بريدة والمطر مواقف وعبر
خالد علي أبا الخيل
1437/03/01 - 2015/12/12 10:00AM
بريدة والمطر
مواقف وعبر
التاريخ: الجمعة: 9/ 1 /1437 هـ
الحمد لله العلي الأرفق
ذي النعم الواسعة الغزيرة
ثم الصلاة مع سلام دائم
وآله وصحابه الأطهار
***
***
***
*** جامع الأشياء والمفرق
والحكم الباهرة الكثيرة
على الرسول القرشي الخاتم
الحائزي مراتب الفخار
أما بعد،.
أيها المسلمون: التقوى عز وفلاح، وأنس وصلاح، بقدر تحقيقها يرنو المرء إلى الفوز والنجاح، في ليلة الأربعاء الماضية، حدث ليس بخافية، ليلة عجيبة، وحوادثها غريبة، تسمع أصوات البرق، تسمع أصوات البرد، والصواعق والرعد، هطلت الأمطار الغزيرة، والكميات الكبيرة، السماء تشققت، والسحب تلاحمت وتجمعت، سالت الأودية، والشعاب والأندية، امتلأت الطرقات، وانغلقت المسارات، رقد الناس في أول الليل بهدوء وسكينة، واستيقظوا على خوفًا وحالة شديدة، خاف الناس على أنفسهم، وأهليهم ومساكنهم وممتلكاتهم، لم يعهد مثله منذ سنين، أمطار عارمة، غزيرة هائلة، تأريخية حادثة، (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) (الرعد: 12، 13): أي شديد الأخذ والقوة سبحانه وبحمده، أمطار غزار، وغيث مدرار، حصل من جرائها تلفيات وأضرار، في التجارة والمركوبات، والطرقات والبيوتات، أوقعت الخوف في القلوب، وكشف المطر العيوب، هطلت تلك الأمطار، وهرع الناس إلى المساكن والتحصن بالدار، وأغلقت الدراسات النظامية، والوظائف الحكومية، سحب متكاثفة، وغيوم متراكبة، هطلت الأمطار، وقت الأسحار، فلجأ الناس إلى الصلاة والدعاء للواحد القهار، حيل بينهم وبين بيوتهم وفي بيوتهم بين خروجهم، وانغلقت طرقاتهم، وغمرت المياه المركوبات، انقطعت السبل، وضاقت الحيل، وأخرجت فئام من الدور، واندهش السائر والراكب، إن هذه الأمطار الغزيرة، في هذه اللحظات اليسيرة، في تلك الليلة المظلمة، والساعات المتأخرة، لهي عجب عجاب، وتأريخ سوف يسطره الكتاب، كيف لا؟ والناس هرعت إلى المرتفعات، وغرقت السيارات والمركوبات، فلا ترى إلا رؤوسها، وتهدمت بعض البيوتات الضعيفة، وتعطلت التيارات الكهربائية، في تلك توالت رسائل الجوال والواتس بالتحذيرات والتنبيهات، ولزوم البيوتات، والحظر من الخروج والطرقات، وفي صلاة فجر هذا اليوم نادى من تضرر: الصلاة في الرحال، وهي سنة نبوية.
في هذا الحدث والموقف المكترث، بعض الوقفات، والتنبيهات واللفتات:
الأولى: حمد الله وشكره. فله الحمد أولًا وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا، كم كسا الأرض زينتها، وجمل الأماكن بعد بهجتها، فارتوت الأرض، وازدانت الرمال، وسالت الأودية والشعاب، نسأل الله أن يجعله صيبًا نافعًا، وللدواب ماتعًا، وللأرض والنبات والزهور لامعًا.
أحب تلبد مزن السماء
وتسقي القلوب بأطهر ود
***
*** لتهطل حبًا ولطفًا وماء
فتعفو وتصفح بعد الجفاء
الثانية من الوقفات -أيها المسلمون والمسلمات-: الرضاء بقضاء الله وقدره. وأن تعلم أن قدر الله فيه الخير والبركة، والهداية والرحمة، فعليك التسليم لأمره، ومن ثم حمده وذكره، وأن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك:
فكل شيء بقضاء وقدر
*** والكل في أم الكتاب مستطر
يجري القضاء وفيه الخير أجمعه
إن جاءه فرح أو نابه ترح
***
*** لمؤمن واثق بالله لا لاهي
في الحالتين يقول: الحمد لله
الثالثة: قوة العظيم. (وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (الأنعام: 91)، (مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً) (نوح: 13)، فهو العلي العظيم الذي لا يعجزه شيء، الملك ملكه، والعبد عبده، في لحظات تغيرت الحياة، فأقداره وأفعاله حكمة ومصلحة، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس: 82)، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، (لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) (الزخرف: 85).
