بدأ العد التنازلي !
يوسف العوض
الخطبة الأولى
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : يَقَولُ اللهُ تَعَالى : " تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (*) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" حَقِيقَةٌ يَنْبَغِي أَنْ تَكَوَّنَ فِي وَعْي كَلِّ مُسْلِمٍ عَلَى الدَّوَامِ ؛ أَنَّ الدُّنْيَا دَارُ اِبْتِلَاَءٍ وَاِمْتِحَانٍ، لِيَبْقَى مُرَاقِباً لِلصَّغِيرَةِ وَالْكَبِيرَةِ مِنْ ظَاهِرِ عَمَلِهِ، وَبَاطِنِ نِيَّتِهِ، فالْعَاقِلُ اللَّبِيبُ يُدْرِكُ أَنَّ الدُّنْيَا مَزْرَعَةُ الْآخِرَةِ، فَيَنْشَطُ فِيهَا بِالْعَمَلِ وَالْإحْسَانِ ؛ رَجَاءَ أَنَّ يَفُوزَ بِالْجَنَّةِ وَالرِّضْوَانِ، قَلِيلٌ صَائِبٌ خَيْرٌ مِنْ كَثِيرٍ عَلَى غَيْرِ هُدًى، فَالْعِبْرَةُ بِحُسْنِ الْعَمَلِ لَا بِكَثْرَتِهِ، وَلَا يَكُونُ حَسَناً حَتَّى يُوَافِقَ شَرَعَ اللهِ وَيَكُوُنُ لَهُ خَالِصاً.
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : وَنَحْنُ فِي مَوسِمٍ مِنْ مَوَاسِمِ الْخَيْرَاتِ الَّتِي أَكْرَمَنَا اللَّهُ تَعَالَى بِهَا وَهُوَ شَهْرُ شَعْبَانَ الَّذِي نَعِيشُ أَوَاخِرَ أَيَّـــامِهِ الْمُبَـــارَكَــــةِ، فَهُوَ شَهْرٌ جَعَلَهُ اللَّـهُ فُرْصَةً لِلْمُسْلِم، مِنْ أَجْلِ إِصْلَاحِ عَلَاقَاتِهِ، اِسْتِعْدَادًا لِشَهْرِ رَمَضَانَ الْمُبَارَكِ وَنَفَحَاتِهِ، وَتَهْيِئَةً لِلْفَوْزِ بِالرَّحْمَةِ وَالْمَغْفِرَةِ وَالْعِتْقِ فِي لَيَالِيهِ وَأَيَّامِهِ، فشَهَرُ شَعْبَانَ، فُرْصَةٌ لِمُرَاجَعَةِ الْإِيمَانِ، وَالتَّصَالُحِ مَعَ الْإِخْوَانِ، وَسَنُرَكِّزُ عَلَيْهِ مِنْ خِلَالِ ثَلَاثَةِ مَحَاورٍ:
المِحْوَرُ الْأَوَّلُ: الْإِسْلَامُ عَقِيدَةٌ وَعِبَادَةٌ وَسُلُوكٌ، فَدِينُ الْإِسْلَامِ لَيْسَ عِبَارَةً عَنْ بَعْضِ الشَّعَائِرِ الدِّينِيَّةِ الْجَافَّةِ التِي يَقُومُ بِهَا الْإِنْسَانُ وَيَنْتَهِي الْأَمْرُ، بَلْ هُوَ عَقِيدَةٌ وَعِبَادَةٌ وَسُلُوكٌ، فَنَحْنُ مَأْمُوروُنَ بِإِصْلَاحِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْخَالِقِ، ومأمورنا أَيْضاً بِإِصْلَاحِ الْعَلَاقَةِ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْمَخْلُوقِينَ، وَخَيْرُ مَا نَسْتَشْهِدُ بِهِ هَا هُنَا الْحَدِيثُ الَّذِي قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فيه : «إِنَّ اللَّهَ لَيَطَّلِعُ فِي لَيْلَةِ النِّصْفِ مِنْ شَعْبَانَ، فَيَغْفِرُ لِجَمِيعِ خَلْقِهِ، إِلَّا لِمُشْرِكٍ أَوْ مُشَاحِنٍ»، يَعْنِي أَنَّ مَغْفِرَةَ اللَّهِ تَعَالَى فِي شَهْرِ شَعْبَانَ الْمُبَارَكِ شَامِلَةٌ لِكُلِّ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ، إِلَّا مَنْ كَانَتْ عَلَاقَتُهُ مَعَ اللَّهِ فَاسِدَةً بِالشِّرْكِ، أَوْ كَانَتْ عَلَاقَتُهُ مَعَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ فَاسِدَةً بِالْمُخَاصَمَةِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ.
