بر الوالدين
سليمان بن خالد الحربي
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أمَّا بَعْدُ:
فاتَّقُوا اللهَ أيها المسلمون، {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا} [النساء:36].
مَعْشرَ الإخوةِ: حينما نقرأ آيات الله -جل وعلا- وهي تتكلم عن القلب الكبير تَخُور القوى وينهزم التماسك، إنه قلب الوالدين، في كلام الله عنهما تتدفقُ مشاعر النفس، وتتضارب الأفكار، {إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء:23، 24]، {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [يوسف:64]،{إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلم مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلمونَ} [يوسف:86]، {فَأَجَاءَهَا المخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَالَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا} [مريم:23]، {وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ} [الأحقاف: 17].
لم يعرف المرء في حياته كلِّها من يهتم به كاهتمام أبويه به، فمنذ صِغَرِه وهما يطعمانه ويحملانه وينظفانه ويحفظانه، إذا بكى أرضياه، وإذا خاف أمَّناه، وإذا جاع أطعماه، وإذا اشتهى شيئًا جلباه، هذا قَدَرهما رحمةٌ لا يمكن أن تُصوَّرَ، ولا تُوصف، فما باله حينما يبلغ مبلغ الرجال، ويشتد تعلقهما به، ما باله طوى كشحًا، وأعرض عنهما؟!
مشاهدُ من العقوق نراها من بعض الشباب، والله إنها مشاهد محزنة في تعامل الابن مع والديه، ما أكثر نماذج الخذلان التي يصاب بها الوالدان في أبنائهم! كأني بحسرة الوالدين ولوعتهما حينما يريان ثمرة فؤادهما كلما كبر كلما ابتعد وقلت طواعيته، كم من نظرةٍ أغنت عن مئات الكلمات! كم من دهشةٍ عنوانها الأسى والأحزان! ألا ما أشد وأقسى قلوب بعض الأولاد! يعيشون بأنانية وعدم مُبالاة.
متى تستيقظ هذه الضمائر تجاه آبائهم وأمهاتهم، إن أعظم مصيبة على الوالدين أن يريَا ابنهم في طريق الشر وأهله، هي صدمة كبرى وعظمى، كثيرًا ما نسمع أنين الآباء والأمهات ممن يشتكي من صلافة وجلافة ابنه معه وعدم احترامه، كم من أبٍ ما عرَف مراكز الشرطة ولا دخلها، فلما كَبِرَ ابنُه جرَّ عليه الوَيْلات والحسراتِ، فهو في كل يوم في مركز شرطة أو في مجلس حكم القاضي، عاش كريمًا متعففًا فَجَرَّه ولدُه إلى ما لا يريد، من استجداء الناس وطلب الشفاعات، بسبب مصائب ولده، كم نسمعهم يتجرَّعون الأسى حين يقف ابنهما خلف قضبان الحديد في السجون بسبب المخدرات أو جنوح الشهوات، وتأملوا في أبياتِ ذاك الأب المكْلُوم في ولده حينما تَنَكَّرَ له بعد كبره فقال:
غَذَوْتُكَ مَوْلُودًا وَمُنْتُكَ يَافِعًا
تُعَلُّ بِمَا أَجْنِي عَلَيْكَ وَتَنْهَلُ
إِذَا لَيْلَةٌ ضَاقتْكَ بِالسُّقْمِ لم أَبِتْ
لِسُّقْمِكَ إِلَّا سَاهِرًا أَتَمَلملُ
كَأَنِّي أَنَا المطَرُوقُ دُونَكَ بِالَّذِي
طُرِقْتَ بِهِ دُونِي فَعَيْنَايَ تَهْمُلُ
تَخَافُ الرَّدَى نَفْسِي عَلَيْكَ وَإِنَّهَا
لَتَعْلم أَنَّ الموْتَ وَقْتٌ مُؤَجَّلُ
فَلما بَلَغْتَ السِّنَّ وَالْغَايَةَ الَّتِي
إِلَيْهَا مَدَى مَا فِيكَ كُنْتُ أُؤَمِّلُ
جَعَلْتَ جَزَائِي غِلْظَةً وَفَظَاظَةً
كَأَنَّكَ أَنْتَ المنْعِمُ المتَفَضِّلُ
فَلَيْتَكَ إِذْ لم تَرْعَ حَقَّ أُبُوَّتِي
فَعَلْتَ كَمَا الْجَارُ المجَاوِرُ يَفْعَلُ([1])
أيها الأبناء، اتقوا الله في والديكم وارحموهم كما ربياكم صغارًا، ادفعوا عنهم أذاكم المعنوي؛ فقد كانا يدفعان عنكم الأذى الحسي والمعنوي، روى البخاريُّ ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص قال: أقبل رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال أُبَايِعُك عَلَى الْجِهَادِ وَالْهِجْرَةِ، أَبْتَغِي بِذَلِكَ وَجْهَ اللهِ، فَقَالَ النبي -صلى الله عليه وسلم-: «فَهَلْ مِنْ وَالِدَيْكَ أَحَدٌ حَيٌّ» قَالَ نَعَمْ بَلْ كِلاَهُمَا. فَقَالَ ه: «فَتَبْتَغِي الْأَجْرَ مِنَ اللَّهِ»؟ قال: نعم، قال: «ارْجِعْ إِلَى وَالِدَيْكَ فَأَحْسِنْ صُحْبَتَهُمَا»([2]).
