انحراف الفطرة –صوره وعلاجه-.
أ.د عبدالله الطيار
إنّ الحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ). أما بعد:
فاتقوا اللهَ عباد الله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ}[آلِ عِمْرَانَ: 102]، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا}[النِّسَاءِ: 1].
أيها المؤمنون: ذكرتُ في خطبة ماضية أنَّ الإسلامَ دينُ الفطرة، وأنَّ النفسَ البشريةَ مفطورةٌ على التوحيد، وأنّ الفطرةَ السليمةَ النَّقيةَ التي جُبِلَ عليها الإنسانُ، المقرّةَ بالتوحيدِ، القابلةَ لكلّ خيرٍ، والمبغضةَ لكلِّ شرٍّ، تألفُ الطيباتِ، وتأنفُ الخبائثَ والمنكراتِ، قال تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّه}[الروم: 30] وقال ﷺ: (كلُّ مولودٍ يُولَدُ على الفِطرةِ) أخرجه مطولاً البخاري (١٣٨٥) واللفظ له، ومسلم (٢٦٥٨).
عباد الله: ولمَّا اجتالتْ الشياطينُ بني آدمَ، وتعهَّدتْ بإغوائِهِم وإخراجِهِم عن الفطرةِ التي فَطَرَهم اللهُ عز وجل عليها، كما قال تعالى: {وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا} النساء (119).
فتوعّدَ إبليسُ وأعوانُه بني آدمَ بتغييرِ فطرةِ الروحِ، وهي التوحيدُ، وفطرةِ الصورةِ والجسدِ، فانحرفتْ الفِطرةُ لدى كثيرٍ من الناسِ، ومِنْ صورِ انحرافِ الفطرةِ ما يلي:
الصورةُ الأولى: ظاهرةُ الإلحادِ، وهي من الظواهرِ المقيتةِ التي تلوحُ في بعضِ بلادِ المسلمين، وتُنذِرُ بخطرٍ عظيمٍ، وتدلُّ على خرقٍ جسيمٍ في سفينةِ التربيةِ الأسريةِ، وهو خنجرٌ مسمومٌ طُعنتْ به أمَّةُ الإسلامِ بهدفِ استنزافِ قوَّةِ المجتمعِ المسلمِ، وَتَفْتِيتِ جَسَدِهِ، وهو مخططٌ عدائيٌ لا يجهلُهُ إلا جاهلٌ، ولا يغفلُ عنهُ إلا مُغَيَّبٌ غافلٌ.
ومصطلحُ الإلحادِ من المصطلحاتِ التي فيها عبثٌ، وتَمَّ توجيهُهَا بمكرٍ رهيبٍ إلى صدور الشبابِ والفتياتِ من المسلمينَ عَبْرَ وسائِلِ الاتصالِ الاجتماعيِّ في حينِ غفلةٍ من الأُسرةِ، وغيابٍ من المجتمعِ، فأصابتْ كَبِدَ هذا النشءِ، فعكّرتْ صَفْوَ حياتِهِ، وَزَرَعَتْ الشكَّ والوساوسَ في قلبِهِ، وَنَتَجَ عنهُ فُقْدَانُ أعزِّ ما يملكُ هذا الشابُّ، وهو إيمانُهُ بخالقِهِ عزّ وجلّ، فانتكستْ فطرتُهُ، وانحرفت} عقيدتُه.
وإنَّ القلبَ ليعتصرُ ألَمًا حينما يرى شبابًا في عُمْرِ الزُّهُورِ في بعض بلاد المسلمينَ قد سلكوا هذا الطريقَ، واتَّبعوا كلَّ ناعقٍ، بل نَشِطُوا في دعوةِ غيرِهِمْ إلى الإلحادِ!
أيُّهَا المؤمنونَ: وَمِنْ صورِ انحرافِ الفطرةِ:
الصورةُ الثانيةُ: فاحشةُ قومِ لوطٍ. وهي مِنْ أَبْشَعِ الْأَعْمَالِ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى انْتِكَاسِ الْفِطْرَةِ، وَمُخَالَفَةِ الشَّرِيعَةِ؛ ظهرت أول ما ظهرت في قوم لوط، وَكَانَتْ نِهَايَتُهُمْ أَلِيمَةً؛ إِذْ قَلَبَ اللَّهُ دِيَارَهُمْ عَلَيْهِمْ؛ جَزَاءً لِانْقِلَابِهِمْ عَلَى الْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ، وَالشَّرِيعَةِ الرَّبَّانِيَّةِ، وَاشْتِهَاءِ الذُّكْرَانِ دُونَ الْإِنَاثِ؛ قال سبحانه{فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ}[هُودٍ: 82-83].
قَالَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ: "لَوْلَا أَنَّ اللَّهَ ذَكَرَ قَوْمَ لُوطٍ فِي الْقُرْآنِ مَا ظَنَنْتُ أَنَّ أَحَدًا يَفْعَلُ هَذَا".
