بلاء السيارات.

عاصم بن محمد الغامدي
1437/05/17 - 2016/02/26 04:55AM
[align=justify]بلاء السيارات.
الخطبة الأولى:
الحمد لله العزيز القدير المتعال، المتقدس عن الأشباه والأشكال، المتنزه عن الأنداد والأمثال، المتجلي بمظاهر الجلال والجمال والكمال، أحمده سبحانه وتعالى وأشكره، وأتوب إليه وأستغفره، وأسأله أن ينشلنا من أوحال الأوجال، وينزع عنا أغلال الجهّال، ويجنبنا موارد الوباء والوبال.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ونبيه، بالهدى ودين الحق أرسله، فصلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين بذلوا للدين كل رخيص وغالٍ.
أما بعد عباد الله:
فأوصيكم ونفسي بتقوى الله، فهي وصيته تعالى للأولين والآخرين، وبها تكون النجاة في يوم الدين، {ولقد وصينا الذين أوتوا الكتاب من قبلكم وإياكم أن اتقوا الله}.
وتقوى الله أن تجعل بينك وبين عذابه وقاية، باتباع ما أمر، واجتناب ما نهى عنه وزجر.
أيها المسلمون:
الدين، والنفس، والعرض، والعقل، والمال، ضرورات لا تستقيم حياة الناس إلا بالمحافظة عليها، ولا يحل الاعتداء على شيء منها إلا بحق متقرر شرعًا، وصيانتها أحد المقاصد الشرعية التي وضعت لأجلها الأحكام، وتظافرت على تأكيدها النصوص.
فقد بين سبحانه الغرض من الخلق: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون}، وأمر بالمحافظة على النفس: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق}، وأكد على أهمية العرض: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً}، ونهى عما يؤثر على العقل: {إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون}، ومنع التعدي على المال: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم}.
وقد امتن الله سبحانه علينا في هذا الزمان فرزقنا وسائل متعددةً، نقضي بها حاجاتِنا، ونوفر بها أوقاتِنا.
تأملوا في الطائرات كيف قرّبت البعيد، والقطارات كيف سهلت السفر، والسيارات كيف اختصرت الأزمنة، والفلك كيف تسير على البحار لا يحفظها إلا ربها سبحانه.
إنها وسائل ذات نفع عظيم، لها أثرها الهائل في حياتنا، فمن كان يتخيل أن الإنسان سيحلق يومًا في الأجواء ليقطع الفيافي والقفار، ومن كان يصدق أن أحدًا يمكن أن يصلي الفجر في مكة، والظهر في نفس اليوم في المدينة.
لقد تقاربت الأزمان، فالشهور التي كانت تقطع فيها المسافات تقلصت إلى ساعات، والساعات غدت دقائق وثوانٍ، والبلدان التي ما كان يتخيل المرء الوصول إليها، صارت نزهة يذهب إليها في الصباح ويعود إلى منزله في المساء.
وقد امتن الله تعالى على عباده بوسائل المواصلات، فقال سبحانه: {والخيل والبغال والحمير لتركبوها وزينة ويخلق ما لا تعلمون}، قال ابن سعدي رحمه الله: {ويخلق ما لا تعلمون} مما يكون بعد نزول القرآن من الأشياء التي يركبها الخلق في البر والبحر والجو، ويستعملونها في منافعهم ومصالحهم-انتهى كلامه رحمه الله-.
وها هي وسائل المواصلات المختلفة تحملنا ومتاعنا، مستوين عليها، مطمئنين فيها، آكلين شاربين وإن شئنا نائمين في جوفها، إلى بلد لم نكن بالغيه إلا بشق الأنفس، لا يشتكي راكبها حرًا في زمن حر، ولا يحمل من أقلته هم مطر ولا قر، فما أعظمها من بركة وسعادة، قال صلى الله عليه وسلم: "من سعادة المرء: المسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهني" [صححه الألباني].
