بر الوالدين

 

بر الوالدين

ألقيت في جامع حمراء الأسد بالمدينة المنورة

 9/ 10/ 1442

الخطيب: عبدالله بن عبدالرحمن الرحيلي

---------------

 

عناصر الخطبة:

1-مكانة بر الوالدين.

2-فضل الوالدين وإحسانهما.

3-ثمرات بر الوالدين وفضائله.

4-التحذير من عقوق الوالدين.

5-بر الوالدين بعد موتهم.

6-صور بر الوالدين.

7-وقفات مع قوله تعالى (وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَـاناً)

 

الخطبة الأولى:

الحمد لله الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وكفى بالله شهيداً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إقراراً به وتوحيداً، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً مزيدا .

 

أما بعد.. فاتقوا الله عباد الله، وأدُّوا حقه بتوحيده جل في علاه، وأدُّوا حقوق العباد بالإحسان إليهم رجاء ثواب الله، تظفروا بسعادة الدنيا ونعيم الآخرة يوم العرض على الله.

عباد الله.. هل لكم في قربة من أعظم القربات؟ وطاعة من أجلِّ الطاعات؟

 

إنه ميثاق الله على الأولين (وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل لا تعبدون إلا الله وبالوالدين إحسانا) [البقرة: 83]

إنه أمر الله تعالى لجميع المؤمنين (وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَاناً) [النساء: 36]

 

إنه بر الوالدين.

لقد قرن الله حقهما بحقه، وشكرهما بشكره، وأوصى بهما إحساناً بعد الأمر بعبادته: (أَنْ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) [لقمان: 14].

لله سبحانه نعمة الخلق والإيجاد، وللوالدين بإذنه نعمة النسل والإيلاد.

 

عباد الله.. لقد جُبلت النفوس على حبّ مَن أحسن إليها، وتعلقت القلوب بمن كان له فضل عليها،  وليس أعظمَ إحساناً ولا أكثرَ فضلا بعد الله سبحانه من الوالدين.

 

لا نذكر أيام كنا في أرحام الأمهات، ولا نذكر ما نزل بأمهاتنا من ألم الحمل والوضع وأنواع المشقات، قال الله سبحانه مذكرا لنا في كتابه: (وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ) [لقمان: 14].

 

اذكروا عباد الله ضعفَ الطفولة، ومشقةَ الحمل والولادة، كم أسهرت أمك ليلَها وأتعبت نهارَها، وكم حبستْ راحتها وقرارَها.

 

حملتك تسعة أشهر في أحشائها، وهناً على وهن، حملتك كرهاً، ووضعتك كرهاً، ولا يزيدها نموك إلا ثقلاً وضعفاً.

 

وعند الوضع رأت الموت بعينيها، وشعرت بآلام الدنيا بين جنبيها.

 ولما رأتك إلى جانبها زالت عنها آلامُها، وعلقت عليك آمالَها.

 

كم ليــلةٍ باتتْ بثقْلِك تشتكِي      **       لها من جَــواها أنَّةٌ وزَفِيرُ

وفي الوضعِ لو تدرِي عليك مشقة     **    فكم غُصَصٍ منها الفؤادُ يطيرُ

  وكم مرةٍ جاعت وأعطتك قوتَها    **    صفواً وإشـفاقاً وأنت صغيرُ

 

أما أبوك فتذكر كَدَّه وسعيَه وسفرَه، واستحضر همَّه وكدرَه؛ بحثاً عن كل ما تصلُح به معيشتُك.

فكم للوالد من عظيم الإحسان والإنعام، وكم له عليك من أياد جسام، فلقد أنفق عليك وغذاك بأطيب الطعام.

 

أنت له مجبنة مبخلة، كرَّر عليك الكسوة والنفقة.

تربيت بنعمته صغيرا، وتقلبت بمعروفه كبيرا.

هذان هما والداك، وتلك هي طفولتك وصباك، فإياك والتنكر لمن رباك!

 

لهما الفضل بعد الله على الولد فيما هو فيه، ولا يقدر الولد أن يوفي حق والديه :

قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: " لا يجزي ولد والداً إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه فيعتقه "

 

عباد الله.. إن برَّ الوالدين بركة ونماء، وخير وزكاء، وسعادة في الدنيا ويومَ الجزاء.

بر الوالدين سببٌ عظيم لدخولِ الجنةِ، قال صلى الله عليه وسلم: «رغِمَ أنفُه، ثم رغِمَ أنفُه، ثم رغِمَ أنفُه، من أدرك أبويه عند الكِبَرِ، أحدَهما أو كليْهما، ثم لم يدخِلاه الجنةَ»

 

ومن أراد عظيم الأجر والثواب فليعلم أن الأم بابٌ من أبواب الجنة عريض، تردد رجل على النبي -صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات يسأله الجهاد، وفي كل مرة يقول له: "ويحك! أحية أمك؟!"، قال: نعم قال: "ويحك، الزم رجلها فثم الجنة"

 

الله أكبر يا عباد الله! لقد فاق بر الوالدين الجهاد في سبيل الله!

