اهدنا الصراط المستقيم

سليمان بن خالد الحربي
1445/11/12 - 2024/05/20 17:11PM

الخطبة الأولى:
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، مَن يَهْدِه اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه، ومن سار على نهجه، واقتفى أثره، إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

أمَّا بَعْدُ:

فأوصيكم ونفسي بتقوى الله -جَلَّ وَعلا-{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا} [الأحزاب:70].

مَعْشرَ الإخوةِ: إن ضلالَ الإنسان وغوايته وفجوره واستكباره ليس له حَدٌّ ولا منتهى، وإن هداية الإنسان واستقامته على دين الله هي أعزُّ وأغلى هبة وفضل؛ ولهذا فلا عجب ولا غرابة حينما توحد الدعاء بأعظم سورة في القرآن بسؤال الهداية؛ {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، سورةٌ عظيمةٌ فرضها الله في كل ركعة من الصلاة، هذه السورة انقسمت إلى قسمين فقط: تعظيم الله وتمجيده وحقه في العبادة، ثم سؤال الهداية.

 هكذا قال الله تعالى في الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه، عن أبي هريرة، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: «قَالَ اللَّهُ تَعَالَى قَسَمْتُ الصَّلاةَ بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْنِ فَنِصْفُهَا لِي وَنِصْفُهَا لِعَبْدِي، وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ الْعَبْدُ: {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالمينَ}، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: حَمِدَنِي عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ} قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: أَثْنَى عَلَيَّ عَبْدِي، وَإِذَا قَالَ: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}، قَالَ: مَجَّدَنِي عَبْدِي -وَقَالَ مَرَّةً فَوَّضَ إِلَيَّ عَبْدِي- فَإِذَا قَالَ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قَالَ: هَذَا بَيْنِي وَبَيْنَ عَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ، فَإِذَا قَالَ: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المسْتَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ}، قَالَ: هَذَا لِعَبْدِي وَلِعَبْدِي مَا سَأَلَ»([1]).

لنسأل أنفسنا سؤال صدقٍ، ماذا نستشعر حينما نقول هذا الدعاء المتكرر في كل صلاة {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المسْتَقِيمَ}؟ هل نستشعر حاجتنا للهداية أم نستشعر أننا اهتدينا؟ وهل سألتَ نفسك ما حقيقة الهداية إلى الصراط المستقيم الذي يقع في نفسك وقت السؤال بهذا الدعاء؟ لا بد وأنك تسأل نفسكَ ما هو السببُ في اختياره من بين الأدعية التي يجب تكراراها في اليوم سبع عشرة مرة على الأقل، وفي ست مرات يجهر الإمام به في الصلاة، ونُؤَمِّنُ عليه جميعًا؟

قال السعدي: (وهو معرفةُ الحق والعمل به، فاهدنا إلى الصراط واهدنا في الصراط. فالهدايةُ إلى الصراط: لزومُ دين الإسلام، وترك ما سواه من الأديان، والهداية في الصراط، تشمل الهدايةَ لجميع التفاصيل الدينية علما وعملًا، فهذا الدعاء من أجمع الأدعية وأنفعها للعبد ولهذا وجب على الإنسان أن يدعو الله به في كل ركعة من صلاته، لضرورته إلى ذلك)([2]).

إذن الإنسان في كل أحواله وأوقاته بأمسِّ الحاجة إلى هذا الدعاء وذلك لأنه في كل لحظاته بين أمر ونهي، فهو بحاجة إلى ربه في معرفة المأمور، وبحاجة إلى ربه في فعله، وبحاجة إلى ربه في معرفة المنهي، وبحاجة إليه أيضا في ترك النهي واجتنابه، ولهذا تأملوا ما جاء في صحيح مسلم من حديث عَنْ عَلِيٍّ قَالَ: قَالَ لِي رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «قُلِ اللَّهُمَّ اهْدِنِي وَسَدِّدْنِي وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ، وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ»([3]).

قال النووي–رحمه الله-: (وَمَعْنَى: «اُذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتك الطَّرِيق وَالسَّدَاد سَدَاد السَّهْم»؛ أَيْ: تَذَكَّر فِي حَال دُعَائِك بِهَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ، لِأَنَّ هَادِي الطَّرِيق لَا يَزِيغ عَنْهُ، وَمُسَدَّد السَّهْم يَحْرِص عَلَى تَقْوِيمه، وَلَا يَسْتَقِيم رَمْيه حَتَّى يُقَوِّمهُ، وَكَذَا الدَّاعِي يَنْبَغِي أَنْ يَحْرِص عَلَى تَسْدِيد عِلمه وَتَقْوِيمه، وَلُزُومه السُّنَّة، وَقِيلَ: لِيَتَذَكَّر بِهَذَا لَفْظ السَّدَاد وَالْهُدَى لِئَلَّا يَنْسَاهُ)([4]).