فتبارك من علم الإنسان ما لم يعلم، {والله خلقكم وما تعملون}.
ومع هذا الخير العظيم، فقد وجدت منغصات، وتحولت النعمة عند قوم إلى نقمة، وأصبحت أداة الخير سبيلاً إلى الهلاك، والإعاقة الدائمة، وبتر الأعضاء، والإصابات المستعصية، وسالت الطرقات بالدماء، وتحولت الأجساد إلى أشلاء.
من يصدق أن تكون السيارة محلاً للتحدي، ووسيلة لإثبات الذات؟
من يتخيل أن يراهن بعض الشباب على حياته وحياة المشجعين لطيشه، فيأخذَ بسيارته ذات اليمين وذات الشمال، لينقل مرافقوه للناس أخبار جرأته، ورباطة جأشه.
من يتصور أن عاقلاً يرمي صحته في مهب الريح، ويشتري أسرّة المرضى بدقائق ما ضره تأجيلها.
أيها المسلمون:
في العشرين عامًا الماضية، وصل عدد الوفيات بسبب حوادث السيارات إلى أكثر من ستة وثمانين ألف شخص، وعدد المصابين ستمئة وأحد عشر ألف مصاب، الكثير منهم أصبح معاقاً، في أكثر من 4 ملايين حادث.
وقُدرت الخسائر الاقتصادية بسبب هذه الوفيات بأكثر من تسعة وسبعين مليار ريال، وعلاج الإصابات البسيطة بمئة وسبعين مليون ريال، والإصابات البليغة بمئة وخمسة وثلاثين مليون ريال، وتلفيات الممتلكات بقرابة السبعة مليارات.
وتذكر بعض الدراسات الأمنية أن عدد الوفيات بسبب الحوادث في المملكة وصل إلى سبعة عشر وفاة في اليوم الواحد، واحتلت المملكة المركز الأول على مستوى العالم في عدد الحوادث المرورية، وأضرار السيارات أكثر من ستة مليارات .
هذا غير الخسائر الاجتماعية والنفسية، التي يصعب حصرها، وتقدير حجمها.
إن هذه الأعداد المهولة تزيد على عدد القتلى والمصابين في عدد من أشد الحروب على مستوى العالم ضراوة وشدة.
وهي تستدعي وقفة جادة حازمة؛ لإعلان الحرب على أسبابها، ومسبباتها، محافظة على الضرورات الخمس التي سبق ذكرها.
فالأنفس المعصومة غالية، وأموال المسلمين نفيسة، وما ذهب لا يمكن تعويضه، وما بقي يجب المحافظة عليه، وهذه الأرقام تبين حجم الخطر، وتوضح عظيم الضرر.
عباد الله:
إن أبرز أسباب كثرة الحوادث في هذه البلاد –كما أكدته الدراسات-السرعة، وقطع الإشارة، وإرهاق السائق، وعدم المبالاة بقواعد السير، وأنظمة المرور، وكثير من هذه الأخطاء تقع من شباب أغرار في عمر الزهور.
وبالعودة إلى شريعة الله تعالى يتبين العلاج، فقد حذر الله من إعطاء السفهاء الأموال: {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قيامًا}، ونهى عن قتل النفس: {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة}، ورزقنا الطيبات وحذر من الاعتداء عليها: {يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}، وأمر ولاة الأمور بتنظيم أمور الناس وتحقيق مقاصد الشريعة، وأوجب علينا طاعتهم في ذلك:{يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله والرسول وأولي الأمر منكم}، فمخالفة أنظمة المرور المؤدية إلى تحقيق مقاصد الشريعة معصية لله تعالى قبل أن تكون مخالفة للنظام.
والتأني مطلوب في كل الأمور، قال صلى الله عليه وسلم: "التأني من الله، والعجلة من الشيطان". [حسنه الألباني]، وفي الحديث الصحيح: "من يحرم الرفق يحرم الخير كله". [رواه مسلم].
