بائعو الوهم!
محمد ابراهيم السبر
بائعو الوهم!
الحمد لله، ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَال﴾، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ﴾، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله حقا وصدقا فليس بكاهن ولا مجنون، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيداً.
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله حق تقاته ولاتموتن إلا وأنتم مسلمون.
عباد الله، العقيدة السليمة هي أساس المجتمع المسلم، والتوحيد الخالص هو جوهر هذه العقيدة، وحماية هذه العقيدة هي أول ما يسعى اليه الإسلام في تشريعاته من خلال محاربة لوثات الجاهلية وتطهير المجتمع من شوائب الشرك وبقايا الوثنية، فقد بعث النبي ﷺ وفي المجتمع طائفة من الدجالين تعرف باسم «الكهان» أو «العرافين» الذين يدعون معرفة الغيوب الماضية أو المستقبلة عن طريق اتصالهم بالجن أو غير ذلك، وحظي هؤلاء الكهنة عند العرب قبل الإسلام بمكانة رفيعة ومؤثرة في المجتمع، فصحح النبيﷺ المسار وكشف هذا الدجل الذي لا يقوم على علم ولا هدى ولا كتاب منير ، وكان من ضمن ما أوحي إليه:﴿ قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ﴾، ﴿وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ﴾ فلا الملائكة المقربون ولا الجن ولا البشر يعلمون الغيب، بل وحتى النبي ﷺ على جلالة قدره لا يعلم الغيب:﴿قُل لَّا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ ۚ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ۚ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾؛ فمعرفة الغيب من الأمور التي استأثر الله تعالى بعلمها، واختص بها نفسه تعالى، دون من سواه من ملك مقرب أو نبي مرسل :﴿ عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا ﴾ .
الكهانة جهالة من أعمال الجاهلية التي جاء الإسلام بإبطالها وبيان زيفها وأنها من الشرك؛ لما فيها من ادعاء علم الغيب، والتعلق بغير الله تعالى، واعتقاد الضر والنفع في غيره، وتصديق الكهنة والعرافين الذين يدّعون علم الغيب زورًا وبهتانًا؛ ليغيروا عقائد الناس ويبتزوا أموالهم، وأخرج مسلم في صحيحه من حديث معاوية بن الحكم السلمي رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله! أمور كنا نصنعها في الجاهلية، كنا نأتي الكهان؟ قال:" فلا تأتوا الكُهان"، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: سأل رسولَ الله ﷺ ناسٌ عن الكهان، فقال: " ليسوا بشيءٍ"، فقالوا: يا رسول الله؛ إنهم يحدثونا أحيانًا بشيءٍ فيكون حقًا! فقال:" تلك الكلمة من الحق يخطفها الجنِّي؛ فَيُقِرُّها في أذن وليِّه، فيخلطون معها مائة كذبة".
فالكاهن والساحر باع نفسه للشيطان، فخبثت نفسه، وأظلم قلبه، يوقع الشر حيثما حل، والفرقة أينما نزل، فهم جنود للشيطان، دجالون كذابون أدعياء غششة تبرأ منهم النبي ﷺ فروى البزار بإسناد جيد عن عمران بن حصين عن رسول الله ﷺ أنه قال:" ليس منا من تطير أو تُطير له، أو تكهن أو تُكهن له، أو سحر أو سُحر له". وروى أبو داود بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي ﷺ قال:" من اقتبس علمًا من النجوم؛ اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد".
ومن هؤلاء الكهان قارئُ الكف والفنجال والذي يخطُّ في الرمل، ومن يدعي قدرته على قراءة الأفكار، أو على معرفةِ ماضي الشخص ومستقبلهِ بالنظر في صورته أو توقيعهِ أو خطّهِ ونحو ذلك فكلهم يخوضون في ادعاء الغيب، ولا يعلم الغيب إلا الله.
