بمناسبة حادثة الاحتساب الشهيرة في سوق عكاظ .. إليكم هذه الخطبة المتينة

عبدالرحمن اللهيبي
1434/11/07 - 2013/09/13 08:35AM
هذا الموضوع بمناسبة حادثة نصح المحتسب الشيخ عبدالله العسيري في سوق عكاظ وحيث أن الحادثة قد راجت وانتشرت وشاهدها الكثير من الناس عبر مواقع التواصل الاجتماعي وما تبع ذلك من إساءات الصحف وتشويهها للحدث لأجل كل ذلك فإني أنصح بهذه الخطبة وقد وجدتها عندي وأحسبها إن لم تخني الذاكرة للشيخ إبراهيم الحقيل جزاه الله خيرا

إليكم الخطبة
الحِسْبَةُ والمُحْتَسِبُونَ أَذِيَّةُ المُحْتَسِبِينَ9/6/1434
الحَمْدُ للهِ العَلِيِّ الكَبِيرِ؛ مَالِكِ المُلْكِ، وَمُدَبِّرِ الأَمْرِ؛ فَيُؤْتِي المُلْكَ مَنْ يَشَاءُ، وَيَنْزِعُ المُلْكَ مِمَّنْ يَشَاءُ، وَيُعِزُّ مَنْ يَشَاءُ، وَيُذِلُّ مَنْ يَشَاءُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، نَحْمَدُهُ حَمْدًا يَلِيقُ بِجَلاَلِهِ وَعَظَمَتِهِ، وَنَشْكُرُهُ شُكْرًا يَزِيدُ نِعَمَهُ علينا ومنته، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، خَلَقَ الخَلْقَ وَدَبَّرَهُمْ، وَأَحْيَاهُمْ وَيُمِيتُهُمْ، وَإِلَيْهِ مَعَادُهُمْ وَمَرْجِعُهُمْ، وَعَلَيْهِ حِسَابُهُمْ وَجَزَاؤُهُمْ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ قُدْوَةُ النَّاصِحِينَ المُحْتَسِبِينَ، وَإِمَامُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَخَيْرُ مَنْ أُوذِيِ فِي ذَاتِ رَبِّ العَالَمِينَ؛ فَشُجَّ وَجْهُهُ، وَكُسِرَتْ رَبَاعِيَّتُهُ، وَوُضِعَ سَلاَ الجَزُورِ عَلَى ظَهْرِهِ، وَخُنِقَ خَنْقًا شَدِيدًا، وَوُطِئَ عَلَى رَقَبَتِهِ الشَّرِيفَةِ ، وَبُصِقَ فِي وَجْهِهِ، وَتآمر المُشْرِكُونَ على قَتْلَه, وحاول اليهود قتله غَيْرَ مَرَّةٍ، وسحروه وسمموه, وقذفه المنافقون في عرضه, فَمَا فَتَّ ذَلِكَ فِي عَضُدِهِ، وَلاَ رَدَّهُ عَنْ دَعْوَتِهِ، بَلْ تَحَمَّلَ أَذَى قَوْمِهِ، وَصَبَرَ عَلَى عَشِيرَتِهِ، حَتَّى بَلَّغَ رِسَالَةَ رَبِّهِ، وَاسْتَنْقَذَ مِنَ الضَّلاَلِ أُمَّتَهُ، فَهَا هُمْ مَلاَيِينُ المُسْلِمِينَ يَعْبُدُونَ اللهَ تَعَالَى فِي مَشَارِقِ الأَرْضِ وَمَغَارِبِهَا مِنْ أَثَرِ تَبْلِيغِهِ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ، وَالْتَمِسُوا مَا يُرْضِيهِ، وَجَانِبُوا مَا يُسْخِطُهُ، ووَالُوا أَوْلِيَاءَهُ، وَعَادُوا أَعْدَاءَهُ، وَأَحِبُّوا فِيهِ، وَأَبْغِضُوا فِيهِ؛ فَإِنَّ وِلاَيَةَ اللهِ تَعَالَى تُنَالُ بِذَلِكَ؛ [إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغَالِبُونَ] {المائدة:55-56}.
