بلا ارتياب يدخلون !
يوسف العوض
الخطبة الأولى
عبَادَ اللهِ : ثَبَتَ فِي عِدَّةِ أخبارٍ عَنِ النَّبيِّ المُختارِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ما كَرَّ اللَّيلُ على النَّهارِ أنَّ طائِفةً مِنْ هذهِ الأُمَّةِ بلا ارتيابٍ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ بغيرِ حِسابٍ، فيَدخُلُونَ جَناتِ النَّعيمِ قَبلَ وضعِ المَوازينِ، وأخذِ الصُّحُفِ بالشِّمالِ واليَمينِ ، فعَنِ ابنِ عَبَّاسٍ رَضيَ اللهُ عَنهما قالَ: قالَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: "عُرِضَتْ عَلَيَّ الأُمَمُ، فَجَعَلَ النبيُّ والنَّبيَّانِ يَمُرُّونَ معهُمُ الرَّهْطُ ، والنَّبيُّ ليسَ معهُ أحَدٌ، حتَّى رُفِعَ لي سَوَادٌ عَظِيمٌ، قُلتُ: ما هذا؟ أُمَّتي هذِه؟ قيلَ: بَلْ هذا مُوسَى وقَوْمُهُ، قيلَ: انْظُرْ إلى الأُفُقِ، فَإِذَا سَوَادٌ يَمْلَأُ الأُفُقَ، ثُمَّ قيلَ لِي: انْظُرْ هَاهُنَا وهَاهُنَا في آفَاقِ السَّمَاءِ، فَإِذَا سَوَادٌ قدْ مَلَأَ الأُفُقَ، قيلَ: هذِه أُمَّتُكَ، ويَدْخُلُ الجَنَّةَ مِن هَؤُلَاءِ سَبْعُونَ ألْفًا بغَيرِ حِسَابٍ. ثُمَّ دَخَلَ ولَمْ يُبَيِّنْ لهمْ، فأفَاضَ القَوْمُ، وقالوا: نَحْنُ الَّذِينَ آمَنَّا باللَّهِ واتَّبَعْنَا رَسولَهُ، فَنَحْنُ هُمْ، أوْ أوْلَادُنَا الَّذِينَ وُلِدُوا في الإسْلَامِ؛ فإنَّا وُلِدْنَا في الجَاهِلِيَّةِ، فَبَلَغَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فَخَرَجَ، فَقالَ: هُمُ الَّذِينَ لا يَسْتَرْقُونَ، ولَا يَتَطَيَّرُونَ، ولَا يَكْتَوُونَ، وعلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ، فَقالَ عُكَّاشَةُ بنُ مِحْصَنٍ: أمِنْهُمْ أنَا يا رَسولَ اللَّهِ؟ قالَ: نَعَمْ، فَقَامَ آخَرُ فَقالَ: أمِنْهُمْ أنَا؟ قالَ: سَبَقَكَ بهَا عُكَّاشَةُ".
عبَادَ اللهِ : أَخْبَرَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عَنْ غَيبٍ حيثُ أَطْلعَه اللهُ على أحوالِ يومِ القيامةِ، وعِظَمِ ما أكرمَ اللهُ تَعالى به نَبيَّهُ مُحمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأُمَّتَه فقالَ : «عُرِضَتْ عليَّ الأممُ»، أي: يومَ القيامةِ، ومَاذا يكونُ حالُهُم، وذلكَ مِن إِعلامِ اللهِ له، وممَّا عُرِضَ عليه أنَّ النَّبيَّ والنَّبيَّينِ يَمُرُّون مَعَهُم الرَّهْطُ، والرَّهْطُ: هُم الجماعةُ مِنَ الثَّلاثةِ إلى العَشرةِ، ويمُرُّ النَّبيُّ ليسَ معَه أحدٌ آمَنَ بهِ في الدُّنيا، حتَّى رُفِعَ له سَوادٌ عَظيمٌ، أي: جُموعٌ كَثيفةٌ مَلأَتِ المكانَ والجِهةَ التي أَتتْ منها، فسأل النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنهم وظَنَّهم أمَّتَه، فقيلَ له: هذا موسى عليه السَّلامُ، ومن أسلم وآمَنَ باللهِ معه، ثم قيل للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: انظُرْ إلى الأُفُقِ الظَّاهِرِ من بعيدٍ، فإذا سَوادٌ يَمَلأُ الأُفقَ، ثمَّ قيل له: انظرْ هاهنا وهاهنا في آفاقِ السماءِ ونواحيها، فإذا سَوادٌ قد ملأَ الأُفقَ، قيل له: هذهِ أُمَّتُكَ، والأفُق هو الجِهةُ، والمعنى: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رأى كَثرةَ أتْباعِهِ يومَ القيامةِ بِالمُقارنةِ إلى أَتباعِ الأنبياءِ الآخرينَ، فالمسلمونَ أَعدادُهُم مَلَأتِ الجِهاتِ مِن كَثرَتِها، وهذا مِن فضْلِ اللهِ على نَبيِّه وعلى أُمَّةِ الإسلامِ. عبَادَ اللهِ : ثمَّ أخبَرَ أنَّه «يَدْخُلُ الجنَّةَ مِنْ هَؤُلاءِ سَبْعونَ أَلْفًا بِغَيرِ حِسابٍ»، ثُمَّ دخَلَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حُجْرتَه بعد أن حَدَّثَهم بهذا القَدْرِ مِن الحديثِ، ولم يُبيِّنْ لهم صِفاتِ هؤلاءِ الذينَ لا يُحاسَبونَ، فأَفاضَ القَوْمُ، أي: جَعَلوا يُكثِرون الكلامَ في تَعْيينِ السَّبعينَ ألفًا ومَن هم؟ بعْدَ حَديثِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لهم، وَقالُوا: نَحنُ الذينَ آمنَّا بِاللهِ واتَّبَعْنَا رَسولَهُ، فنحن أَوْلى بأنْ نكونَ مِن السَّبعينَ ألْفًا لهذا السبَّبِ، وقالوا أيضًا: أَوْ أولادُنا الذينَ وُلِدوا في الإِسلامِ؛ فإنَّا وُلِدْنا في الجاهِلِيَّةِ، فَبلَغَ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما يقوله القوم وما يَتحدَّثون به، فَخَرَجَ فقالَ لهم مُوَضِّحًا صفاتِهم: «هُمُ الَّذينَ لا يَسْتَرْقونَ»، أي: لا يَطْلُبونَ الرُّقْيَةَ مِن أَحدٍ مُطلقًا؛ وذَلِكَ لِشِدَّةِ تَوَكُّلِهمْ على اللهِ وإيمانِهِم بأنَّه المَلْجأُ، «وَلا يَتَطَيَّرونَ»، أي: لا يَتشاءَمونَ بالطُّيورِ ونحوِها، كما كانت عادةُ النَّاسِ قبل الإسلامِ، «ولا يَكْتَوُونَ» بالنَّارِ طَلَبًا للشِّفاءِ، ولا يَعتَقِدون أنَّ الشِّفاءَ يكونُ بالكَيِّ كما كان يعتَقِدُ أهلُ الجاهليَّةِ، وقد ورَدَ النَّهيُ عن الاكْتِواءِ.