جهاد وفي زمن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومع أفضل راية وأسمى هدف ومع ذلك قدم والديه على هذا الجهاد.
وصف الله أنبياءَه بأنهم بَرَرَةٌ، فقال عن نبيه يحيى: {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلم يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا} [مريم:14]، وقال عن عيسى -عليه السلام-: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلم يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا} [مريم:32]، بل أوصى الله بالأبوين الكافرين، فكيف بمن عاش على الصلاة والصيام والخوف من الله؟ أفلا يستحق بِرَّكَ؟
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا} [الإسراء:23].
بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.
أمَّا بَعْدُ:
أيها الإخوةُ في الله: إنَّ العارَ والشَّنَارَ والويلَ والثُّبُورَ أنْ يُفاجأ الوالدانِ بالتنكُّرِ للجميلِ، كانا يتطلعانِ للإحسانِ، ويُؤَمِّلان الصلةَ بالمعروفِ، فإذا بهذا المخذولِ قد تناسى ضَعْفَهُ وطُفولته، وأُعجِب بشبابه وفتوته، وغرَّه تعليمه وثقافته، وترَفَّعَ بجاهه ومرتبته، يؤذيهما بالتأفُّف والتبرُّم، ويجاهرهما بالسوء وفُحْشِ القول، يقهرهما وينهرهما، تَئِنُّ لهما الفضيلة، وتبكي من أجلهما المروءة.
سؤالي: هل حينما كبِرا فاحتاجا إليكَ جعلتهما أهوْنَ الأشياء عليك؟! قد عمَّمتَ غيرهما بالإحسان، وقابلتَ جميلهما بالنسيان. شَقَّ عليك أمرُهما، وطولُ عمرهما. أما علمت أن مَنْ بَرَّ بوالديه بَرَّ به بنوه، ومن عقَّهما عقوه، ولسوف تكون محتاجًا إلى بر أبنائك، وسوف يفعلون معك كما فعلت مع والديك، وكما تدين تُدان، والجزاء من جنس العمل. وما من ذنب أجدر أن تُعَجَّلَ لصاحبه العقوبةُ في الدنيا مع ما يُدَّخَرُ له في الآخرة من البغي وقطيعة لرحم، وإن أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين، بهذا صح الخبر عن الصادق المصدوق.
وفي حديث عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- عند أحمد في مسنده قال: قال رسول الله: «ثَلاَثَةٌ لاَ يَنْظُرُ اللَّهُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ وَالمرْأَةُ المتَرَجِّلَةُ المتَشَبِّهَةُ بِالرِّجَالِ وَالدَّيُّوثُ، وَثَلاثَةٌ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: الْعَاقُّ لِوَالِدَيْهِ والمدْمِنُ الْخَمْرَ وَالمنَّانُ بِمَا أَعْطَى»([3]).
وعن جابرٍ -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «إِنَّ رِيحَ الْجَنَّةِ لَتُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَلْفِ عَامٍ، وَاللهِ لَا يَجِدُ رِيحَهَا عَاقٌّ وَلَا قَاطِعُ رَحِمٍ»([4]).
أخي الموفَّق، ها هما عندك أو أحدهما فما أنت صانع؟ كن بجانبهما ما استطعت وأحسن رعايتهما بالكلمة الطيبة، وسد حاجتهما، تَوَدَّدْ إليهما أرضهما وطيب خاطرهما، فما من والد إلا وله الفضل بعد الله على ابنه، ما من أحد توفي والداه إلا وتحسر أشد التحسر على تضييع باب من أبواب الجنة مفتوح بين يديه، ومع هذا فلا شيء فات، والبر يكون بعد الوفاة بالدعاء لهما، والصدقة عنهما، وإكرام صديقهما، والقيام بشؤون أبنائهما، ذلك من أعظم البر بعد الوفاة.
وتذكر كل يوم أن الدنيا قصيرة جدًّا، وما فائدتها إذا فشلتَ في أعظم علاقة وصلة بينك وبين غيرك من البشر، ما فائدة الحياة إن رضي الناس عنك وسخط والداك؟ وما فائدتها إن أعجب بك أصدقاؤك ودعا عليك والداك؟ وتذكر إسماعيل-عليه السلام- فهو قدوةٌ عظيمةٌ في الامتثال والطواعية والتضحية، لم يُضَحِّ في ساعة بعد العصر، ولم يُضَحِّ بألف أو ألفين من المال، بل ضحى بحياته وقدمها لوالده المكْلُوم، فكيف بك؟ فهنيئًا لمن ضربوا المثل في برهما، هنيئًا لمن كانوا قدوةً واقعيةً لنا في برهم لوالديهم.
اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، واغفر لآبائنا وأمهاتنا، ربنا اغفر لهم وارحمهم كما ربيانا صغارا.
([1]) النفقة على العيال (1/158، رقم 151).
([2]) أخرجه البخاري (3/1094، رقم 2842)، ومسلم (4/1975، رقم 2549).
([3]) أخرجه أحمد (2/134،، رقم 6180).
([4]) صفة الجنة لأبي نعيم (1/233، رقم 194).
المرفقات
1707675633_بر الوالدين.docx