أَيُّهَا النَّاسُ: أَرْسَلَ الله تَعَالَى الرُّسُلَ إِلَى النَّاسِ لِيَأْمُرُوهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، فَيَخْضَعُوا لِأَمْرِهِ، وَيَسْتَسْلِمُوا لِحُكْمِهِ، وَيَنْقَادُوا لِشَرِيعَتِهِ، وَيَنْبِذُوا أَهْوَاءَ النُّفُوسِ وَشَهَوَاتِهَا، فَكَانَ النَّاسُ فَرِيقَيْنِ: مَنْ عَبَدَ اللهَ تَعَالَى وَنَبَذَ هَوَاهُ، وَمَنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ وَاسْتَكْبَرَ عَنْ عِبَادَةِ مَوْلاَهُ. وَاللهُ تَعَالَى سَمَّى الهَوَى إِلَهًا يُعْبَدُ؛ فَقَالَ ...[أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا]
إِنَّ الرُّسُلَ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ مَا بُعِثُوا إِلاَّ لِيَحجزوا النَّاسَ عنْ أَهْوَائِهِمْ، وَيُوَجِّهُوهُمْ إِلَى عِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَاتِّبَاعِ أَمْرِهِ، وَمُجَانَبَةِ نَهْيِهِ، وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ الرُّسُلَ قَدْ جَاءَتْ بِالحُرِّيَّةِ التعبدية وَالتَّعَدُّدِيَّةِ الفكرية بمعنى أنه يعبد من شاء ويعتقد ما شاء, فَقَدْ أَعْظَمَ الفِرْيَةَ، وَجَهِلَ حَقِيقَةَ الرِّسَالَةِ.
إِنَّ أَعْدَاءَ الرُّسُلِ مَا عَادُوا المُؤْمِنِينَ لِأَجل أنَّهُمْ لاَ يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللهَ وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا عَادُوهُمْ لِأَنَّهُمْ يَأْمُرُونَهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَنَبِيُّنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ قَبْلَ بَعْثَتِهِ يَتَعَبَّدُ للهِ تَعَالَى فِي غَارِ حِرَاءَ وَمَا آذَاهُ المُشْرِكُونَ، وقد كان موحدا لا يعبد أصنامهم وآلهتهم ولا يشاركهم في فسقهم وفجورهم, ومع ذلك فقد كَانُوا يَحْتَرِمُونَهُ وَيُوَقِّرُونَهُ حَتَّى سَمَّوْهُ الأَمِينَ، فلماذا عادوه إذا بعد بعثته, إِنَّمَا عَادُوهُ لأنه احْتَسَبَ عَلَيْهِم فَأَمَرَهُمْ بِعِبَادَةِ اللهِ تَعَالَى وَنَبْذِ الأَوْثَانِ, ولو بقي عليه الصلاة والسلام يعبد الله وحده دون أن يأمرهم بذلك لما اعترضوا طريقه
إِنَّ جَزِيرَةَ العَرَبِ وَقْتَ الجَاهِلِيَّةِ قبل بعثته عليه الصلاة والسلام كَانَ فِيهَا يَهُودٌ وَنَصَارَى وَمَلاَحِدَةٌ وَصَابِئَةٌ وَمَجُوسٌ وَوَثَنِيُّونَ، كَمَا كَانَ فِيهَا حُنَفَاءُ بَقَوْا عَلَى دِينِ الخَلِيلِ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، وَكَانُوا مُتَعَايِشِينَ، وَعَلَى كَثْرَةِ حُرُوبِ العَرَبِ فِي أُمُورٍ تَافِهَةٍ فَإِنَّهُ لَمْ يُعْرَفُ أَنَّ حَرْبًا اشْتَعَلَتْ بِسَبَبِ اخْتِلاَفِ أَدْيَانِهِمْ، فَكَانُوا يُقِرُّونَ التَّعَدُّدِيَّةِ، وَيُطَبِّقُونَهَا وَاقِعًا فِي مُجْتَمَعَاتِهِمْ.