عبَادَ اللهِ : وهَؤلاءِ في كلِّ أحوالِهمْ يَتوكَّلونَ على اللهِ حَقَّ تَوكُّلِهِ، فيُفَوِّضون أمورَهم إليه تعالى في ترتيبِ المُسَبَّباتِ على الأسبابِ مع تهيِئَتِها؛ فاستَحَقُّوا بذلك أن يَدْخلوا الجنَّةَ بغيرِ حِسابٍ، «فقالَ عُكَّاشةُ بنُ مِحْصَن: أمِنْهُم أنا يا رَسولَ اللهِ؟» أي: مِن الذين يَدخُلون الجَنَّةَ بغَير حِسابٍ، فقال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: نعمْ ، وفي روايةٍ أُخرى أنَّه قال للنبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ادْعُ اللهَ لي يا رسولَ اللهِ أن يجعَلَني منهم ، فقال «اللهُمَّ اجعَلْه منهم»، فطَمِع رجلٌ آخرُ في أنْ يكونَ منهم، فقام فقال: «أمِنْهُم أَنا؟ قالَ: سَبَقَكَ بِها عُكَّاشَةُ» وفاز بها لاستِباقِه إليها.
عبَادَ اللهِ : ولعلَّ سَببَ قولِه: «سَبقَكَ بها عُكَّاشَةُ» أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قدْ يَكونُ عَلِم بوَحيٍ مِن اللهِ تَعالَى أنَّه يُجابُ دَعوتُه لعُكَّاشَة، ولم يَكُن ذلِك للآخَرِ، أو لأنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يَعلمُ أنَّ السَّائِلَ الآخَرَ ممَّن لا يَستحِقُّ ذلك، فأجابَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بلفظٍ مُشترَكٍ وبكَلامٍ يَحتمِلُ أنَّ سَبْقَ عُكَّاشةَ بالسُّؤالِ مَنَعَه مِن إجابتِه، وسَتَر حالَ السَّائِل ولم يَهتِكْ سِتْرَه، وهو مِن بابِ المَعاريضِ الجائزةِ، ولم يُصرِّح له بأنَّه ليس منهم ولا مُستحقًّا لتِلك المنزلةِ، وهذا مِن حُسنِ عِشرتِه وجَميلِ صُحْبتِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأيضًا لِيَسُدَّ البابَ؛ إذ لو قالَ للثاني: نعَمْ، لأَوْشكَ أنْ يقومَ ثالثٌ ورابعٌ إلى ما لا نِهايةَ له، ويَسألَه الدَّعوةَ أنْ يكونَ منهم، وليسَ كلُّ الناسِ يَصلُح لذلِك.
الخطبة الثانية
عبَادَ اللهِ :جاءَ عَن أبي أُمامةَ الباهليِّ رَضيَ اللهُ عَنه أنَّ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: " وعَدَني رَبِّي أن يُدخِلَ الجَنَّةَ مِن أمَّتي سَبعينَ ألفًا بغيرِ حِسابٍ ولا عَذابٍ، مَعَ كُلِّ ألفٍ سَبعينَ ألفًا، وثَلاثَ حَثيَاتٍ مِن حَثيَاتٍ رَبِّي " قالَ العَلّامَةُ الشيخُ عَبْدُ العَزِيزِ بنُ بازٍ رحمهُ اللهُ : (هذه الحَثيَاتُ لا يَعلَمُ مِقدارَها إلَّا اللهُ سُبحانَه وتعالى ، والجامِعُ في هذا أنَّ كُلَّ مُؤمِنٍ استَقامَ على أمرِ اللهِ وعلى تَركِ مَحارِمِ اللهِ ووقَفَ عِندَ حُدُودِ اللهِ هو داخِلٌ في السَّبعينَ، داخِلٌ في حُكمِهم بأنَّه يَدخُلُ الجَنَّةَ بغيرِ حِسابٍ ولا عَذابٍ).
المرفقات
1731346048_بلا حساب.pdf