الرابعة: سرعة تبدل الأحوال. (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ) (الانشقاق: 19)، في لحظات، تبدلت الأرض وتغيرت، وتشققت السماء وأمطرت.
ما بين غمضة عين وانتباهتها
*** يغير الله من حال إلى حال
يا نائم الليل مسروراً بأوله
لا تفرحن بليل طاب أوله
***
*** إن الحوادث قد يطرقن أسحارًا
فرب آخر ليل أجج النار
الخامسة: من جميل الكلام، من ابن القيم عن حكمة المطر والغمام، يقول –رحمه الله- في مفتاح دار السعادة: ثم تأمل الحكمة البالغة في نزول المطر على الأرض من علو، ليعم بسقيه وهادها، وتلولها، وظرابها، وأكمامها، ومنخفضها، ومرتفعها، ولو كان ربها تعالى إنما يسقيها من ناحية من نواحيها، لما أتى الماء على الناحية المرتفعة، ثم تأمل الحكمة البالغة في إنزاله بقدر الحاجة، حتى إذا أخذت الأرض حاجتها منه، وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها، أقلع وأعقبه بالصحو، فلو توالت الأمطار لأهلكت ما على الأرض، ولو زادت عن الحاجة أفسدت الحبوب والثمار، إلى آخر ذلك من الأضرار، ولو دام الصحو لجفت الأبدان... ثم قال: فيرش السحاب على الأرض رشًا، ويرسله قطرات منفصلة لا تختلط قطرة بأخرى، لا يتقدم متأخرها، ولا يتأخر متقدمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمتزج بها، بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها، لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرة قطرة، قد عينت كل قطرة منها لجزء من الأرض، لا تتعداه إلى غيره، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا قطرة واحدة، أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه. أ. هـ. باختصار، فسبحان الواحد القهار.
السادسة من الوقفات -وفقني الله وإياكم لفعل الخيرات-: لطف الله لعباده، وإظهاره لعزته ورحمته. فلطف بهم ورحمهم، وحفظهم، وأمسك السماء.
وهــو اللطيف بــعبده ولــعبده
إدراك أســرار الأمــور بخبرة
فيــُريك عزته ويُـبدي لطـــفه
***
***
*** والـلـطف في أوصـافه نـوعـانِ
والـلـطف عند مواقع الإحـسـانِ
والعبد في الغفلات عن ذا الشانِ
سابعًا: الحذر من الشماتة والتذمر من الآخرين. لا بالمواطنين ولا بالمسؤولين، وإنما عليك الإصلاح بصدق ودين، واحذر الغيبة فهي داء الأولين والآخرين، والخطأ وارد، والتقصير حاصل، والموفق من أصلح الخلل، وساهم في التعديل الأمثل، وفي هذا يحاسب المقصر والمخل، وتفقد الطرقات ومجاري المياه والحُقُل، كذا الحذر من سب الأمطار، وإسناد التأثيرات إلى الطبيعة.
والثامن: أن ما أصاب الناس من مصيبة فبما كسبت أيديهم. (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) (الروم: 41)، فيجب الرجوع والتوبة والاستغفار والأوبة، لا نجلس متفرجين أو متابعين، وعلى المعاصي مقيمين، فما أهون الخلق على الله إذا خالفوا أمره، فالمرء تهلكه العسرة، وتغرقه القطرة، وتؤذيه البعوضة والذرة، فالرجوع إلى الله وتفقد النفس، وصلاح العيال، وطاعة الله وطاعة رسوله.