كَانُوا فِي سُوقِ عَكَاظَ يَنْشُدُونَ القَصِيدَ، وَيُلْقُونَ الخُطَبَ، فَمِنْهُمْ مَنْ يُنْكِرُ البَعْثَ وَالنُّشُورَ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُثْبِتُهُ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ حُرٌّ فِيمَا يَعْتَقِدُ وَفِيمَا يَقُولُ، وَكَانَ مِنْهُمْ مَنْ يُمَارِسُ الزِّنَا، وَيَشْرَبُ الخَمْرَ، وَيَتَغَنَّى بِهَا، وَيَنْظِمُ القَصِيدَ فِيهَا، وَمِنْهُمْ مَنْ عَفَّ عَنِ الزِّنَا، وَحَرَّمَ الخَمْرَ عَلَى نَفْسِهِ، وَمع ذلك َلمْ يُوجِبْ هذا الأمرُ بَيْنَهُمْ خِلَافًا أو نزاعا، وَكَانُوا يَتَعَامَلُونَ بِالرِّبَا وَالمَيْسِرِ وَمِنْهُمْ مَنْ حَرَّمَهُمَا عَلَى نَفْسِهِ، وَلَمْ يُوجِبْ ذَلِكَ أَيْضًا بَيْنَهُمْ خِلاَفًا؛ لِأَنَّ مَنْ حَرَّمُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ تلك الأمور لَمْ يُحَرِّمُوهُ عَلَى غَيْرِهِمْ، وتركوهم وشأنهم
وَحَالُ المُشْرِكِينَ آنَذَاكَ أَشْبَهُ مَا يَكُونُ بِالنِّظَامِ الدَّوْلِيِّ اليَوْمَ، وَبإِعْلَانَاتِ حُقُوقِ الإِنْسَانِ الَّتِي لاَ تَعْتَرِفُ بِسُلْطَانِ اللهِ تَعَالَى عَلَى الإِنْسَانِ، وَتَجْعَلُ الإِنْسَانَ حُرًّا فِي أَقْوَالِهِ وَأَفْعَالِهِ وَمُعْتَقَدَاتِهِ، وَتَمْنَعُ الاحْتِسَابَ الدِّينِيَّ عَلَيْهِ.
وَلَمَّا بُعِثَ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلاَمُ، وَأُمِرَ بِالبَلاَغِ فَبَلَّغَهُمْ؛ حَارَبُوهُ أَشَدَّ الحَرْبٍ، وَعَادُوهُ كَمَا لَمْ يُعَادُوا أَحَدًا مِثْلَهُ؛ لِأَنَّهُ احْتَسَبَ عَلَيْهِمْ، وَأَرَادَ إِلْغَاءَ التَّعَدُّدِيَّةِ الَّتِي يُمَارِسُونَهَا، وَقَالُوا مُسْتَغْرِبِينَ من هذا: [أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ] {ص:5}.
وَكَانَ المَلَأُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ هُمْ أَشَدَّ النَّاسِ حَرْبًا عَلَى الأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّ الأَنْبِيَاءَ بِاحْتِسَابِهِمْ عَلَى أُمَمِهِمْ يُلْغُونَ امْتِيَازَاتِ القِلَّةِ المُتَنَفِّذَةِ، وَيَقْضُونَ عَلَى اسْتِغْلاَلِهِمْ لِلْأَكْثَرِيَّةِ المُضْطَهَدَةِ؛ ذَلِكَ أَنَّ لِلْمُتَنَفِّذِينَ مِنْ أَهْلِ البَاطِلِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا أَهْوَاءً، وَاحْتِسَابُ المُحْتَسِبِينَ يَحُولُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ هَذِهِ الأَهْوَاءِ، فَلاَ بُدَّ حِينَئِذٍ مِنْ حَرْبِهِمْ، وَهَكَذَا كَانَتِ الخُصُومَةُ التَّارِيخِيَّةُ بَيْنَ المُحْتَسِبِينَ وَأَعْدَائِهِمْ..
