بَعْضُ مَظَاهِرِ رَحْمَةِ اللهِ بِعِبَادِهِ.خطبة الاستسقاء بتاريخ 26/ 5/ 1446هـ

أ.د عبدالله الطيار
1446/05/26 - 2024/11/28 18:12PM

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ منزل الكتاب، ومجري السحاب، يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ويقضِي ولا رَادَّ لقضائِهِ، بيدهِ مقاليدُ الأمورِ والأسبابِ، أحمدُهُ سبحانَهُ وَسِعَتْ رحمتُهُ كلَّ شيءٍ، وعَمّتْ كلَّ حَيٍّ، كَتَبَهَا اللهُ للمتَّقِينَ، وأَدْنَى مِنْهَا المحسنينَ، (رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ) غافر: [7]. قال تعالى: (فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيُمْدِدْكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَارًا) نوح: [10-12] وَأَشْهَدُ ألّا إِلَهَ إِلّا اللهُ، وحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أنّ محمدًا عبدهُ ورسولُه، صلّى اللهُ عليهِ وعلى آلهِ وصَحْبِهِ وسلّمَ تَسْلِيمًا كثيرًا أمّا بعدُ: فاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ وَأَطِيعُوهُ، واطْلُبُوا رِضَاهُ بِطَاعَتِهِ، وفِرُّوا مِنْ ضِيقِ الدُّنْيَا إلى سِعَةِ رَحْمَتِهِ (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ) الذاريات: [50-51].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: إن مِنْ أهمِّ الصفاتِ التي تَعَرَّفَ اللهُ عزَّ وجلَّ بهَا إلى عبادِهِ صفةَ الرَّحْمَةِ، قالَ تعالَى: (نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الحجر: [49] والرحمةُ كتبَهَا اللهُ عزّ وجلّ على نَفْسِهِ، واخْتَصَّ بِهَا مَنْ شَاءَ مِنْ خَلْقِهِ، هِيَ منجاةُ الخائفينَ، ورَجَاءُ المؤمنينَ، بَشَّرَ اللهُ بها المتقينَ، وطَمْأَنَ بِهَا التَّائبينَ، وتَوَدَّدَ بِهَا إلى العُصَاةِ والمذنبينَ، وجَعَلَهَا شِعَارًا للخلائقِ أجمعينَ، قال ﷺ: (لمّا قَضى اللهُ الخَلْقَ، كَتَبَ عِنْدَهُ فَوْقَ عَرْشِهِ: إنّ رَحْمَتي سَبَقَتْ غَضَبِي) أخرجه البخاري (7453) واللفظ له، ومسلم (2751).

عِبَادَ اللهِ: ومظاهرُ رحمةِ اللهِ عزَّ وجلَّ كثيرة لا يُحْصِيهَا لِسَانُ فصيحٍ، ولا يَعُدُّهَا قَلَمُ أديبٍ ولا تغيبُ عن نَظَرِِ كلِّ أريبٍ لبيبٍ، قالَ تَعَالَى: (فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا) الروم: [50] يُبْصِرُهَا الْعَبْدُ في نَفْسِهِ، قالَ تعالَى: (وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) الذاريات: [21] وفي الكونِ مِنْ حَوْلِهِ: قال سبحانه(وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) القصص: [73].
أيُّهَا المؤمنونَ: ومِنْ مَظَاهِرِ رحمةِ اللهِ عزَّ وجلّ أنْ فتحَ بابًا للتوبةِ لا يُغْلَقُ حَتَّى تَطْلُعَ الشمسُ مِنْ مَغْرِبِهَا، قالَ تعالَى: (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) الزمر: [53].
عِبَادَ الله: إنَّ رَحْمَةَ اللهِ عزَّ وجلَّ سببُ كلِّ النِّعمِ، فمَا التوفيقُ والهدايةُ والنَّجَاحُ إلا أثرٌ من آثارِ رَحْمَةِ اللهِ عزَّ وجلَّ بعبادِهِ، قالَ تعالَى: (وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا) النور: [21] وقَالَ ﷺ: (سدِّدُوا وقارِبوا وأبشِروا واعلَموا أنه لن يُدخِلَ أحدَكم الجنةَ عملُهُ، وَلا أَنَا، إلّا أنْ يتغمَّدَني اللهُ بمغفِرَةٍ ورحمةٍ) أخرجه البخاري (6447) ومسلم (2818) فبرحمةِ اللهِ نَجَا الناجُّون، واهتدَى المهتدونَ وبرحمتِهِ سبحانه يفرحُ المؤمنونَ: (قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) يونس: [58].
أيُّهَا المؤمنونَ: وَالمَطَرُ رحمةٌ منَ اللهِ عزَّ وجلَّ وآيةٌ مِنْ آَيَاتِه تنطق بوحدانيتِهِ وحكمتِهِ يصيب ُبهِ مَنْ يشاءُ، ويصْرِفُهُ عنْ مَنْ يَشَاءُ، يَنْزِلُ بِأَمْرِهِ، وَيَتَحَرَّكُ بِإِذْنِهِ قالَ تَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ) النور: [43] قال ابنُ عباسٍ رضي اللهُ عنْهُمَا: (ليسَ عامٌ بأكثرَ مطراً من عامٍ ولكنَّ الله يُصرِّفُه كيفَ يشاءُ، ثم قرأَ قولَ اللهِ تَعَالَى: (وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا) الفرقان:[50].
أيُّهَا المؤْمِنُونَ: وكانَ مِنْ هَدْيِ النَّبِيِّ ﷺ إذَا خَرجَ لِصَلاةِ الاسْتِسْقَاءِ خَرَجَ متذلِّلاً مُتَوَاضِعًا، فعنِ ابنِ عباسٍ رضيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ: (خَرَجَ رَسُولُ اللهِ ﷺ للاستسقَاءِ مُتَذَلِلاً مُتَواضِعاً مُتَخَشِعاً مُتَضَرِعاً) أخرجه أبو داود (1165) حسنه الألباني في إرواء الغليل (669).
وكانَ من هَدْيْه ﷺ في الاستسقاء أنْ يَقْلِبَ رِدَاءَه تفاؤلاً بتغييرِ الحالِ، وإذا اسْتَسْقَى اسْتَقبَل القبلةَ، ودعا ربَّه، وأطالَ الدعاءَ.