المِحْوَرُ الثَّانِي: صَلَاحُ الْعَلَاقَةِ مَعَ اللَّـهِ وَفَسَادُهَا، فَصَلَاحُ الْعَلَاقَةِ مَعَ اللَّـهِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِأَدَاءِ الْعَبْدِ لِوَظِيفَتِهِ الَّتِي خُلِقَ مِنْ أَجْلِهَا، أَلَا وَهِيَ تَحْقِيقُ الْعُبُودِيَّة لِلَّهِ تَعَالَى الْخَالِقِ الْمَالِكِ الْمُدَبِّرِ، قَالَ سُبْحَانَهُ: " وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ " وَقَالَ عَزَّ مِنْ قَائِلٍ: " أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ"، وَلَكِنْ حِينَمَا يَعْتَقِدُ الْعَبْدُ بِأَنَّ فِي هَذَا الْكَوْنِ مَنْ يَتَصَرَّفُ بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ مَعَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، فَيَصْرِفُ لَهُ نَوْعًا مِنْ أَنْوَاعِ الْعِبَادَةِ كَالصَّلَاةِ أَوِ الصِّيَامِ أَوِ الدُّعَاءِ وَنَحْوِهَا فَإِنَّهُ يَكُونُ بِذَلِكَ قَدْ أَفْسَدَ الْعَلَاقَةَ مَعَ اللَّهِ بِأَنْ أَشْرَكَ مَعَهُ غَيْرَهُ، وَشَقِيَ فِي دُنْيَاهُ وَآخِرَتِهِ، إِنْ مَاتَ وَلَمْ يَتُبْ إِلَى اللَّهِ خَالِقِهِ وَرَازِقِهِ، قَالَ سُبْحَانَهُ:" إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ".
المِحْوَرُ الثَّالِثُ: صَلَاحُ الْعَلَاقَةِ مَعَ النَّاسِ وَفَسَادُهَا، فَصَلَاحُ الْعَلَاقَةِ مَعَ النَّاسِ إِنَّمَا يَتَحَقَّقُ بِتَجَنُّبِ كُلِّ أَسْبَابِ الْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَالسَّعْيِ فِي إِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَإِزَالَةِ الشَّحْنَاءِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: " لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً " ، وجاءَ في الحَدِيثِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: «أَلَا أُخْبِرُكُمْ بِأَفْضَلَ مِنْ دَرَجَةِ الصِّيَامِ وَالصَّلَاةِ وَالصَّدَقَةِ؟» قَالُواْ: بَلَى! قَالَ: «صَلَاحُ ذَاتِ الْبَيْنِ " ، وقالَ صلى الله عليه وسلم: " لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثِ لَيَالٍ، يَلْتَقِيَـــــانِ، فَيُعْرِضُ هَذَا، ويُعْرِضُ هَذَا، وخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْـــدَأُ بِالسَّـلَامِ " ، فَاتَّقُواْ اللَّهَ أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ وَأَصْلَحُواْ عَلَاقَتَكُمْ بِالْخَالِقِ وَالْإِخْوَانِ، وَاسْتَعِدُّواْ لِاسْتِقْبَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ، تَنَالُواْ الرَّحْمَةَ وَالْمَغْفِرَةَ وَالْعِتْقَ مِنَ النَّيرَانِ.
الخطبة الثانية
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ : عَنْ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ رضى الله عنه أَنَّ رَجُلَيْنِ قَدِمَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَكَانَ إِسْلَامُهُمَا جَمِيعًا، فَكَانَ أَحَدُهُمَا أَشَدَّ اجْتِهَادًا مِنَ الْآخَرِ، فَغَزَا الْمُجْتَهِدُ مِنْهُمَا فَاسْتُشْهِدَ، ثُمَّ مَكَثَ الْآخَرُ بَعْدَهُ سَنَةً، ثُمَّ تُوُفِّيَ، قَالَ طَلْحَةُ: فَرَأَيْتُ فِي الْمَنَامِ: بَيْنَا أَنَا عِنْدَ بَابِ الْجَنَّةِ، إِذَا أَنَا بِهِمَا، فَخَرَجَ خَارِجٌ مِنَ الْجَنَّةِ، فَأَذِنَ لِلَّذِي تُوُفِّيَ الْآخِرَ مِنْهُمَا، ثُمَّ خَرَجَ، فَأَذِنَ لِلَّذِي اسْتُشْهِدَ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَيَّ، فَقَالَ: ارْجِعْ، فَإِنَّكَ لَمْ يَأْنِ لَكَ بَعْدُ، فَأَصْبَحَ طَلْحَةُ يُحَدِّثُ بِهِ النَّاسَ، فَعَجِبُوا لِذَلِكَ، فَبَلَغَ ذَلِكَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحَدَّثُوهُ الْحَدِيثَ، فَقَالَ: "مِنْ أَيِّ ذَلِكَ تَعْجَبُونَ؟"، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، هَذَا كَانَ أَشَدَّ الرَّجُلَيْنِ اجْتِهَادًا، ثُمَّ اسْتُشْهِدَ، وَدَخَلَ هَذَا الْآخِرُ الْجَنَّةَ قَبْلَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "أَلَيْسَ قَدْ مَكَثَ هَذَا بَعْدَهُ سَنَةً؟ "، قَالُوا: بَلَى، قَالَ: "وَأَدْرَكَ رَمَضَانَ، فَصَامَ وَصَلَّى كَذَا وَكَذَا مِنْ سَجْدَةٍ فِي السَّنَةِ؟ " قَالُوا: بَلَى؟ ، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم " فَمَا بَيْنَهُمَا أَبْعَدُ مِمَّا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ".
اللَّهُمَّ بَلِّغْنَا رَمَضَانَ وَنَحْنُ فِي أَمْنٍ وَإيمَانٍ وَسَلَامٍ وَإِسْلَامٍ وَرَاحَةِ بَالٍ وَصِحَّةِ أَجْسَامٍ.