جاء رجلٌ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم يستأذنُه في الجهادِ، فقال: «أحيٌّ والداك؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهدْ».

 

ويقول النبي -صلى الله عليه وسلم-: " الوالد أوسط أبواب الجنة، فإن شئت فأضع ذلك الباب أو احفظه " ضيِّعه بالعقوق، أو احفظه بالبر.

بر الوالدين صلاح وخيرية، يسري في الأجيال والذرية، فـ " بِرُّوا آباءكم تبرُّكم أبناؤكم " .

 

إنه سبب لشرح الله الصدور، وباب لتيسير الأمور، رضا الله معلَّقٌ به، ونيلُ ما عنده مرتبط بسببه، قال -صلى الله عليه وسلم-: " رضا الرب في رضا الوالد وسخط الرب في سخط الوالد "

 

بر الوالدين سبب لتفريج الكُرُباتِ، وإجابةِ الدعواتِ، كما في حديث الثلاثة الذين باتوا في غار فانطبقت عليهم الصخرة، فتوسل أحدهم ببره بوالديه، فانفرجت عنهم الصخرة.

 

بر الوالدين سبب لمغفرة الذنوب والآثام : قال رجل: يا رسول الله: إني أصبت ذنباً عظيماً فهل لي من توبة؟ فقال: "هل لك من أمٍّ؟" قال: لا، قال: "هل لك من خالة؟" قال:نعم، قال: " فبِرَّها " رواه الترمذي؛ لأن الخالة بمنزلة الأم.

 

إن بر الوالدين فريضة لازمة، سعةُ رزق، وطولُ عمر، وحسنُ خاتمة.

ففي الصحيحين: "مَن سرَّهُ أن يُبسطَ لَه في رزقِهِ، وأن يُنسَأَ لَه في أثرِهِ، فليَصِلْ رَحِمَهُ"  ولا رحم أعظمُ وأقربُ من رحم الوالدين.

 

عباد الله.. وإن العارَ والشنارَ وقبيحَ الآثام : أن يُفجأ الوالدان بالتنكر لسابق الإنعام، كانا يؤملان البر والإكرام، ويرجوان جزاءَ الإحسان بالإحسان؛ فإذا به يقابل جميلَهما بالنسيان، ويجزي عطاءَهما بالحرمان، ويذيقُهما مرارةَ الأحزان.

أضجرَهما ونهرَهما، أبكاهما وقهرَهما، يرجوان حياتَه ويتمنى موتَهما.

 

يا أيها العاق المخذول، ذا العمل المرذول.. يا من غره الشباب والقوة، وأعجبه المال والفتوة، أتناسيت إحسانهما! أتقابل المعروف بالنكران! وهل تجازي الإحسانَ بالكفران!

 

جحدتَ فضل والديك، ولما كَبِرا فاحتاجا إليك، جعلتهما أهون الأشياء عليك؟!

عاملتَهما بالإذلال، وقدَّمتَ عليهما الزوجة والعيال، وفضَّلتَ عليهما الأصحابَ والأموال!

كيف تطلب رضا مولاك، وقد عققتَ أمَّك وأباك!

 

أما علمت أن من برَّ بوالديه برَّ به بنوه، ومن عق والديه عقه بنوه، ولسوف تكون محتاجاً إلى برِّ أبنائك، وسوف يفعلون معك كما فعلت مع والديك، وكما تَدين تُدان، والجزاء من جنس العمل.

والحياة دَيْن ووفاء، وسَلَف وجزاء.

 

يقول عليه الصلاة والسلام: ((ما من ذنب أجدر أن تعجل لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدخر له في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم)).

وإن (أكبر الكبائر الشرك بالله وعقوق الوالدين).

 

 

إن المجرم العاق لوالديه أحد الثلاثة الذين لا ينظر الله إليهم يوم القيامة ولا يدخلون الجنة!

إن العقوق يا عباد الله ، كبيرة وجَريرة، وشؤم وشر، وبلاء وخُسر، موجب للسَّخط والنكال، مُورِد للجحيم والأغلال، إنه سوء خاتمة وهلكة، وعُسرٌ ومَحق بركة، خِسة ومَهانة، عقوق وفسوق.

يقول صلى الله عليه وسلم: "إن الله حرم عليكم عقوق الأمهات، ومنعاً وهات، ووأد البنات"

 

أيها المسلمون: ومن فُجعَ بوالديه فقد فتح الرب الكريم أبوابا للبر بعد الممات؛ فالبر ليس لأنواعه حد، ولا لانتهائه أمد.

قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم: هل بقي من بِرِّ أبويَّ شيءٌ أبرُّهما به بعد موتهما؟ قال: "نعم، الصلاة عليهما -أي الدعاء لهما- والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا تُوصل إلا بهما، وإكرام صديقهما"

 

وعن عائشة -رضي الله عنها- أن رجلاً قال للنبي -صلى الله عليه وسلم-: "إن أمي افتلتت نفسها وأظنها لو تكلمت تصدقت، فهل لها أجر إن تصدقت عنها؟ قال: "نعم"

 

اللهم اغفر لنا ولوالدينا إنك أنت الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله ولا نعبد إلا إياه، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد؛ فإن حقَّ الوالدين عظيمٌ لا يتناهى، ومعروفَهما جزيلٌ لا يُجازى.

وإن للبر صورا وأبوابا، فمن محبة وتوقير، وطاعة وتقدير، إلى الإكرام والإجلال، والطاعةِ والامتثال.

 

أبصر أبو هريرة  رضي الله عنه رجُلَين، فقال لأَحَدِهما: ما هذا منْك؟ فقال: أَبِي، فقال: "لا تُسمِّهِ باسمِهِ، ولا تمشِ أمامَه، ولا تجْلِسْ قبلَه".

 

يقول الله عز وجل (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّـاهُ وَبِالْوالِدَيْنِ إِحْسَـاناً) [الإسراء:23]

أحسِن إليهما بالقولِ والعملِ.

 

(إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا) [الإسراء:23].

لقد أقبَلا على الشيخوخة والكِبَر، بعد أن صرفا طاقتهما وصحتهما وأموالهما في تربيتك.

لقد أنهيا مهمتَهما، و هاهي مهمتُك.

 

تأدبْ أمامهما، ولَبِّ رغبتهما ، تجنب الغلظة ورفع الصوت، ابتعد عما يزعجهما (فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا) [الإسراء:23].

تخيَّر ألطفَ الكلمات، وانتقِ أجملَ العبارات. (وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيمًا) [الإسراء:23].

 

تعاهدْهما بالصلة والهدية.

تواضع لهما واعرض عليهما الخدمة، واخفْض لهما جناح الذل من الرحمة.

ادعُ لهما في الحياةِ، وبعدَ المماتِ ﴿وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً﴾

[الإسراء:24].  

وفي الحديث: «إن الرجلَ ليرتفعُ في الجنةِ، فيقولُ: أَنَّى لي هذا؟ فيقال: باستغفارِ ولدِك لك».

 

من برِّهما: صلةُ أهلِ وُدِّهِما، و «إن أبرَّ البِرِّ صلةُ الرَّجُلِ أهلَ ودِّ أَبِيه».

أنفِق عليهما إذا كانا محتاجِين.

قال شيخ الإسلام رحمه الله: "على الولدِ الموسرِ أن ينفقَ على أبِيه، وعلى إخوتِه الصغارِ، وإن لم يفعلْ ذلك كان عاقًّا لأبيه، قاطعاً لرَحِمِه، مستحقاً لعقوبةِ اللهِ في الدنيا والآخرةِ".

 

من برهما: إنفاذُ عهْدِهِما، وإعمالُ وصيتهما.

والجامع لصور البر كلها قوله تعالى (وصاحِبْهما في الدنيا معروفا) [لقمان:15].

 

فإن فعلت ذلك فهو غيضٌ من فيض إحسانهما، وقطرةٌ من بحر معروفهما:

شهد ابن عمر رضي الله عنهما رجلا يطوف بالبيت، وقد حمل أمَّه وراء ظهره يقول: "إني لها بعيرُها المذلَّل إن أُذعرت ركابُها لم أذعر"، ثم قال لابن عمر: "أتَراني جزيتُها؟ قال: "لا، ولا بزفرة واحدة" .

 

وقال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: إن لي أماً بلغ منها الكِبَر أنها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مطية، فهل أديتُ حقَّها؟ قال: لا. لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه وأنت تتمنى فراقَها، ولكنك محسن، والله يُثيبُ الكثيرَ على القليل.

 

وبعد فاتقوا الله عباد الله، وبِرُّوا بالآباء والأمهات، أحسنوا إليهم بأنواع البر والصِّلات، تنالوا في الدنيا الخيراتِ والبركات، وتفوزوا في الآخرة بالرضوان والجنات.

 

اللهم أعنا على بر آبائنا أحياءا وأمواتا، اللهم ارحمهم كما ربونا صغارا.

اللهم صل وسلم على نبينا محمد وأزواجه وذريته كما صليت على آل إبراهيم، وبارك على نبينا محمد وأزواجه وذريته كما باركت على آل إبراهيم.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واخذل أعداءك أعداء الدين.

اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة.

اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، وألف بين قلوبهم، واجمع على الحق كلمتهم.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا ووالدينا عذاب القبر والنار.

المرفقات

1622091876_خطبة بر الوالدين.docx

1622091877_خطبة بر الوالدين.pdf

المشاهدات 944 | التعليقات 0