وحث النبي صلى الله عليه وسلم على الاهتمام بالمركوب، فقال عليه الصلاة والسلام: "اتقوا الله في هذه البهائم فاركبوها صالحة" [رواه أبو داود وصححه الألباني].
والمقصد يا عبد الله أن تعي مسؤوليتك أمام الله تعالى عن نفسك التي بين جنبيك، فهي أمانة عندك لا يحل لك إزهاقها، فمن فعل فقد أتى جرمًا عظيما، ينال عليه في الآخرة عذابًا أليمًا إلا أن يتوب الله عليه، قال صلى الله عليه وسلم: "إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في بلدكم هذا، في شهركم هذا، ألا هل بلغت، اللهم فاشهد".
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {والذي خلق الأزواج كلها وجعل لكم من الفلك والأنعام ما تركبون* لتستووا على ظهوره ثم تذكروا نعمة ربكم إذا استويتم عليه وتقولوا سبحان الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين* وإنا إلى ربنا لمنقلبون}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين، ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد عباد الله:
فإن عامة أسباب الحوادث يمكن تلافيها، والسعيد من وعظ بغيره، ومن طلب السلامة وجد طريقها، فلا تقلب النعمة نقمة، بسبب عجلة، أو غفلة.
وشكر النعمة يكون بحمد الله عليها، والالتزام بأوامره ونواهيه فيها، والمحافظة على آدابها العامة.
ومن الآداب المهمة: التوكل على الله تعالى، والاعتماد عليه، وتفويض الأمر إليه، قال صلى الله عليه وسلم: "من قال إذا خرج من بيته: باسم الله توكلت على الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله، يقال له: هديت وكفيت ووقيت، فيتنحى عنه الشيطان، ويقول شيطان آخر: كيف لك برجل هدي وكفي ووقي؟". [صححه الألباني].
واصحب ذكر الله في ركوبك، وسفرك، فلا تنس دعاء ركوب الدابة، ودعاء السفر، وكبر إذا علوت وسبح إذا هبطت.
وحافظ على طاعة الله، واستعن بهذه المركوبات عليها، وابتعد عن عصيان ربك سبحانه بنعمه.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: "احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكن قل: قدر الله وما شاء فعل". [رواه مسلم].
وتأمل إن دعتك النفس إلى المخالفة في حال من يترقب وصولك، من والد وولد وزوجة وأخ، ولا تفرط في الثقة بنفسك أو مركبك.
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، واحفظنا والمسلمين من شرور أنفسنا وشر الشيطان وشركه.
ثم اعلموا رحمكم الله، أن الله تعالى أمركم بالصلاة والسلام على نبيه، فقال في محكم التنزيل:{إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا}، وقال عليه الصلاة والسلام: "إن من خير أيامكم يوم الجمعة، فأكثروا فيه من الصلاة والسلام عليه"، فاللهم صل على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم، وعلى آل إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم قنا شر أنفسنا، وشر الشيطان وشركه وشركه.
اللهم احفظنا من بين أيدينا، ومن خلفنا، وعن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن فوقنا، ونعوذ بعظمتك أن نغتال من تحتنا.
اللهم إنا نستعينك ونستغفرك، ونثني عليك الخير ولا نكفرك، ونخلع ونترك من يفجرك.
اللهم إياك نعبد، ولك نصلي ونسجد، وإليك نسعى ونحفد، نرجو رحمتك ونخشى عذابك، إن عذابك الجد بالكفار ملحق.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء.
اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، واحم حوزة الدين.
اللهم عليك بظلمة اليهود والنصارى والرافضة والشيوعيين، الذين يصدون عن دينك ويحاربون أولياءك، اللهم أحصهم عددًا، واقتلهم بددًا، ولا تغادر منهم أحدًا.
اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.
اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا.
عباد الله {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}، فاذكروا الله الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.[/align]
المشاهدات 1253 | التعليقات 0