إذا كنـت في نعمـة فارعـها
وحطهـا بطاعة رب العبـاد
***
*** فإن الذنـوب تـزيل النعـم
فرب العـباد سريـع النـقـم
والتاسع –وفقكم الله لكل خير نافع-: ضعف الإنسان وقلة حيلته، وإنه لا عاصم من أمر الله إلا الله، فانظر ضعفه أمام الماء المنهمر، واحتار في ذلك العقل والفكر، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر: 15).
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له توفيقه وامتنانه.
أيها المسلمون: وعاشرتها –وهو خاتمتها-: خصلة جميلة، وخلة كريمة، وهو ما ظهر في هذه المدينة مدينة بريدة من التعاون، وتلمس الحاجات، وذوي الفاقات، والمتضررين من الأمطار والنكبات، فتجد المجتمع بأطيافه وجميع شرائحه، الجهود عظيمة، والتعاونات جميلة، فسارع إلى النجدة والمعونة، وهب إلى الرقدة رجال الأمن والدفاع المدني، والأمانة والصرف الصحي، ورجالات المرور، ببذل وجهد مشكور، في إنقاذ المحتجزين والمتضررين، وإسعاف الغرقى والمنكوبين، وإعانة العاجزين، فشكرًا لهم على جهودهم، وسهرهم وتفانيهم، ووقوفهم ومساندتهم، وصبرهم وحلمهم، فبارك الله لهم وفيهم، ولا ينسى المواطن والجندي المجهول الآمن، فالمواطنون فتحوا صدورهم وأبوابهم، وبذلوا قصارى جهدهم على قدراتهم وطاقاتهم، فهذا فتح بابه، وآخر استراحته، وثالث فندقه، ورابع بالمطعومات والمشروبات، وخامس بالرسائل والتحذيرات من المهالك والمستنقعات، وألوان من الإسعافات، وكذا ثلة مشكورة، وفئة فتية مذكورة، شباب تفانوا بأعمالهم وطاقاتهم لإسعاف المارة، فأصبحوا رجال أمن لا تسمع إلا أصواتهم، وتضحيتهم وصراخهم، ومساعداتهم وبذلهم، أصلح الله حالهم، وحفظ مستقبلهم، وسهل الله طريقهم.
في هذه الأمطار: ظهرت محاسن الرجال، وصدق الأفعال، وجميل الخصال، والفزعة عند الأزمات والانفعال، ظهر الصدق والتواصل، والعطف والتكافل، بالمال والنفس والسكن، والمساعدة والعون، فهنيئًا لهم تلك الرابطة، والاجتماعات المتألقة، وليس غريبًا عليهم في هذه المدينة، فسلفهم وأجدادهم وآباؤهم، سطروا أروع المواقف، وأنبل التآلف، في حادثة الغرقى عام ألف وثلاثمائة وستة وسبعين، وقبلها سنة الرحمة عام ألف وثلاثمائة وسبعة وثلاثين بالسخاء والعون، والكرم والجود والشهامة والمساعدة، فسل التاريخ يخبرك بأحوالهم وقصصهم وآثارهم، في هذه اللحظات سطرت بريدة صورًا من الإعانات، والتلاحم، والوقوف عند الأزمات والتراحم، ومواقف يشكرون عليها لحمة واحدة، ويدًا حانية، وشفقة وافية، ففتحت الاستراحات، والشقق والبيوتات، والأطعمة والمأكولات، انتشرت أرقام التواصلات، والرسائل والجوالات، في الواتس وسنابات، في المأوى والسكن والإعانات، لكل متضرر بالسيول، وضاقت به السبل، وانقطعت به الحيل، في بريدة عند الضيق يظهر الصديق، ظهر الإنقاذ والبذل والإسعاف، حتى مع العمال إسعافًا وإيواء، فلا حرمهم الله بذلهم، وتقبل منهم أعمالهم، وبارك الله في أموالهم وجهودهم، بل حتى بيوت الله، مما حصل لها من الأضرار، لها حظ من الإصلاح، والتكاتف والإسعاف، ولا ينسى المتطوعون واحتسابهم، فلا ينسى المتطوعون وإحسانهم، واحتسابهم، وبذلهم، وعطاؤهم، بارك الله فيهم وفي أعمالهم، ولا يضر خفاء أسمائهم، ظهر الله بحمد الله التراحم والتعاطف، أخلاق جميلة وتكاتف، والتعاون والتواصل، والتلاحم والتكافل، مبدأ إسلامي وخلق إنساني، (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 2)، فعندها تتقارب القلوب وتتصل الصفوف، وتجتمع الكلمة، وتقوى الرابطة واللحمة، والمودة والألفة، في الصحيحين: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عوض تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، وفيهما: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)، وشبك بين يديه، وشبك بين أصابعه، وفي صحيح مسلم: (والله في عون العبد ما كان العون في عون أخيه).