فتوجّهوا- رَحِمَكُمُ اللهُ- إلى اللهِ بقلوبِكُمْ، وأَظْهِرُوا فَقْرَكُمْ إِلَيْهِ، وَضَعْفَكُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ انْكَسِرُوا عَلَى بَابِهِ، وانْطَرِحُوا بَيْنَ يَدَيْهِ، وارْفَعُوا أَكُفَّكُمْ إِلَيْهِ، واسْأَلُوهُ مِنْ فَضْلِهِ، وأَكْثِرُوا مِنْ اسْتِغْفَارِهِ وشُكْرِهِ، وأَبْشِرُوا بِالْخَيرِ والبَرَكَةِ، فَرَبُّكُمْ حَيِيٌّ كريمٌ يَسْتَحِيي مِنْ عبدِه إذَا رَفَعَ يَديه إليه أَنْ يردَّهما صِفرًا، أستَغفِرُ اللهَ الَّذي لا إلَهَ إلّا هو الحيَّ القَيُّومَ وأَتوبُ إليه، الَّلهم أنتَ اللهُ لا إلَه إلا أنتَ، أنتَ الغنيُّ ونحنُ الفقراءُ، أَنْزِل علينَا الغيثَ ولا تجعلنَا من القانطينَ، الَّلهم أَغثْنا، الَّلهم أغثْنا، الَّلهم أغثْنا، الَّلهم أَسْقنا غيثًا مغيثًا هنيئًا مريئًا، طبقًا مجللًا، سحًّا عامًّا، نافعًا غيرَ ضارٍّ، عاجلًا غيرَ آجلٍ، الَّلهم تُحيْيِ به البلادَ، وتغيثُ به العبادَ، وتجعلُه بلاغًا للحاضرِ والبادِ، الَّلهم سُقيا رحمةٍ، لا سُقيَا عذابٍ ولا هدمٍ ولا غرقٍ، الَّلهم أسْقِ عبادكَ وبلادَك وبهائَمكَ وانْشرْ رحمتَك، وأَحْي بلدَك الميِّتْ، الَّلهم أَنْبِتْ لنَا الزرعَ، وأدرَّ لنا الضرعَ، وأَنْزلْ علينَا من بركاتِك، واجعلْ ما أَنْزلتَه علينَا قوةً لنا على طاعتِك، وبلاغًا إلى حينٍ، الُّلهم إنَّا خلقٌ من خَلقِك فلا تمنعْ عنَّا بذنوبِنَا فضلكَ، الَّلهم يا مَنْ وسعتْ رحمتُه كلَّ شيءٍ، ارحمْ الشيوخَ الركَّعَ والأطفالَ الرضَّعَ والبهائمَ الرُّتَّعَ وارحمْ الخلائقَ أجمعْ، برحمتِك يا أرحمَ الراحمينَ.

وصلَّى اللهُ وسلَّم على نبيِّنا محمدٍ وعلى آلِه وصحبِه أجمعين.

                                                                                                            الخميس 26/ 5/ 1446هـ

المشاهدات 105 | التعليقات 0