الذنبِ توبَة. وكَمْ مِنْ غافِلٍ.. اطْمأَن إلى ذَنبٍ من الذُّنوبِ مُغْتَرّاً بكثرَةِ الواقِعِينَ فيه. 

وأما حقوق العبادِ.. فَتِلْكَ مظالِمٌ لا بُدَّ مِن أَدائها وسدادِها ووفائها.. فَلئن لَمْ تُوَفَّ لأَهْلِهَا في الدُّنيا، فَلَسَوْفَ تُقضى غداً في الموقفِ.  عن أَبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم  قَال: (مَنْ كَانتْ عِنْدَه مَظْلمَةٌ لأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ مِنْ شَيْءٍ فَلْيتَحَلَّلْه ِمِنْه الْيَوْمَ قَبْلَ أَلَّا يكُونَ دِينَارٌ وَلَا دِرْهَمٌ، إنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمتِهِ، وإنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سيِّئَاتِ صاحِبِهِ، فَحُمِلَ عَلَيْهِ) رواه البخاري

اللهم طهر قلوبنا.. وأخلص أعمالنا.. وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.. اللهم.

 

المرفقات

1659012038_بين الإصرار والاستغفار.docx

1659012038_‏‏بين الإصرار والاستغفار للجوال.pdf

1659012038_بين الإصرار والاستغفار.pdf

المشاهدات 995 | التعليقات 1

لله درك ايها الشيخ المبارك