هموم رجال في أمور كثيرة
نكون كروح بين جِسمين قُسّمت
***
*** وهمي من الدنيا صديق مساعد
فإذ جسماهما جسمان والروح واحد
لا سيما والأمة اليوم بحاجة ماسة إلى التعاون والتلاحم، لمواجهة أمم الكفر والحاسدين، والمنافقين والمفسدين، في التواصل وقضاء الحاجات، والتعاون وسد الخلات، عند الحاجة والأزمات، فضائل وحسنات، وخيرات وبركات.
وأفضـل النـاس من بين الـورى
*** رجـل تقـضـى على يده للنـاس حاجـات
وتأمل: وصف أم المؤمنين خديجة، لرسول الله ونبي الأمة، في مواساته وتهدئته وكم لها من آثار إيجابية، فقالت له: أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدًا، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فهذه خصال جميلة، وآداب إسلامية سامية، وهذه خصال نبينا، وقد كان لنا أسوة في حياتنا فالأمة فيها خير.
يا أمة الخير: جعلني الله وإياكم من أهل الخير، وفق الله الجميع لمزيد من التواصل والتراحم، والتعاطف والتكاتف، والاجتماع والائتلاف، ونبذ الفرقة والاختلاف، هذا وصلوا وسلموا على خير خلق الله، محمد بن عبد الله، اللهم: صل وسلم وبارك، على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والله أعلم.
مواقف وعبر
التاريخ: الجمعة: 9/ 1 /1437 هـ
الحمد لله العلي الأرفق
ذي النعم الواسعة الغزيرة
ثم الصلاة مع سلام دائم
وآله وصحابه الأطهار
***
***
***
*** جامع الأشياء والمفرق
والحكم الباهرة الكثيرة
على الرسول القرشي الخاتم
الحائزي مراتب الفخار
أما بعد،.
أيها المسلمون: التقوى عز وفلاح، وأنس وصلاح، بقدر تحقيقها يرنو المرء إلى الفوز والنجاح، في ليلة الأربعاء الماضية، حدث ليس بخافية، ليلة عجيبة، وحوادثها غريبة، تسمع أصوات البرق، تسمع أصوات البرد، والصواعق والرعد، هطلت الأمطار الغزيرة، والكميات الكبيرة، السماء تشققت، والسحب تلاحمت وتجمعت، سالت الأودية، والشعاب والأندية، امتلأت الطرقات، وانغلقت المسارات، رقد الناس في أول الليل بهدوء وسكينة، واستيقظوا على خوفًا وحالة شديدة، خاف الناس على أنفسهم، وأهليهم ومساكنهم وممتلكاتهم، لم يعهد مثله منذ سنين، أمطار عارمة، غزيرة هائلة، تأريخية حادثة، (هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِىءُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) (الرعد: 12، 13): أي شديد الأخذ والقوة سبحانه وبحمده، أمطار غزار، وغيث مدرار، حصل من جرائها تلفيات وأضرار، في التجارة والمركوبات، والطرقات والبيوتات، أوقعت الخوف في القلوب، وكشف المطر العيوب، هطلت تلك الأمطار، وهرع الناس إلى المساكن والتحصن بالدار، وأغلقت الدراسات النظامية، والوظائف الحكومية، سحب متكاثفة، وغيوم متراكبة، هطلت الأمطار، وقت الأسحار، فلجأ الناس إلى الصلاة والدعاء للواحد القهار، حيل بينهم وبين بيوتهم وفي بيوتهم بين خروجهم، وانغلقت طرقاتهم، وغمرت المياه المركوبات، انقطعت السبل، وضاقت الحيل، وأخرجت فئام من الدور، واندهش السائر والراكب، إن هذه الأمطار الغزيرة، في هذه اللحظات اليسيرة، في تلك الليلة المظلمة، والساعات المتأخرة، لهي عجب عجاب، وتأريخ سوف يسطره الكتاب، كيف لا؟ والناس هرعت إلى المرتفعات، وغرقت السيارات والمركوبات، فلا ترى إلا رؤوسها، وتهدمت بعض البيوتات الضعيفة، وتعطلت التيارات الكهربائية، في تلك توالت رسائل الجوال والواتس بالتحذيرات والتنبيهات، ولزوم البيوتات، والحظر من الخروج والطرقات، وفي صلاة فجر هذا اليوم نادى من تضرر: الصلاة في الرحال، وهي سنة نبوية.