وَلَطَالَمَا عَانَى المُحْتَسِبُونَ مِنء أَذِيَّةِ أَعْدَاءِ الحِسْبَةِ فَنَالَهُمْ مَا نَالَهُمْ مِنَ السُّخْرِيَةِ وَاللَّمْزِ وَالتَّهْجِيرِ، وَإِلْصَاقِ التُّهَمِ بِهِمْ، وَبَثِّ الشَّائِعَاتِ فِيهِمْ، وَرَمْيِهِمْ بِمَا هُمْ مِنْهُ بُرَءَاءُ منه فِي دِعَايَاتٍ فَجَّةٍ، وَأَكَاذِيبَ رَخِيصَةٍ، وَمَنْ أَرَادَ مَعْرِفَةَ حَقِيقَةِ أَعْدَاءِ الحِسْبَةِ فَلْيَقْرَأِ القُرْآنَ وَلْيَنْظُرْ مَاذَا فَعَلُوا بِالأَنْبِيَاءِ المحتسبين الأوائل، وَمَا فَعَلُوهُ بِالأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ سَيَفْعَلُونَهُ بِالمُحْتَسِبِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ؛ فَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِيمَنْ سَعَى بِالإِصْلاَحِ وَكَافَحَ الفَسَادَ, وَلاَ عَجَبَ أَنْ يُتَّهَمَ المُحْتَسِبُونَ بِأَنَّهُمْ مُفْسِدُونَ فَقَدْ قَالَ فِرْعَوْنُ مِنْ قَبْلُ: [ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ]
إِنَّ أَعْدَاءَ الحِسْبَةِ قَدْ رَمَوْا نُوحًا عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِالضَّلاَلِ وَبِالكَذِبِ وَبِالجُنُونِ، وَسَخِرُوا مِنْهُ، وَهَدَّدُوهُ بِالرَّجْمِ. وَرَمَوْا هُودًا عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِالسَّفَهِ وَالكَذِبِ وَالجُنُونِ وَرَمَوْا صَالِحًا بِالَكِذِبِ وَادَّعَوْا أَنَّهُ مَسْحُورٌ، وَبَيَّتُوا قَتْلَهُ لَكِنَّ اللهَ تَعَالَى نَجَّاهُ.
وَهَدَّدُوا الخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِالرَّجْمِ، وَأَضْرَمُوا النَّارَ فَقَذَفُوهُ فِيهَا فَنَجَّاهُ اللهُ تَعَالَى.
وَتَوَاصَى أَعْدَاءُ الحِسْبَةِ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ عَلَى طَرْدِهِ وَتَهْجِيرِهِ، وَرَمَوْا شُعَيْبًا عَلَيْهِ السَّلاَمُ بِالكَذِبِ، وَادَّعَوْا أَنَّهُ مَسْحُورٌ، وَهَدَّدُوهُ بِالطَّرْدِ وَالرَّجْمِ.
وَلَمَّا احْتَسَبَ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ عَلَى فِرْعَوْنَ رَمَاهُ بِالجُنُونِ، وَاتَّهَمَهُ بِالسِّحْرِ، وَهَدَّدَ أَتْبَاعَهُ بِالتَّقْتِيلِ وَالتَّصْلِيبِ وَتَقْطِيعِ الأَيْدِي وَالأَرْجُلِ، وَفَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ.
وَرَمَى أَعْدَاءُ الحِسْبَةِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلاَمُ فِي أُمِّهِ العَذْرَاءَ البَتُولِ، وَسَعَوْا فِي قَتْلِهِ فَرَفَعَهُ اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ.
وَقَتَلَ أَعْدَاءُ الحِسْبَةِ زَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَجَمًّا غَفِيرًا مِنَ الأَنْبِيَاءِ وَالمُصْلِحِينَ؛ لِأَنَّهُمُ احْتَسَبُوا عَلَيْهِمْ فِي تَرْكِ أَهْوَائِهِمْ، وَدَعَوْهُمْ لِإِخْلَاصِ الدِّينِ وَالعُبُودِيَّةِ للهِ تَعَالَى وَحْدَهُ، وَالخُضُوعِ لِشَرِيعَتِهِ.