ومما يدخل في هذا الباب الاعتقادُ في أبراج الحظ والنجوم ومطالعتُها ومتابعةُ برامِجها ليعرفَ سيصادفُه في مستقبله من نجاح وفشل، وسعادة وشقاء وغنى وفقر!
وقد زجر النبي ﷺ عن إتيان الكهان أيّما زجر؛ فقال:" من أتى عرَّافًا فسأله عن شيءٍ؛ لم تقبل له صلاة أربعين ليلة" أخرجه مسلم. أي أنه لا ثواب له فيها، وإن كانت مجزئة في سقوط الفرض عنه، ولا يحتاج معها إلى إعادة. (شرح النووي).
فلا يجوز للمسلم أن يأتي الكهنة والعرافين، أو يستمع إليهم، ولو لم يصدقهم فيما يدعونه من علم الغيب، أما إن صدقهم بما يقولون؛ فقد كفر بما أنزل على محمد ﷺ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنهما، عنِ النَّبِيِّ ﷺ قَالَ: " مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ عَرَّافًا، فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ". رواه الإمام أحمد.
قال العلماء:" إنما نهي عن إتيان الكهان؛ لأنهم يتكلمون في مُغَيَّبات قد يصادف بعضها الإصابة، فيخاف الفتنة على الإنسان بسبب ذلك؛ لأنهم يلبسون على الناس كثيرًا من أمر الشرائع، وقد تظاهرت الأحاديث الصحيحة بالنهي عن إتيان الكهان وتصديقهم" (شرح النووي).
وقال الشيخ ابن باز رحمه الله:" السؤال المجرد لا يجوز لأنه وسيلة إلى التصديق، ولأن في سؤالهم إظهارًا لشأنهم وتعظيما لقدرهم وإظهارا لأمرهم بين الناس. لهذا لما سئل رسول الله ﷺ عن الكهان قال: ليسوا بشيء، وقال: لا تأتوهم. أي لا يأتون، ولا يسألون احتقارًا لهم، وإعراضًا عنهم، وإماتة لشأنهم ".
والكهنة يزداد ضررهم ويطير شررهم مع الوسائل الحديثة؛ فلهم معرفات وقنوات، بأسماء ودعاوى تروج على العامة؛ كالشيخ الروحاني، أو جلب الحبيب وغيرها، فافتتن الجهال بهم؛ بل وساهموا في الترويج لهم وهم لا يشعرون.
فعلى المسلم أن يبتعد عن هذه المواطن والمواقع، ويعرض عنها، مع السعي في إبلاغ جهات الاختصاص عن هؤلاء الكهنة والعرافين بكل وسيلة ممكنة.
والنصيحة لكل من يتعلق بهذه الأمور أن يتوب إلى الله ويستغفره، وأن يعتمد على الله وحده ويتوكل عليه في كل الأمور، مع أخذه بالأسباب الشرعية والحسية المباحة، وأن يدع هذه الأمور الجاهلية ويبتعد عنها، ويحذر سؤال أهلها أو تصديقهم؛ طاعةً لله ولرسوله ﷺ وحفاظًا على دينه وعقيدته.
وإذا أشكل على العبد أمر من أمور دنياه في زواج أو تجارة فعليه أن يستخير الله تعالى؛ كما ندب إلى ذلك النبي ﷺ، وما ينشرح له صدره بعد الاستخارة فهو الخير، وليفعله.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله العظيم لي ولكم؛ فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله وكفى، وسمع الله لمن دعا، وبعد، فاتقوا الله عباد الله، وأحسنوا توكلكم على ربكم، وقووا إيمانكم، وبددوا بنور العلم ظلام الخرافة، وركام الضلالة، وسحب الأوهام، ولا يخدعنكم الشيطان بالتيه في سراديب بائعي الوهم ومحترفي الدجل من الكهنة والعرافين؛ واتخذوا رب المشرق والمغرب وكيلاً تلجؤون إليه آناء الليل وأطراف النهار.
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ، اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.