في هذا الحدث والموقف المكترث، بعض الوقفات، والتنبيهات واللفتات:
الأولى: حمد الله وشكره. فله الحمد أولًا وآخرًا، ظاهرًا وباطنًا، كم كسا الأرض زينتها، وجمل الأماكن بعد بهجتها، فارتوت الأرض، وازدانت الرمال، وسالت الأودية والشعاب، نسأل الله أن يجعله صيبًا نافعًا، وللدواب ماتعًا، وللأرض والنبات والزهور لامعًا.
أحب تلبد مزن السماء
وتسقي القلوب بأطهر ود
***
*** لتهطل حبًا ولطفًا وماء
فتعفو وتصفح بعد الجفاء
الثانية من الوقفات -أيها المسلمون والمسلمات-: الرضاء بقضاء الله وقدره. وأن تعلم أن قدر الله فيه الخير والبركة، والهداية والرحمة، فعليك التسليم لأمره، ومن ثم حمده وذكره، وأن تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك:
فكل شيء بقضاء وقدر
*** والكل في أم الكتاب مستطر
يجري القضاء وفيه الخير أجمعه
إن جاءه فرح أو نابه ترح
***
*** لمؤمن واثق بالله لا لاهي
في الحالتين يقول: الحمد لله
الثالثة: قوة العظيم. (وَمَا قَدَرُواْ اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) (الأنعام: 91)، (مَّا لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً) (نوح: 13)، فهو العلي العظيم الذي لا يعجزه شيء، الملك ملكه، والعبد عبده، في لحظات تغيرت الحياة، فأقداره وأفعاله حكمة ومصلحة، (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس: 82)، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، (لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا) (الزخرف: 85).
الرابعة: سرعة تبدل الأحوال. (لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبَقٍ) (الانشقاق: 19)، في لحظات، تبدلت الأرض وتغيرت، وتشققت السماء وأمطرت.
ما بين غمضة عين وانتباهتها
*** يغير الله من حال إلى حال
يا نائم الليل مسروراً بأوله
لا تفرحن بليل طاب أوله
***
*** إن الحوادث قد يطرقن أسحارًا
فرب آخر ليل أجج النار
الخامسة: من جميل الكلام، من ابن القيم عن حكمة المطر والغمام، يقول –رحمه الله- في مفتاح دار السعادة: ثم تأمل الحكمة البالغة في نزول المطر على الأرض من علو، ليعم بسقيه وهادها، وتلولها، وظرابها، وأكمامها، ومنخفضها، ومرتفعها، ولو كان ربها تعالى إنما يسقيها من ناحية من نواحيها، لما أتى الماء على الناحية المرتفعة، ثم تأمل الحكمة البالغة في إنزاله بقدر الحاجة، حتى إذا أخذت الأرض حاجتها منه، وكان تتابعه عليها بعد ذلك يضرها، أقلع وأعقبه بالصحو، فلو توالت الأمطار لأهلكت ما على الأرض، ولو زادت عن الحاجة أفسدت الحبوب والثمار، إلى آخر ذلك من الأضرار، ولو دام الصحو لجفت الأبدان... ثم قال: فيرش السحاب على الأرض رشًا، ويرسله قطرات منفصلة لا تختلط قطرة بأخرى، لا يتقدم متأخرها، ولا يتأخر متقدمها، ولا تدرك القطرة صاحبتها فتمتزج بها، بل تنزل كل واحدة في الطريق الذي رسم لها، لا تعدل عنه حتى تصيب الأرض قطرة قطرة، قد عينت كل قطرة منها لجزء من الأرض، لا تتعداه إلى غيره، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن يخلقوا قطرة واحدة، أو يحصوا عدد القطر في لحظة واحدة لعجزوا عنه. أ. هـ. باختصار، فسبحان الواحد القهار.