وقال ابن الجوزي -رحمه الله-: (المعنى أن سالك الطريق إنما يَؤُمُّ سَمْتَ الطريق ولا يفارق الجَادَّةَ، فالمراد أخطر بقلبك هدايةَ الطريق، وسل الله الهدى والاستقامة، كما تتحراه في هداية الطريق، وكذلك الرامي يسدد نحو الغرض، فأخطر هذا المعنى بقلبك حين تسأل الله السداد ليكون ما تنويه من ذلك على شاكلة ما تستعمله من الرمي)([5]).

 فالله المستعان، كم نكرر هذا الدعاء المرة تلو الأخرى ونحن لا نستشعر سداد الطريق وهدايته! بل ولا حول ولا قوة إلا بالله، البعض قد يظن أنه تجاوز هذه المرحلة، وأنه في عِداد المنافسين على المنازل العلية في الجنة.

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا} [الفتح:1 - 3].

بَاركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونَفَعني وإياكُم بما فيه من الآياتِ والذِّكر الحكيم، أقولُ ما سَمِعْتُم، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائِرِ المسلمين من كل ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستغفروه، وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.


الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله تعظيمًا لشانه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى جنته ورضوانه، صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وأعوانه.

أمَّا بَعْدُ:

مَعْشرَ الإخوةِ: والعَجَبُ لا يتوقف عند الدعاء بهذا الدعاء عند الفاتحة، بل انظر إلينا ونحن في كل وتر ندعو بهذا الدعاء، الذي علمه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- للحسن، وهو أن يقول: «اللَّهُمَّ اهْدِنَا فِيمَنْ هَدَيْتَ»([6]).

 وقد استحب الأئمة الأربعة هذا الدعاءَ في الوتر ليذكرنا بهذه الحاجة؛ حاجة الهداية، ولو عَرَفَ الداعي قدر هذا السؤال لجعله هجيرًا وقرنه بأنفاسه؛ فإنه لم يَدَعْ شيئًا من خير الدنيا والآخرة إلا تضمنه.

فحصول الهداية أهم من حصول الرزق والنصر وغيره من المحبوبات الدنيوية، قال ابن تيمية: (إن حَاجَة الْعباد إِلَى الْهداية أعظمُ من حَاجتهم إِلَى الرزق، بل لَا نِسْبَة بَينهمَا، فَلِهَذَا كَانَ هَذَا الدُّعَاء هُوَ المفْرُوض عَلَيْهِم، وَأَيْضًا فَإِن الدُّعَاء يتَضَمَّن الرزق والنصر؛ لِأَنَّهُ إِذا هُدِيَ الصِّرَاط المسْتَقيم كَانَ من المتَّقِينَ، {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ}[الطلاق:2، 3]، وَكَانَ مِمَّن ينصر الله وَرَسُوله، وَمن نصر الله نَصره، وَكَانَ من جند الله، وجند الله هم الغالبون، فالهدى التَّام يتَضَمَّن حُصُول أعظم مَا يحصل بِهِ الرزق والنصر)([7]).

 فدعوة إلى إيقاظ ضمائرنا حين قولنا في صلاتنا: {اهْدِنَا الصِّرَاطَ المسْتَقِيمَ} [الفاتحة:6]، أن نستشعر ونحن في طريقنا إلى الله هداية الطريق وسَدَاد الجَادَّة، {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} [الانشقاق:6].

 وهذا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يدعو في صلاته ويستفتح صلاة الليل بسؤال الهداية، كما جاء في صحيح مسلم، عن أَبي سَلمةَ بْن عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ قَالَ: سَأَلْتُ عَائِشَةَ أُمَّ المؤْمِنِينَ بِأَيِّ شَيْءٍ كَانَ نَبِيُّ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَفْتَتِحُ صَلَاتَهُ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ؟ قَالَتْ: كَانَ إِذَا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ افْتَتَحَ صَلَاتَهُ: «اللَّهُمَّ رَبَّ جِبْرَائِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالم الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ، اهْدِنِي لما اخْتُلِفَ فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِكَ إِنَّكَ تَهْدِي مَنْ تَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ»([8]).

فاللهم اهدنا فيمن هديتَ، وعافنا فيمن عافيتَ.

 



([1]) أخرجه مسلم (1/296، رقم 395).
([2]) تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان (1/39).
([3]) أخرجه مسلم (4/2090، رقم 2725).
([4]) المنهاج شرح صحيح مسلم (17/43-44).
([5]) كشف المشكل (1/148) لابن الجوزي.
([6]) أخرجه ابن حبان (2/498، رقم 722).
([7]) مجموع فتاوى ابن تيمية (22/402).
([8]) أخرجه مسلم (1/534، رقم 770).

المرفقات

1716214305_اهدنا الصراط المستقيم.docx

المشاهدات 799 | التعليقات 0