وهذه الفاحشةُ خروجٌ عن الفطرةِ، تأباها النفوسُ النقيةُ، وتأنفُها الطباعُ السويَّةُ، لَا يُقْدِمُ عَلَى ارتكابها إِلَّا مَنْ جَهِلَ مِقْدَارَ نَفْسِهِ، وَتَكْرِيمَ اللَّه لَهُ، وَجَهِلَ قُبْحَ مَا يَأْتِي، وَإِلَّا، فَمِنْ كَرَامَةِ الْإِنْسَانِ لِنَفْسِهِ أَنْ يَصُونَهَا عَنِ الْفَوَاحِشِ كُلِّهَا، فَكَيْفَ يَأْتِي أَشْنَعَهَا وَأَقْبَحَهَا وَأَقْذَرَهَا، وَأَشَدَّهَا مُخَالَفَةً لِلْفِطْرَةِ السَّوِيَّةِ.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ }[النَّمْلِ: 54-55].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، ونفعني وإيَّاكم بما فيهِ من الآياتِ والعظاتِ والذكْرِ الحكيمِ، فاستغفروا اللهَ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ، والصلاةُ والسلامُ على الرسولِ الكريمِ محمدِ بنِ عبدِ اللهِ النبيِّ الأمينِ، صلى اللهُ عليه وعلى آلهِ وصحبِه أجمعين. أما بعدُ:
أيها المؤمنون: ومن صور انتكاس الفطرة:
الصورة الثالثة: إدمانُ المخدرات، وتعاطي الخبائث والمنكراتِ، فاللهُ عزّ وجلّ شَرَعَ لعبادهِ الطيباتِ، وحرّم عليهم الخبائثَ والمنكراتِ، قال تعالى: (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ) الأعراف (157)، والمخدرات أمُّ الخبائثِ، ورأسُ المنكراتِ، وبابُ كلِّ شرٍّ، عواقبُها وخيمةٌ، ونتائجُها أليمةٌ، هدفُها هدمُ الإسلامِ، وقتلُ الأنفسِ وهتكُ الأعراضِ، وإهدارُ الأموالِ، وتدميرُ العُقولِ، ضحاياهَا أعزُّ ما تملكُه الأمةُ من الشبابِ والفتياتِ.
عبادَ اللهِ: ومن صورِ انحرافِ الفطرةِ:
الصورةُ الرّابعةُ: قتلُ النفسِ، أو الانتحار. وهو نتاجٌ لليأسِ والقنوطِ الذي يبثُّهُ الشيطانُ في قلبِ المرءِ، قال تعالى: {وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا}
[النساء: 29، 30].
والنفسُ البشريةُ مجبولةٌ على اللجوءِ إلى خالِقَهَا سبحانه في الشّدَائِدِ، والتَّعَلُّقِ بهِ سبحانَهُ في الملماتِ والمصائِبِ، ولقد صوّر القرآن الكريم هذا المعنى تصويرًا بليغًا، قال تعالى: {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إلا إِيَّاهُ} الإسراء (67)؛ لأنَّ الأصلَ في الإنسانِ الخوفُ على نفسِهِ مِنَ الْهَلاكِ، وصيانتُها عن أسبابِ الضَّرَرِ والأذى.
أيُّهَا المؤمنونَ: وَمِنْ صورِ انحرافِ الفطرةِ:
الصورةُ الخامسةُ: الميوعةُ لدَى الرجالِ، وَتَرَجُّلُ النساءِ، وهيَ من الظواهرِ التي فَشَتْ في كثيرٍ من المجتمعاتِ الإسلاميةِ، وصدّرَها الغربُ لأبناءِ المسلمينَ على أنَّهَا رُقِيٌّ حضاريّ، وعلامةٌ على التطورِ.
أَخْرَجَ البخاريُّ في صحيحِهِ عن عبدالله بن عباسٍ رضي الله عنهما أنه قال: (لَعَنَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ المُتَشَبِّهِينَ مِنَ الرِّجالِ بالنِّساءِ، والمُتَشَبِّهاتِ مِنَ النِّساءِ بالرِّجالِ) أخرجه البخاري (٥٨٨٥).
عبادَ اللهِ: هذه صورٌ لانحرافِ الفطرةِ، جميعُهَا تَدُلُّ على خرقٍ أسري، وخللٍ تربوي، وصافرةُ إنذارٍ للمجتمعِ؛ ليبادرَ في إيجادِ الحلولِ لهذهِ الانحرافاتِ، وعلاجِهَا، وتصحيحِ مسارِ الفطرةِ في نفوسِ هؤلاءِ الشبابِ، وذلك عن طريقِ ما يلي:
أولًا: رَبْطُ النشءِ بالوحيِ قرآنًا وسنَّةً، وتَنْشِئَتُهُمْ تَنْشِئَةً دينيةً عقديةً تكونُ عونًا لهمْ بعدَ ذلكَ على حوادثِ الدهر، وفتنِ العصر.
ثانيًا: قيامُ الوالدينِ بواجبِ التربيةِ الذي أناطَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بِهِمْ.
ثالثًا: تقنينُ استخدامِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيِ، والرقابةُ عليها، فهي وبالٌ على الشبابِ متى ما أساؤوا استخدامَها.
أسألُ اللهَ عزّ وجلّ أنْ يحفظَ أبناءَ المسلمينَ وبناتِهِمْ، وأنْ يجنبهم الفتنَ ما ظَهَرَ منها وما بطن.
هذا وصلُّوا وسلِّموا على الحبيبِ المصطفى فقد أَمَرَكم اللهُ بذلكَ فقالَ جلَّ من قائلٍ عليماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}[الأحزاب:56]. الجمعة: 6-2-1444هـ