السادسة من الوقفات -وفقني الله وإياكم لفعل الخيرات-: لطف الله لعباده، وإظهاره لعزته ورحمته. فلطف بهم ورحمهم، وحفظهم، وأمسك السماء.
وهــو اللطيف بــعبده ولــعبده
إدراك أســرار الأمــور بخبرة
فيــُريك عزته ويُـبدي لطـــفه
***
***
*** والـلـطف في أوصـافه نـوعـانِ
والـلـطف عند مواقع الإحـسـانِ
والعبد في الغفلات عن ذا الشانِ
سابعًا: الحذر من الشماتة والتذمر من الآخرين. لا بالمواطنين ولا بالمسؤولين، وإنما عليك الإصلاح بصدق ودين، واحذر الغيبة فهي داء الأولين والآخرين، والخطأ وارد، والتقصير حاصل، والموفق من أصلح الخلل، وساهم في التعديل الأمثل، وفي هذا يحاسب المقصر والمخل، وتفقد الطرقات ومجاري المياه والحُقُل، كذا الحذر من سب الأمطار، وإسناد التأثيرات إلى الطبيعة.
والثامن: أن ما أصاب الناس من مصيبة فبما كسبت أيديهم. (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) (الروم: 41)، فيجب الرجوع والتوبة والاستغفار والأوبة، لا نجلس متفرجين أو متابعين، وعلى المعاصي مقيمين، فما أهون الخلق على الله إذا خالفوا أمره، فالمرء تهلكه العسرة، وتغرقه القطرة، وتؤذيه البعوضة والذرة، فالرجوع إلى الله وتفقد النفس، وصلاح العيال، وطاعة الله وطاعة رسوله.
إذا كنـت في نعمـة فارعـها
وحطهـا بطاعة رب العبـاد
***
*** فإن الذنـوب تـزيل النعـم
فرب العـباد سريـع النـقـم
والتاسع –وفقكم الله لكل خير نافع-: ضعف الإنسان وقلة حيلته، وإنه لا عاصم من أمر الله إلا الله، فانظر ضعفه أمام الماء المنهمر، واحتار في ذلك العقل والفكر، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) (فاطر: 15).
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له توفيقه وامتنانه.
أيها المسلمون: وعاشرتها –وهو خاتمتها-: خصلة جميلة، وخلة كريمة، وهو ما ظهر في هذه المدينة مدينة بريدة من التعاون، وتلمس الحاجات، وذوي الفاقات، والمتضررين من الأمطار والنكبات، فتجد المجتمع بأطيافه وجميع شرائحه، الجهود عظيمة، والتعاونات جميلة، فسارع إلى النجدة والمعونة، وهب إلى الرقدة رجال الأمن والدفاع المدني، والأمانة والصرف الصحي، ورجالات المرور، ببذل وجهد مشكور، في إنقاذ المحتجزين والمتضررين، وإسعاف الغرقى والمنكوبين، وإعانة العاجزين، فشكرًا لهم على جهودهم، وسهرهم وتفانيهم، ووقوفهم ومساندتهم، وصبرهم وحلمهم، فبارك الله لهم وفيهم، ولا ينسى المواطن والجندي المجهول الآمن، فالمواطنون فتحوا صدورهم وأبوابهم، وبذلوا قصارى جهدهم على قدراتهم وطاقاتهم، فهذا فتح بابه، وآخر استراحته، وثالث فندقه، ورابع بالمطعومات والمشروبات، وخامس بالرسائل والتحذيرات من المهالك والمستنقعات، وألوان من الإسعافات، وكذا ثلة مشكورة، وفئة فتية مذكورة، شباب تفانوا بأعمالهم وطاقاتهم لإسعاف المارة، فأصبحوا رجال أمن لا تسمع إلا أصواتهم، وتضحيتهم وصراخهم، ومساعداتهم وبذلهم، أصلح الله حالهم، وحفظ مستقبلهم، وسهل الله طريقهم.