وَرَمَى أَعْدَاءُ الحِسْبَةِ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالسِّحْرِ وَالكَهَانَةِ وَالجُنُونِ، وَتَآمَرُوا عَلَى قَتْلِهِ؛ [وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ] {الأنفال:30}.
وَرُمِيَ مِئَاتُ العُلَمَاءِ وَالدُّعَاةِ وَالمُصْلِحِينَ بِالتُّهَمِ المَكْشُوفَةِ، وَالأَكَاذِيبِ المَفْضُوحَةِ، وَرُوِّجَتْ فِي حَقِّهِمُ الشَّائِعَاتُ القَبِيحَةُ، بَلْ وَنَالَهُمْ عَلَى أَيْدِي أَعْدَاءِ الحِسْبَةِ، وَعَبْرَ القُرُونِ المُتَطَاوِلَةِ، وَالبُلْدَانِ المُتَبَاعِدَةِ - نَالَهُمْ شَدِيدُ الأَذَى مِنْ إِهَانَةٍ وَضَرْبٍ وَسَجْنٍ وَطَرْدٍ وَتَشْرِيدٍ، وَقُتِلَ عَشَرَاتٌ مِنْهُمْ بِسَبَبِ احْتِسَابِهِمْ عَلَى أَهْلِ الأَهْوَاءِ وَالضَّلاَلِ وَالانْحِرَافِ؛ فَتِلْكَ سُنَّةُ اللهِ تَعَالَى فِي المُحْتَسِبِينَ: أَنْ يَبْذُلُوا دِمَاءَهُمْ، وَتُفْرَى أَعْرَاضُهُمْ، وَيُؤْذَوْنَ فِي أَبْدَانِهِمْ بِأَنْوَاعِ الأَذَى، وَيَحْتَمِلُونَ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ هِدَايَةِ الخَلْقِ إِلَى الحَقِّ، وَحَجْزِ النَّاسِ عَنْ أَسْبَابِ العَذَابِ، وَرَدِّ الأُمَمِ وَالدُّوَلِ عَنْ مَوَاطِنِ الهَلَاكِ؛ [وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ القُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ] {هود:117}. فَنَسْأَلُ المَوْلَى جَلَّتْ قُدْرَتُهُ أَنْ يُبْقِيَ المُحْتَسِبِينَ المُصْلِحِينَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ، وَأَنْ يُكَثِّرَ سَوَادَهُمْ، وَيَشُدَّ أَرْكَانَهُمْ، وَيُعْلِيَ أَقْدَارَهُمْ، وَيُلِينَ قُلُوبَ العِبَادِ لِخِطَابِهِمْ، وَأَنْ يَجْزِيَهُمْ عَنِ المُسْلِمِينَ خَيْرَ الجَزَاءِ؛ إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ. وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ..

الْحَمْدُ للهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ، كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، نَحْمَدُهُ وَنَشْكُرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُم إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللهَ تَعَالَى وَأَطِيعُوهُ؛ [وَاتَّقُوا فِتْنَةً لاَ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ شَدِيدُ العِقَابِ] {الأنفال:25}.
أَيُّهَا المُسْلِمُونَ: أَوْجَبَ اللهُ تَعَالَى الاحْتِسَابَ عَلَى كُلِّ مُؤْمِنٍ، بِشَرْطِ أَنْ يَكُونَ عَالِمًا بِمَا يَأْمُرُ بِهِ، عَالِمًا بِمَا يَنْهَى عَنْهُ، وَأَلاَّ يُخَلِّفَ احْتِسَابُهُ مُنْكَرًا أَعْظَمَ مِنَ المُنْكِرِ الَّذِي يَحْتَسِبُ لِتَغْييرِهِ.
وَوَظِيفَةُ المُحْتَسِبِينَ هِيَ وَظِيفَةُ الأَنْبِيَاءِ وَالمُرْسَلِينَ، وَبَعْدَ أَنْ خَتَمَ اللهُ تَعَالَى النُّبُوَّةَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّهُ سُبْحَانَهُ أَبْقَى فِي هَذِهِ الأُمَّةِ شَعِيرَةَ الحِسْبَةِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ؛ لِيَسْتَمِرَّ الإِصْلاحُ فِي النَّاسِ، وَلِيُرْدَعَ أَهْلُ الأَهْوَاءِ وَالفَوَاحِشِ وَالمُنْكَرَاتِ عَنْ غَيِّهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ.
وَمِنْ قَدَرِ اللهِ تَعَالَى فِي ابْتِلاَئِهِ لِرُسُلِهِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ أَنْ جَعَلَهُمْ يُواجِهُونَ المَلَأَ مِنْ كُلِّ قَوْمٍ، وَهُمْ أَهْلُ الأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ وَالمُنْكَرَاتِ، فَكَانُوا أَعْدَاءً لِلرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلاَمُ؛ [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ المُجْرِمِينَ] {الفرقان:31}.
وَجَعَلَ كَذَلِكَ لِلْمُصْلِحِينَ المُحْتَسِبِينَ أَعْدَاءً مِنَ المُجْرِمِينَ؛ [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا] {الأنعام:123}، فَإِذَا بَقِيَ المُحْتَسِبُونَ دُفِعَ العَذَابُ، وَإِذَا غَلَبَ المُجْرِمُونَ عَلَيْهِمْ فَنَشَرُوا فَسَادَهُمْ رَغْمًا عَنْهُمْ وَأَسْكَتُوهُمْ وَآذَوْهُمْ فَقَدْ حَقَّ العَذَابُ؛ [وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا] {الإسراء:16}.

وَمِنْ عَظِيمِ أَمْرِ المُحْتَسِبِينَ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا ذَمَّ قَتَلَةَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَطَفَ المُحْتَسِبِينَ عَلَى الأَنْبِيَاءِ؛ لِأَنَّ المُحْتَسِبِينَ يَقُومُونَ بِمُهِمَّةِ الأَنْبِيَاءِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: [إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآَيَاتِ اللهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ] {آل عمران:21} والمُحْتَسِبُونَ هُمْ مِمَّنْ يَأْمُرُ النَّاسَ بِالقِسْطِ.
وَاللهُ تَعَالَى أَرْسَلَ الرُّسُلَ، وَأَنْزَلَ الكُتُبَ، لِتَحْيَى فَرِيضَةُ الاحْتِسَابِ، وَيَبْقَى أَثَرُهَا فِي النَّاسِ إِلَى آخِرِ الزَّمَانِ، فَيُدْفَعُ بِهَا إِجْرَامُ المُجْرِمِينَ، وَإِفْسَادُ المُفْسِدِينَ: [لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الكِتَابَ وَالمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالقِسْطِ] {الحديد:25}.
فَأَحْيُوا فَرِيضَةَ الحِسْبَةِ بينكم، وَمُرُوا بِالمَعْرُوفِ، وَانْهَوْا عَنِ المُنْكَرِ، وَكُونُوا عَوْنًا لِلْمُحْتَسِبينَ فِي قِيَامِهِمْ بِأَمْرِ اللهِ تَعَالَى، وَإِيَّاكُمْ أَنْ تَكُونُوا عَوْنًا لِأَكَابِرِ المُجْرِمِينَ، مِنْ أَعْدَاءِ الحِسْبَةِ والمُحْتَسِبِينَ؛ فَإِنَّ فِي عَوْنِهِمْ إِبْطَالًا لِلْحِسْبَةِ، وَمَنْ سَعَى فِي إِبْطَالِ الحِسْبَةِ فَإِنَّمَا يُرِيدُ أَنْ يُبْطِلَ دِينَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ. وَمَنْ أَعْجَبَهُ ضَعْفُ الحِسْبَةِ وَانْدِثَارُهَا فَإِنَّمَا يُعْجِبُهُ ضَعْفُ دِينِ الإسْلَامِ وَانْدِثَارُهُ؛ فَإِنَّهُ لَا بَقَاءَ لِلْإِسْلَامِ إِلَّا بِالاحْتِسَابِ، [يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكَافِرُونَ * هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالهُدَى وَدِينِ الحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المُشْرِكُونَ] {التوبة:32-33}.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ..
المشاهدات 1744 | التعليقات 0