في هذه الأمطار: ظهرت محاسن الرجال، وصدق الأفعال، وجميل الخصال، والفزعة عند الأزمات والانفعال، ظهر الصدق والتواصل، والعطف والتكافل، بالمال والنفس والسكن، والمساعدة والعون، فهنيئًا لهم تلك الرابطة، والاجتماعات المتألقة، وليس غريبًا عليهم في هذه المدينة، فسلفهم وأجدادهم وآباؤهم، سطروا أروع المواقف، وأنبل التآلف، في حادثة الغرقى عام ألف وثلاثمائة وستة وسبعين، وقبلها سنة الرحمة عام ألف وثلاثمائة وسبعة وثلاثين بالسخاء والعون، والكرم والجود والشهامة والمساعدة، فسل التاريخ يخبرك بأحوالهم وقصصهم وآثارهم، في هذه اللحظات سطرت بريدة صورًا من الإعانات، والتلاحم، والوقوف عند الأزمات والتراحم، ومواقف يشكرون عليها لحمة واحدة، ويدًا حانية، وشفقة وافية، ففتحت الاستراحات، والشقق والبيوتات، والأطعمة والمأكولات، انتشرت أرقام التواصلات، والرسائل والجوالات، في الواتس وسنابات، في المأوى والسكن والإعانات، لكل متضرر بالسيول، وضاقت به السبل، وانقطعت به الحيل، في بريدة عند الضيق يظهر الصديق، ظهر الإنقاذ والبذل والإسعاف، حتى مع العمال إسعافًا وإيواء، فلا حرمهم الله بذلهم، وتقبل منهم أعمالهم، وبارك الله في أموالهم وجهودهم، بل حتى بيوت الله، مما حصل لها من الأضرار، لها حظ من الإصلاح، والتكاتف والإسعاف، ولا ينسى المتطوعون واحتسابهم، فلا ينسى المتطوعون وإحسانهم، واحتسابهم، وبذلهم، وعطاؤهم، بارك الله فيهم وفي أعمالهم، ولا يضر خفاء أسمائهم، ظهر الله بحمد الله التراحم والتعاطف، أخلاق جميلة وتكاتف، والتعاون والتواصل، والتلاحم والتكافل، مبدأ إسلامي وخلق إنساني، (وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى) (المائدة: 2)، فعندها تتقارب القلوب وتتصل الصفوف، وتجتمع الكلمة، وتقوى الرابطة واللحمة، والمودة والألفة، في الصحيحين: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم، مثل الجسد، إذا اشتكى منه عوض تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى)، وفيهما: (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضًا)، وشبك بين يديه، وشبك بين أصابعه، وفي صحيح مسلم: (والله في عون العبد ما كان العون في عون أخيه).
هموم رجال في أمور كثيرة
نكون كروح بين جِسمين قُسّمت
***
*** وهمي من الدنيا صديق مساعد
فإذ جسماهما جسمان والروح واحد
لا سيما والأمة اليوم بحاجة ماسة إلى التعاون والتلاحم، لمواجهة أمم الكفر والحاسدين، والمنافقين والمفسدين، في التواصل وقضاء الحاجات، والتعاون وسد الخلات، عند الحاجة والأزمات، فضائل وحسنات، وخيرات وبركات.
وأفضـل النـاس من بين الـورى
*** رجـل تقـضـى على يده للنـاس حاجـات
وتأمل: وصف أم المؤمنين خديجة، لرسول الله ونبي الأمة، في مواساته وتهدئته وكم لها من آثار إيجابية، فقالت له: أبشر فوالله لا يخزيك الله أبدًا، والله إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق. فهذه خصال جميلة، وآداب إسلامية سامية، وهذه خصال نبينا، وقد كان لنا أسوة في حياتنا فالأمة فيها خير.
يا أمة الخير: جعلني الله وإياكم من أهل الخير، وفق الله الجميع لمزيد من التواصل والتراحم، والتعاطف والتكاتف، والاجتماع والائتلاف، ونبذ الفرقة والاختلاف، هذا وصلوا وسلموا على خير خلق الله، محمد بن عبد الله، اللهم: صل وسلم وبارك، على نبينا محمد، وعلى آله وأصحابه أجمعين.
والله أعلم.